في روايته الرابعة يحدثنا الروائي السوري "منصور المنصور" عن بيئة المهاجرين الشرقيين "سوريين أو عراقيين" وإشكالية الاندماج بمجتمعات غربية "السويد نموذجاً"، مجتمعاتٌ بعيدةٌ كل البعد عن طبيعة مجتمعاتنا الشرقية، لنتخيل ذلك البون الشاسع بين بيئةٍ شاميةٍ محافظة، وبيئةٍ سويديةٍ بلغت حدها الأعلى، من انغماسها بثقافةٍ حديثةٍ ومختلفةٍ بشكلٍ حاد.
في سجنه الذي يدخله بتهمة القتل، حيث يحمل معه همومه وعناءه وإحساسه بالظلم، حيال جريمة لم يقترفها، فيغدو معتلاً نفسياً، يتعاقب عليه الأطباء المعالجون، بينما يتلقى معاملةً سجنيةً هي أقرب ما تكون إلى معاملة المشافي الأوروبية، هو تماماً نموذجٌ للمهاجر الذي فر من المقتلة السورية ويحمل معه جريمتها، وربما سيبقى مصلوباً إلى عارضتها يحملها معه إلى زمن غير منظور، هكذا يحدثنا "ماهر" الشاب الدمشقي الأصل السويدي المولد، بطل الرواية بضمير المتكلم أو بشخصية الراوي عن تجربته الشخصية.
مع عظم شأن التهمة التي سجن بسببها، يبقى موضع اهتمام سجانيه الذين يسدون إليه النصيحة الودودة: "أنت أشبه بالسفينة التي بدأت تترنح تحت حمل غير قادرة على حمله ومتابعة الرحلة. على الربان أن يتخذ قرارا إما برمي الأحمال في عرض البحر ومتابعة الرحلة أو الغرق. حملك الثقيل هو قصصك التي تؤلمك، كل تجاربك منذ الطفولة وحتى الآن. حياتك بكل ما فيها من أفراح وأحزان. يجب أن تتكلم عن كل شيء يخطر على بالك، أن تطرح كل ما يؤلمك إلى خارجك. وبما أنه لا مجال للكلام، لا يوجد إنسان تتحدث إليه، عليك أن تكتب. ارمِ كل ما يؤلمك، كل تجاربك الحزينة على الورق. تحدث عن كل شيء يخطر على بالك".
هذا الكلام لا يصدر إلّا عن تجربة سجنية عميقة، فقد كنا في سجن صيدنايا "الذي عاش فيه كاتبنا شطراً من عمره" نهرب إلى عالم الرواية كفضاء موازٍ للحرية، وكنا نسميه "فن الاستشفاء بالرواية"، وهذا يذكرنا بذات الطريقة التي اعتمدها "علي عزت بيكوفيتش" الرئيس البوسني الأسبق في معتقله، حين كان يعكف على الكتابة اليومية ليتجاوز بروحه أسوار السجن، والتي جمعها في كتابه "هروبي إلى الحرية"
في الأسطر الأولى يحدثنا بطل الرواية "ماهر" عن تجربته في سجنه السويدي، ومحتويات غرفته الأسطورية إن هي قورنت بالسجون في سوريا، من تلفاز وطاولة وغيرها من أدوات الحياة الفردية البسيطة، يحيلنا النص في ظله الغائب أو فيما لم يقله، إلى تلك السجون السورية التي لا تعدُّ الحياة فيها حياتاً أصلاً.
يعنون منصور فصول روايته بورقة أولى وورقة ثانية وهكذا، وهو الذي عاش شطرا من الدهر في سجنه السوري يتنقل وتتقلب حياته وفق إيقاع ورقاتٍ تصدر عن حجراتٍ خفيةٍ، في أفرع أمنيةٍ لا نسطيع لها عدّاً، فهذه ورقة التقرير وورقة الاتهام، وورقة الاستدعاء وورقة الأمر بالاعتقال، وورقة التحقيق وورقة الإدانة، وورقة النقل إلى السجن وورقة العفو الكريم الذي سيخرج بموجبه من السجن، وستتلوها أوراق لا حصر لها للتبليغ والتوقيع والاستدعاء والإقرار، وهكذا تمضي حياتنا كمعتقلين، متقلبةً بين الأوراق التي تخبطنا خبط عشواء، ورقةٌ قد تفضي بنا إلى أعواد المشانق، وورقةٌ أخرى قد تحمل الخلاص.
تركز الرواية وبأسلوب سلسٍ ومنسجمٍ مع السياق على إشكالية الاندماج المعقدة في المجتمعات الجديدة
كما جرت العادة في العديد من أعمال وروايات السوريين والعراقيين المهاجرين، تركز الرواية وبأسلوب سلسٍ ومنسجمٍ مع السياق، على إشكالية الاندماج المعقدة، في المجتمعات الجديدة، وتطرح التباين الحاد في سرعة التكيف والاندماج، بين المهاجرين الأوائل الذين يصرون على التمسك بأدق التفاصيل التي نشؤوا عليها، وبين أبنائهم المولودين في بلاد المهجر أو الذين هاجروا وهم صغار، الذين يبدون مرونة أعلى في التكيف واكتساب أدوات الاندماج كونه شرطاً أساسيا للتعافي من الماضي المأساوي والبدء بحياة جديدة، لكن وحسب الوقائع فإن هذا مطلب يضارع المستحيل، فمهما حاول المهاجرون فإنهم يحملون حجراتهم وشوارع مدنهم وأحيائهم وعاداتها وروائحها في صدورهم، انظر إن شئت إلى مطابخهم ومطاعمهم التي ينقلونها أبداً معهم، هي وحدها دون مطابخ ومطاعم الدنيا، التي شاركتهم الطفولة والشباب والكهولة، شاركتهم الأعياد والأعراس والمآتم والرحلات والصباحات والأماسي، ولن يكون هناك متسع من الوقت لرمي تلك الحمولة الصعبة التي امتزجت بأدق تفاصيلهم، لتحل محلها بدائل من وطنهم الجديد، الذي لن يصبح وطنهم أبداً، وسيصبحون سوريين يحملون جنسية سويدية أو ألمانية، أو سويديين أو ألماناً من أصلٍ سوري.
.."هذه كذبة يمارسها الإعلام ونمارسها نحن أيضا. نحن كما أهلنا، يمضون حياتهم هنا في شقق للإيجار ويبنون بيوتاً هناك، في العراق أو سوريا، في الموطن الأصلي. قد يموتون ويدفنون هنا ولا يسكنون في ذلك البيت الذي بنوه. ثم يأتي الجيل الثاني، ويذهب إلى هناك، بناء على وصية الأهل، يجد البيت قد تخرب بسبب الإهمال، يصلحونه ويسكنون فيه لأيام فقط. لا يتحملون الإقامة في وطنهم الأصلي، لأنهم اعتادوا على حياة وثقافة أخرى. يشعرون أنهم غرباء في بلدهم، فيضطرون للعودة إلى بلد المهجر بعد أن يبيعوا ذلك البيت الذي بناه الأهل. نحن لسنا عربا ولا مسلمين ولا سويديين. نحن جهل التعساء، هل سمعت عن جهل التعساء؟".
تتحدث الرواية عن التداعيات الكارثية لبقاء المهاجرين، في غيتو يصنعونه طوعاً أو كرهاً، طمعا بحماية المجموعة التي يشكلون جزءاً منها، أو لتجنب خطاب الكراهية والشعور بالازدراء الذي طالما يبديه بعض السكان الأصليين، هذه التجمعات المغلقة التي تنشأ هناك، تحمل بداخلها بيئة رطبة مظلمة، هي مهدٌ للجريمة وتجارة المخدرات والدعارة وتحكم الزعران، وهنا يدور الحديث حول صراعٍ على السيادة في تلك البيئة السويدية الخاصة بالمهاجرين، بين عصبةٍ متسلطةٍ عدوانية، تمارس الجريمة وتجارة الممنوعات، وتهيمن على الشارع وقاطنيه، والتي استطاعت تنحية حضور الأمن وعناصر البوليس، فغدت مسرحاً للصراع على النفوذ، الذي يعني سلطة مهيمنة وكسباً مالياً غير مشروع، وبين سلطة دينية تتخذ من المسجد وتعاليمه، وتمسكها بالفضيلة وبهويتها حصناً يعصمها من الذوبان في مجتمعاتٍ غريبةٍ عنهم، وبما أنَّ الحسم اللازم للفوز يقتضي استخداماً مفرطاً للقوة، لا يمكن أن تسمح به السلطات السويدية، فقد تواطأ الطرفان على حلٍ وسط يحفظ ماء الوجه ويكفل مصالح الطرفين، وهو تحول أصحاب العضلات المفتولة من تجارة الدعارة والمخدرات إلى تجارة المواد الغذائية وما يقاربها، بينما يتكفل الطرف المقابل بتبييض أموالهم وإدماجهم في الدورة الطبيعية للمال والمصالح.
يبقى جيل الآباء مستقراً طالما هو متمسكٌ ببقايا بيئته وثقافته، التي لا يستطيع عنها فكاكاً، بينما يعاني الأبناء والشباب هناك في سعيهم للانتقال من ثقافة إلى أخرى، أو في طور محاولة الجمع بينهما، وهو أقرب ما يكون إلى المحال، حيث يتحولون إلى بنية تكوينية مختلفة وغرائبية، ربما يخيل إلينا ونحن ننظر إليها في طورٍ من الأطوار، أننا ننظر إلى جواد برجلي نعامة ورقبة جمل، يحدث هذا بمستويات متباينة ويخلف في النفس والذاكرة ندوباً عميقةً وعقابيل مؤلمة.
يمضي بك ماهر في قصته بين ذكرياته التي يثابر على كتابتها كل يوم، وكأنه يعاند بها استلاب حريته وغده الغامض وتهمته المخيفة "جريمة قتل"، وينتهي في ختام الرواية وهو معلق بين الاحتمالات، كونه لم يحصل على البراءة بعد، وهو بهذا يحاكي حالة الملايين من المهاجرين السوريين، والعراقيين واليمنيين والليبيين، الذين استقروا بشكلٍ قلقٍ في بلدان شتى، دون أن تحسم قضايا لجوئهم أو إقاماتهم، وها هي الدانمارك اليوم تعيد بعضاً منهم جبراً إلى سوريا مع ما يكتنف هذه الإعادة القسرية من خطر كبير، ولا ندري من سيحذو حذوها غداً، فاليمين الصاعد والمعارضات التي تتبنى مواقف عنصرية في بعض البلاد، تتخذ من المهاجرين مشجباً لأزماتها، ومادةً لصراعاتها، الأمر الذي يلقي بمزيد من السخام الأسود على مستقبل أولئك المهاجرين.
منصور المنصور معتقل سياسي سوري أمضى سبع سنوات في سجون نظام الأسد الأب وخرج ليحترف الرواية، وأنت تتابع جمله وعباراته المنحوتة بعناية، وكيف ينتقل بك ببراعة بين التفاصيل الدقيقة، تشعر أنك تتابع روائيا محترفا يتقن التقاط التفاصيل دون إطالة، ليكمل بناء عوالمه على نحوٍ أمثل.
وكما أنك لا تستطيع عبور الهاوية بقفزتين، فإنك لن تستطيع قراءة هذه الرواية على دفعتين، وأنت تمضي في منعرجات الحي الشرقي، يتملكك الانغماس بعوالمها، ولا ينتابك التشتت أو الإحساس بالفراغ أو بفقد الاتصال، فهي تسير بك كما تفعل حكايات الأمهات، ببساطةٍ وغنى، وتناسقٍ منسجم، وما إن تبدأ بصفحاتها الأولى حتى تقيد كلتا يديك إلى سرج جواد يعدو، ولا يعتقك من إساره إلّا حين يسقطك في الصفحة الأخيرة.