مع تعقيد الحياة اليومية وسيل المعلومات المغرق، الذي نحتاج شطراً منه وندمن شطراً آخر، كظاهرة من ظواهر الثقافة السائلة، وربما نستطيع تسميتها الثقافة الرغوية، التي لا تترك أثراً يذكر في حياة متابعها، سوى جعله نهبة لموجات لا تنتهي من مفرزات التفاهة.
فأخبار البلاد التي تهمنا وحالات الحرب الدائرة هنا وهناك، وقرارات دولية قد تفضي لإبادة شعب هنا وتجويع شعب هناك، وتعريض شعوب أخرى لمجاعات وأزمات لا تنتهي، كل هذا متجاور وبالوسيلة ذاتها مع أخبار فضائحية وشخصية وسرية عن عالم الفن والفنانين، والرد والردح عليها "وربما تكون القصة برمتها من اختراع صحافة صفراء لا أكثر"، وأنباء عن آخر ما توصل إليه العلم من إعادة تفسير للعالم ونشأته، وتنبؤات منجمة هنا ومنجم هناك لما سيحصل من كوارث وانهيارات في بقعة معينة في عامنا هذا، وليس ببعيد عنا ذلك المتنبئ الهولندي "فرانك هوغربيتس"، الذي وصف نفسه بأنه خبير في الزلازل والذي بقي لأشهر وهو يرعبنا ويخبرنا عن زلزال سيدمر شطراً من حياة البشر في بقعة معينة ويحدد شدته بدقة متناهية.
إن الطلاب الجامعيين ينظرون إلى هواتفهم 116 مرة في اليوم بالمتوسط.
كل ما سبق وأضغاف أضعافه ينهال علينا يوميا وعلى مدارات الثواني المتعاقبة، عبر الفضائيات وشاشات الكمبيوتر وأجهزة الموبايلات، التي لا تكاد تنزلق من أيدينا، فما إن تتسلل إلينا اليقظة الكسلى حتى نجد أصابعنا وهي تفتش عن الجهاز الذي سقط من يدنا ونحن نقاوم النوم، جرياً وراء آخر الأخبار والقصص المثيرة، وبحسب دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا فإن الطلاب الجامعيين ينظرون إلى هواتفهم 116 مرة في اليوم بالمتوسط.
وكما في السياسة والفتاوى الدينية والأخبار الفنية والإرشادات الصحية والغذائية والتوصيات الطبية، ونصائح التربية والعلاقات وإدارة الموارد وسبل الربح السهل لآلاف الدولارات عبر جهاز الموبايل، والقائمة تطول، كل هذا السيل من المعلومات والأخبار يحوي الخبر ونقيضه والمعلومة وعكسها، في ذات الوقت، وما أكثر ما نجدنا نتابع متحدثاً أو مذهباً في باب ما من العلوم أو التحليلات أو التوصيات، وبعد أن أمضينا ردحا من الوقت نتبنى أفكاره أو أخباره وندافع عنها، بل ونروج لها، ثم لا نلبث أن نكتشف بعد لأي وزمن مهدور أن أكثر ما سمعناه لا يعدو عن "حشت نشت" كما يقول الشاميون، ويزيد الطين بلة أن شطراً واسعاً من المختصين الذين يتقاعسون أو ينشغلون عن متابعة تطورات وتحديثات اختصاصاتهم، يقدمون ذات الإجابات التي درسوها منذ عشرين سنة عن قضايا تم تطويرها وتصحيحها عدة مرات، منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، وليس خافيا ما لحروب ونزاعات التيارات الثقافية والاقتصادية والسياسية من دور كبير في إشاعة معلومات مضللة عن خصومهم، ومعظمنا يذكر تلك الحرب الدائرة بين شركات إنتاج الشاي والبن عالمياً وكيف يصدر كل فريق منهم معلومات غير علمية عن مساوئ وأضرار استخدام ما ينتجه خصومهم أو منافسيهم.
تسهم ثقافة الإنترنت الهشة إلى حد كبير في خلق عالم خال من الثقة بالمعلومة، عالم مليء بالشكوك والقلق وانعدام العدالة، والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة.
وفي زحام البحث عن المعلومة الدقيقة كثيرا ما يغيب التمييز بين التأثير والفاعلية، فعلى سبيل المثال، جميعنا ننصح بلا تردد من يصاب بالكريب أن يسارع لشرب كأس من الليمون لاحتوائه على فيتامين "C" وكثيرا ما يشكو المريض أنه لم يجد الفائدة المرجوة منه وهذا صحيح، فكأس أو كأسين من عصير الليمون منعش للأصحاء وحسب، بينما يحتاج مريض نزلة البرد ما يقارب الغرام من هذا الفيتامين وربما مرتين في اليوم، وهذا يعني أنه يحتاج لعصير بضع كيلوغرامات من الليمون، وهكذا نجدنا نتابع نصائح طبية عن تأثير الحلبة والكمون والزنجبيل والعسل والحبة السوداء والتمر وغيره كثير من سلسلة غذائية سحرية لا تنتهي، دون أن يشير الناصح الخبير في معظم المرات إلى الكم والزمن المطلوب لإحداث الفاعلية.
وكما في الطب البديل والطب الشعبي وخبراء الطب الحديث الذين ينتشرون انتشار البقل عبر مواقع التواصل، كذلك في عالم الثقافة والسياسة، فهذا محلل يربط الحرب الدائرة اليوم في بقعة توتر شرق أوسطية، بالحرب الصينية الأميركية غير المعلنة والتي يجري التحضير لها منذ عقود، ويعزز هذا التحليل بتصريحات أممية لبعض القادة والمسؤولين خلال ذلك الامتداد الزمني، مع ملاحظة صعوبة أو استحالة الوصول لمصدر موثوق نقلت عنه تلك التصريحات، وآخر يجدها نتيجة حتمية لمبدأ صراع الحضارات، وثالث يجدها تجسيداً لنبوءة وردت في بروتوكولات حكماء صهيون، ورابع وخامس والسلسلة لا تنتهي، ويختلط الخبر بالتحليل والأمنيات والأساطير والنبوءات، وقراءات وتوقعات المنجم "نوستراداموس" منذ خمسة قرون.
لا تتوقف مخاطر هذه العبثية المعلوماتية، التي تنتشر انتشار النار في الهشيم، في جيل فتي ينشأ اليوم وهو يدمن هذه المصادر ويتم تكوينه عبرها، على جوانب التضليل التقني والمعلوماتي وحسب، بل تتعداها لتكوين بنى مهلهلة فكريا ومعرفيا، وتسهم إلى حد كبير في خلق عالم خال من الثقة بالمعلومة، عالم مليء بالشكوك والقلق وانعدام العدالة، والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة، وبحسب الاقتصادي البريطاني "توماس جريشام" فإن "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة" وهذا ما أودى بنا اليوم إلى عصر يمكن وصفه دون تأثم بعصر التفاهة.