رغم التهميش الذي تعانيه، فإن المنتج القصصي السوري ما يزال قادرًا على تمثيل التنويعات في الأساليب والموضوعات التي تشهدها الأنواع الأدبية الأخرى في الراهن السوري. ويمكن اعتبار المجموعات القصصية الثلاث (دو يك - روعة سنبل)، (نصف ابتسامة - عدي الزعبي)، (أشباح الحبيبات - لينا هويان الحسن) والصادرة بين عامي 2023-2024، نموذجًا في تنويعات الأساليب السردية القصصية والموضوعات الأدبية.
على مستوى الأنواع، تميل المجموعة الأولى إلى القصة ذات الطابع الذاتي، بينما تنتمي المجموعة الثانية إلى المدرسة الواقعية، وتشتمل المجموعة الثالثة على عناصر القصة العجائبية. أما على مستوى الموضوعات، فإن القصة الذاتية تسعى إلى السرد الجمعي والتاريخي، بينما القصة الواقعية تنهمك في التقاط الذاكرة التي تتشكل بين الذهني والنفسي والاجتماعي، وتستخدم القصة العجائبية كأسلوب لتناول قضايا حقوقية تتعلق بواقع المرأة.
القصة الذاتية في رواية الحدث التاريخي
كما في مجموعتها القصصية السابقة التي قسمت فيها الحكايات إلى ألوان (أسود، أحمر، أخضر، أزرق، أبيض)، حيث يحتوي كل جزء على عدة قصص، تتابع القاصة في تجربتها القصصية الحالية بعنوان (دو يك - 2023) بنية مماثلة من حيث تقسيم النصوص القصصية. فبعد مدخل أول وثانٍ، تتشكل المجموعة من ثلاثة أقسام (ذاكرة، دروب، ليل)، وهي في علاقتها ببعضها البعض كأنها مراحل سيرة ذاتية أو مذكرات يومية. يرسم القسم الأول ملامح الحياة اليومية الفردية في ظل الحرب التي تفرض نفسها على المجتمع واللحظة التاريخية. أما القسم الثاني فينهمك في توصيف أمكنة الفضاء العام الجمعي، حيث تجري الأحداث في الشوارع ووسائل النقل العامة والحدائق، التي تدور فيها أغلب الحكايات. في القسم الثالث، تقدم المجموعة حكايات المشاعر والأحاسيس في عوالم الفقد والموت، وحضور التهيؤات المفزعة من كثرة الجثث التي شهدتها الشخصيات خلال سنوات الحرب.
في المدخل الأول تقتبس الكاتبة من قصيدة (لاعب النرد - محمود درويش): "ولست سوى رمية النرد، ما بين مفترس وفريسة، ربحت مزيدًا من الصحو، لا لأكون سعيدًا بليلتي المقمرة، بل لكي أشهد المجزرة". وفي المدخل الثاني تقتبس من رواية (في بلاد الأشياء الأخيرة - بول أوستر): "من أجل أن تعيش، ينبغي أن تجعل نفسك تموت، ولهذا استسلم كثيرون، لأنهم مهما ناضلوا بشدة، يعرفون أن الخسارة أمر محتوم". بين الشهادة على المجزرة وحتمية الخسارة، تبدأ القصة الأولى بحادثة فردية ترويها القصة التي تحمل عنوان (أحدهم يحاول أن يخبرنا شيئًا): "رسائل سرية مشفرة ظلت تصل إليّ لشهور، حين لمحت على الوجه المتشقق لأحد الأرغفة شيئًا جعلني أجفل، فبين العلامات البنية المتوزعة على الرغيف استطعت أن أميز اسمي، كانت الأحرف مضطربة، كأن أصابع مرتجفة متعجلة قد كتبتها". وتتوالى الأيام وتطور الساردة قدرتها على قراءة الإشارات والرموز كما تقرأ عرافة خطوط الكف، وراحت تنسخ الرسائل المشفرة على دفتر صغير، دون أن تخبر أحدًا. ولا ندرك الحقيقة التي تحملها هذه الرسائل المشفرة، فهي: "رؤوس مقطوعة لها عيون متسعة بذعر، تلال من الرماد، ومقصات وسكاكين، ووجوه جلادين، وشاهدات قبور، وفزاعات عصافير، وشمس مطفأة. ليست هلاوس لأن أحدهم يحاول أن يخبرنا شيئًا".
تنشغل القصص بهاجس الرواية - الكلام، كأنها تبين بمونولوجاتها الداخلية خطورة السرد في هذه اللحظة من التجربة الاجتماعية والسياسية، تفقد الساردة جسدها مقابل أن تكتسب الروح قدرة السرد: "جسدي المتفحم مسجى منذ زمن تحت التراب، أما روحي فما تزال مضطربة، الآن عرفت كل شيء، وتذكرت كل شيء، الآن فقط صرت شجاعة بما يكفي، أريد أن أحكي، أن أصرخ، لا صوت لي. أحاول أن أخبركم بكل ما أعرفه". وحتى حين تروي القصص حكايات الجدة، فإن هاجس النوع الحكائي المتعلق بالحرب يبقى حاضرًا للمقارنة بينه وبين حكايات الجدة، فتبين القصص صعوبة تغيير نمط الحكايات التي يتناقلها المجتمع، فحكايات الجدة لا تتضمن ذكراً لقصص الحرب وتجاربها:
"وهكذا، يومًا بعد يوم، عرفت نمط الحكايات المطلوبة، حكايات موجعة تدمع لها العيون، أو حكايات من تلك التي تحل فيها الغمزات والابتسامات المتواطئة محل الكلمات، كان يمكنني أن أحكي ما شئت، بشرط واحد، هو أن أتجنب تمامًا أي ذكر للحرب وحكاياتها، كأنها لم تعش يومًا بيننا".
قصة (لم يرجع بعد)، مهداة إلى الكاتب المسرحي لويجي بيرانديللو، تروي تجربة صبي وطفلة لا يريدان إدراك موت والدهما، ويتظاهران بأنه عائد. وفي قصة (يجب أن ينتهي كل هذا)، تختفي وجوه ركاب الباص فجأة من عيني الساردة ليتحولوا إلى أموات. وفي قصة (مقبرة العصافير)، تتكاثر جثث العصافير عند النافذة الوحيدة للمنزل، الذي يقطنه رجل متزوج يمضي الوقت بإطعام العصافير. وتنتهي المجموعة القصصية بحكاية طفل يدخل في نوبة من الألم الهستيري أو الانفعال العصابي، وكأنه رد الفعل المنطقي على كل هذا الموت والجنون، يقف في باص النقل العمومي، ويصيح: "شنقوا أمي، شنقوها. يقف الصبي، يجرجر قدميه بصعوبة نحو الحبل الملقى على الأرض، يضعه على كتفه، يدير ظهره، ويهم بالانصراف، ثم يلتفت نحونا فجأة، يبصق علينا، ويغرق في الضحك، يتسلق كابينة موقف الباص، وينبطح هناك مع حبله".
القصة الواقعية في التقاط الذاكرة الحسية-الذهنية
وإن كان القاص (عدي الزعبي) في مقدمة مجموعته القصصية (نصف ابتسامة) يخبر بأن دافع الكتابة عنده ذاتي، إلا أن الموضوعة التي يخصص نصوصه القصصية لتناولها هي مرآة بين الذاتي والجمعي، بين الذهني والحسي، بين الملموس والمجرد، ألا وهي موضوعة الذاكرة:
"ما دفعني إلى الكتابة، وحدة عارمة. فشلت في النسيان، فكتبت ما تبقى في الذاكرة عن سوريا قبل الحرب. فقدان الذاكرة الجزئي يكبر ويتضاعف يوميًا. بقي لي نصف ذاكرة. لا أتذكر أسماء معظم الشوارع والمطاعم والمحلات، وأصدقاء الطفولة والمدرسة، وعناوين المقربين والأهل، والدروب إلى الحدائق والمقابر، وأول قبلة، وتفاصيل نزاعات العائلة التي لا تنتهي ولا تحل، والروائح التي تعبق بها البيوت والفيافي".
يمكن القول إن القاص كرس تقنيات القصة الواقعية ليلتقط ومضات الذاكرة السورية ما قبل الحرب. إن قصص المجموعة تذكر بشاعرية أفلام المخرج الأشهر في السينما اليابانية (ياسوجيرو أوزو 1903-1963)، حيث تجمع لحظة الذاكرة بين الفسحة التأملية والأثر الحسي. فتتوالى قصص المجموعة كسلسلة تبحث عن ومضات من ذاكرة الماضي، فكرة من الماضي، لتتمكن من خلالها رسم ملامح حدث، أو حالة شعورية، أو تجربة حسية-ذهنية في الوعي. تبدأ القصص بذاكرة الطفولة المدرسية، بعنوان (من جد وجد)، تعيد إلى الذاكرة العلاقات المدرسية بين التلاميذ والقيم المبثوثة في النظام التربوي، وسلوكيات الجهاز التربوي، والأهم العلاقة بين السياسي والتربوي. يقوم الصراع في الحكاية بين عبارتين يتداولهما الطلاب، بدايةً (من جد وجد)، عبارة يخطها تلميذ وحيدًا على دفتره، ولكن زملاءه يردون عليها بأن يخطوا على جدار المدرسة عبارة مغايرة (مدد يا رسول الله مدد). تغوص القصة في أسلوب تعامل الجهاز التربوي مع الحدث، وتلتقط القصة المفارقات الساخرة حين يتكشف فكر الأجهزة المخابراتية الكامن في أذهان المدراء المدرسيين والأساتذة: "فيجن المدير، لاعنًا الحيوانات الحقيرة التي ابتلاه الله بها مهدداً بإرسالهم إلى السجون، هؤلاء الصهاينة، عملاء الدول الرجعية، وخدم الاستعمار والإمبريالية، على حسب تعبيره". حكاية لماحة تركز الصراع القيمي في المرحلة المدرسية، والخطاب السياسي والتربوي المتداخل في ماضي التسعينيات من القرن الماضي.
يبدو انشغال القاص، متكاملاً أو مجسداً لما كتب عنه الباحث (موريس هالبواش) في كتابه (الذاكرة الجمعية)، أي تلك العلاقة بين الذاكرة الفردية وذاكرة الجماعة: "يمكن أن يتولد النسيان بسبب الانفصال عن الجماعة، فإن الذكرى مهما كانت واقعية وراسخة في الذاكرة وفي حقيقة الماضي، إلا أنها تفقد قدرتها على الإقناع والتأثير بفقدان الجماعة التي تشكلت بوجودهم أو بمحيطهم، فالحدث-الذكرى تصمد فينا مقابل الزمن، فقط بدءاً من اللحظة التي كنا نشكل فيها مع الشهود الآخرين جماعة وكنا نفكر تفكيراً مشتركاً وفق علاقات معينة". لذلك تربط احدى قصص المجموعة بين التغير الذي تعيشه خالة الرواي، وبين صدور ألبوم بتونس بيك لوردة الجزائرية، إن الترابط أو التوازي بين الحدثين محاولة أدبية للإقناع الذاكرة بوجود الحدث وحقيقته.
كذلك، تتقاطع الكتابات الفكرية لهالبواش عن الذاكرة الفردية والجمعية، مع قصة بعنوان (الصداقة)، يكتب هالبواش: "لا يكفي أن نعيد بناء صورة الحدث الماضي قطعة قطعة لنحصل على الذكرى المفقودة. ينبغي أن تتم إعادة البناء انطلاقاً من معطيات أو مفاهيم مشتركة موجودة في ذهننا كما في أذهان الآخرين لأنها تعبر دون توقف بين الجهتين". والقصة المذكورة تروي تماماً كيف تغيرت القيم الجمعية، حيث يحاول الراوي أن يشارك في عزاء صديقثه من أيام المدرسة عبد الله، لكن وتروي حكاية الصديق من المرحلة الإعدادية "عبد الله" والذي فارق الحياة أو بالأدق بقي مختفي المصير قسرياً: "عبد الله صديق قديم عرفه منذ الطفولة. .رفض الأصدقاء المشتركون من أيام المدرسة الإعدادية مرافقتي للتعزية بمقتله. تذرع اثنان بمشاغلهما الكثيرة، وقال آخرون إنهم لا يستطيعون مواجهة موقف كهذا. محمود، بصراحة، قال إنه يخاف أن تكون المخابرات مراقبة البيت، لا يريد المخاطرة". تتطرق القصة إلى التحول الذي عاشه صديق المدرسة نحو التشدد الديني: "عبد الله تطرف بالتدريج، في المدرسة الإعدادية بدأ يُصلي الفروض الخمسة، ثم أصبح يصوم كل اثنين وخميس في المدرسة الثانوية، بعدها، كنت ألتقيه مرة كل شهرين أو ثلاثة، وتتغير لغته ومفرداته مع كل لقاء". يرفض الصديق القديم تصديق التغير الذي أطلقته الجماعة على عبد الله، يحاول التمسك بالقيم الأساسية، الصداقة، لكن الأحكام الجماعية تحكم بقسوة بين الإرهابي والحزبي البعثي.
القصة العجائبية في الدفاع عن حقوق المرأة
تجمع القصص الثلاثة عشرة التي تشكل مجموعة (أشباح الحبيبات حكايات أشهر أشباح النساء الحية في ذاكرة الشام، لينا هويان الحسن) بين العنصر العجائبي من جهة، وأسلوب السرد الذي يجمع الحكائي بالصحفي من جهة أخرى، وكذلك موضوعات الحب وقضايا المرأة. فالكاتبة تبين في مقدمة موسعة تقدم فيها مجموعتها أن الغاية من هذه القصص هي إعطاء الصوت لحبيبات مظلومات ضحايا إما للقيم والعادات الإجتماعية المتزمتة، أو ضحايا لقيم عائلية تمنع العاطفة وتجارب الحب عن المرأة. لذلك، فإن الأشباح التي تروي عنهن القصص يمثلن حالة من التمرد المستمر على الجريمة التي ارتكبت في حقهن: "لا تقبل الضحية بمصافحة الجلاد، ويكون الشبح هو علامة الروح الغاضبة. في الواقع إنهن نساء خفيات، مجروحات، مقهورات، رفضن مغادرة الحياة على نحو ما".
ففي القصة الأولى يطاول الموت الرجل العاشق والمرأة العاشقة، فارتبط موتهما معاً بعد انتهاء الحكاية. تجري أحداث القصة في التسعينيات من القرن الماضي، لكن شبح شبح ميماس ألدو ما زال يحضر بهيئة شبه واضحة كما أكد شود العيان، تكاد تظهر بكامل ثيابها، ويسمع وقع كعبها العالي الذي كانت ترتديه غالب وقتها بسبب قصر قامتها. تخطر في أوقات مختلفة حول ذلك الركن الذي كان يزدان بصورتها ضمن برواز من الخشب المذهب. وتنقلنا قصة أخؤى إلى حكاية زوجة الملك في قلعة المعالبة في جبال اللاذقية، تملك هذه المرأة الشبح حضوراً مميزاً تحمله قصتها التي تروي بأنها عذبت قبل أن تموت، فهي تعود من الموت لتتجلى مانعةً الفتيات من الحب.
تتنوع في نصوص القصص مختارات من الثقافات والحضارات التي عرفتها سورية، قصة "شبح سلمون حارة الجورة في حي القيميرية الدمشقي" هي حكاية جارية هندية تعلمت رويت الحكايات الكثيرة عن ولادتها وحكايات أكثر وهي التي هذبتها قهرمانانة البيجومات "مريم زماني"، وعلمتها العزف والرقص والغناء والكلام وكل الفنون التي تسعد الرجال. أرسلت سلمى على ظهر فيل مزركش من بلاط السلطان جهانكير ووصلت هدية للشاه عباس، ولا أحد يعلم كيف وصلت الجارية إلى الشام ومعها مجوهراتها وخادم خصي واشتهرت في دمشق باسم سلمون". وترتبط الحكايات بأحداث تاريخية عاشتها المدن أو المناطق التي تجري فيها الحكايات: "في حوادث عام 275 هجرية يذكر البديري كيف أن الكوارث حلت بالشام، فقد طلع نجم له ذنب في جهة الشمال. وفتك الطاعون بالأهالي وغلت الأسعار بشكل جنوني. في تلك السنة كثرت بنات الخطا، يتبهرجن بالليل والنهار، فخرج ليلة قاضي الشام بعد العصر فصادف امرأة من بنات الخطا، تسمى سلمون. فصاح جماعة القاضي عليها أن ميلي عن الطريق. فضحكت وهجمت على القاضي بالسكين. ففتشوا عليها وقتلوها، وأرسلو منادياً في البلد أن كل من رأى بنتاً من بنات الخطا والهوى فليقتلها ودمها مهدور، فسافر عدد منهن وانزوى البقية، ومع ذلك فالطاعون مخيم في الشام وضواحيها مع الغلاء ووقوف الأسعار.
وتدين النصوص القصصية باستمرار المفاهيم والقيم الاجتماعية والثقافية السائدة التي أدت إلى وقوع تلك الحبيبات ضحايا للجرائم القاسية: "ماتت في مكان وزمان تعد فيه واقعة قتل فتاة شابة عملية نافرة ولكن مارقة ومعتادة. قتلها ابن العم دون أن يعتقد أنه اقترف جريمة فالعادات أورثته مفهومها العنيد: "ابنة العم هي شرفه الذي عليه أن يصونه".