ظهرت البذور الفكرية لتنظيم حزب الله تركيا/الكردي المدعوم إيرانياً في بداية الثمانينات وتحول لتنظيم مسلح حارب بشكل رئيسي حزب العمال الكردستاني في إطار صراع كردي-كردي في بداية التسعينات، من القرن العشرين. ليسيطر خلال زمن قياسي على مناطق جغرافية في جنوب شرق تركيا، وليكون السلطة العليا في مناطق سيطرته لسنوات عديدة، نفذ خلالها عمليات عنف واغتيالات لم يستثنِ منها حتى ناقديه من الصحفيين أو حتى المدنيين ممن عارض تطبيق الشعائر الإسلامية التي نادوا بها، والتي كانت جزءا من مشروعهم الأكبر والمتمثل بإعلاء الشريعة الإسلامية في تركيا، شريعة "إسلامية" توصف بالهجينة لكونها تتبع للمدرسة الشيعية الجعفرية في إيران ولكن عدلت لتناسب البيئة السنية الكردية في جنوب شرقي تركيا. نوقش كل ماسبق من ظهور وصعود للتنظيم والظروف والأسباب التي ساعدته في ذلك ضمن الجزء الأول من هذه المقالة، وستطرح وتناقش السطور التالية -ضمن الجزء الثاني من المقالة- تغير الظروف التي كانت وراء قوة التنظيم والتحديات التي تسببت بانهياره، قبل أن يعود للظهور على الساحة بشكل مختلف، بالإضافة لطبيعة علاقته بالدولة التركية خصوصا خلال مرحلة النشاط المسلح، ونهاية: الوضع الذي آل عليه التنظيم الآن.
الانهيار:
في عام 1995، ومع انكسار شوكة حزب العمال الكردستاني، بدأت تشتد قبضة القوى الأمنية التركية في منطقة جنوب شرقي تركيا، ليدخل تنظيم حزب الله التركي مجبراً بمرحلة من الركود وليتخذ شكل الخلايا النائمة بقيادة "حسين ولي أوغلو" الذي أصبح خلال السنوات التي تلت العام 1995، كثير التنقل بين العديد من المدن التركية مثل أضنة أو قونية، هرباً من ضغوطات القوى الأمنية التركية، لينتهي به المطاف في مدينة إسطنبول وذلك في أواخر العام 1999.
تلقى التنظيم ضربة أخرى لكن هذه المرة على الصعيد الخارجي، وذلك في عام 1997 بعد انتخاب محمد خاتمي رئيساً خامساً لجمهورية إيران الإسلامية، وتسبب التغير في السياسات الخارجية الناتج عن تغير الإدارة الإيرانية، بتقنين شديد للدعم المقدم من إيران، مما دفع "ولي أوغلو"، الذي شعر بأنه تُرك وحيداً لمهاجمة إيران وبدأ بتبني إيديولوجية أقرب للمذهب السني التقليدي.
بعد وصوله لإسطنبول، العاصمة الاقتصادية والفكرية والاجتماعية لتركيا، حاول "ولي أوغلو" المتروك وحيداً، الدخول في تنافس مع الجماعات الإسلامية التركية في إسطنبول، ليكون هذا الهدف أحد الأسباب الأخرى لتقريب إيديولوجيته للمذهب السني. وكانت محاولاته للسيطرة على موارد الجماعات الأخرى (ومنها جماعة فتح الله غولان الصاعد بقوة حينها) واستغلاله قوة السلاح والتهديد والاغتيالات في قلب إسطنبول سعياً للقوة والنفوذ؛ بداية النهاية للتنظيم، إذ أصبح القضاء على تنظيمه الأولية الأكبر للقوات الأمنية التركية.
في مطلع عام 2000، وفي منطقة "بايكوز" الواقعة شمالي إسطنبول الشرقية، قتل المؤسس الفعلي، والحامل الوحيد لراية حزب الله التركي الخضراء لسنوات، "حسين ولي أوغلو" على يد قوات الأمن التركية في "فيلا" كان يقيم فيها مع اثنين من مساعديه وعدد من عناصر تنظيمه، بعد اشتباكات استمرت لما يقارب الأربع ساعات والنصف، وليعتقل مساعدوه ورفاق دربه لسنوات "أديب غوموش" و "جمال توتار" ولتستمر عمليات القوات الأمنية التركية ضد خلايا وقيادات التنظيم -الذي قام بعمليات اغتيال لقادة في الأجهزة الأمنية التركية- لتنتج عن العمليات في النهاية حل التنظيم، أو على الأقل الجناح المسلح منه مع مطلع القرن الواحد والعشرين.
قتل المؤسس الفعلي، والحامل الوحيدة لراية حزب الله التركي الخضراء لسنوات، "حسين ولي أوغلو" على يد قوات الأمن التركية في "فيلا" كان يقيم فيها مع اثنين من مساعديه وعدد من عناصر تنظيمه
نتج عن علميات المداهمة بحق أعضاء التنظيم المنتشرين في جميع أنحاء تركيا، اعتقال المئات من أعضائه وسيطرة القوى الأمنية على أرشيف التنظيم، ليتبين أن "ولي أوغلو" كان يدير عملياته وشبكة أتباعه عبر أجهزة اتصالات مشفرة. أما أكثر التفاصيل التي تسببت بصدمة للرأي العام التركي، فكانت عمليات التعذيب والإعدام التي قام بها التنظيم وأشرف عليها "ولي أوغلو" شخصياً، والتي طالت مئات الضحايا الذين دفنوا بعد مقتلهم ببيوت التنظيم السرية نفسها، معظمهم من أعضاء التنظيم نفسه بتهم الخيانة.
وخضع أعضاء التنظيم المتهمين لجلسات تحقيق سُجّلت بالفيديو قبل أن تُسلّم شرائط التحقيق لزعيم التنظيم والذي بدوره كان يبت بالحكم على المتهمين. ليدخل مصطلح جديد في الذاكرة الشعبية التركية وهو "مقابر البيوت" في إشارة لعشرات القبور التي وجدت في منازل أعضاء التنظيم تعود لمن نُفِّذ في حقهم عمليات التصفية.
اتهم أعضاء التنظيم السابقين وبعد اعتقالهم، بالمسؤولية عن مقتل مئات المواطنين، واستخدام العنف لأجل الانقلاب على الدستور التركي لتأسيس "دولة إسلامية". استمرت محاكمة المتهمين لسنوات طويلة لشدة تعقيد القضية وعدد الملفات والمتهمين الضخم. ليبقى المتهمون الرئيسيون ومن بينهم قادة الصف الأول "أديب غوموش" و "جمال توتار" معتقلين كمتهمين لسنوات قبل بت الحكم فيهم، قبل أن تتغير المعادلة في عام 2011 بدخول المادة 102 من قانون المحكمة الجنائية التركية حيز التنفيذ والتي قلصت من المدة التي يقضيها المتهمون بالقضايا الجنائية قبل البت بالحكم، ليستفيد من التعديل مباشرة ما يقارب 32 عضواً من التنظيم من بينهم "أديب غوموش" وليخلى سبيلهم مع شرط الحضور للتوقيع في المراكز الأمنية يومياً. وليختفي بعدها بفترة قصيرة كل من أخلي سبيلهم، مما تسبب بردة فعل سلبية من قبل الرأي العام التركي. ولتذهب الشكوك أن أعضاء التنظيم قد فروا إلى إيران عبر طرق غير شريعة.
علاقة التنظيم بالدولة التركية:
سببت ادعاءات وجود علاقة تنسيق أو حتى تبعية التنظيم للدولة التركية، جدلاً في تركيا لسنوات، إذ رأى وعلى مدار سنوات الكثير من المطلعين أن الدولة التركية عملت لسنوات جنباً إلى جنب مع التنظيم ضد حزب العمال الكردستاني، وأن الدولة التركية "العميقة" كانت وراء تقوية شوكة التنظيم، تسليحه، أو حتى تأسيسه. وقد دفع "خالد غونغين" الصحفي والكاتب في صحيفة "2000’e Doğru" في مدينة دياربكر حياته ثمناً لهذا الادعاء، وذلك في عام 1992 إذ اغتيل بعد يومين فقط من نشره مقالة قال فيها أن الدولة التركية تدرب وتدعم تنظيم حزب الله. وفي عام 1994 أدلى سليمان ديمرال الرئيس التاسع للجمهورية التركية بتصريحه الشهير والذي قال فيه: "عند الحاجة، تلجأ الدولة للخروج عن الروتين"، وذلك تعليقاً على حادثة ضياع شحنة من الأسلحة في الجنوب الشرقي التركي، وبعد ادعاءات بأنها لم تفقد، بل سلمت لتنظيم حزب الله في تركيا، ليكون هذا التصريح أحد عناصر هذا الجدال المهمة.
عاد ليتجدد الجدال نفسه عام 2008 في إطار قضية "إيرغيناكون-Ergenekon" الشهيرة، وذلك بعد تصريح لأحد متهمي القضية بأنه هو من يقف وراء تأسيس تنظيم حزب الله التركي. المتهم آنف الذكر هو العقيد المتقاعد في "الجندرمة" التركية "عارف دوغان"، والذي ارتبط اسمه بتأسيس "JİTEM" وهو جهاز استخباراتي تابع للجندرمة التركية، شكّل شوكة في حلق المتمردين خلال سنوات العنف في تركيا. وادعى "دوغان" أنه هو من أسس تنظيم حزب الله وأن "ولي أوغلو" قائد التنظيم الشهير قد ترعرع على يده. مشيرا إلى أن حزب الله التركي كان بمنزلة نسخة تركية من منظمة "غلاديو" السرية المناهضة للشيوعية (والمتمثل بحزب العمال الكردستاني-في النسخة التركية ) والذي أسس على يد حلف الناتو في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية.
ويرى الباحث التركي "محمد كرت" المختص بشأن هذا التنظيم المثير للجدل بتركيا، أن الدولة التركية لا تقف وراء تأسيس التنظيم، لكن يعود ويؤكد أن الدولة التركية استفادت من وجود التنظيم
ويرى الباحث التركي "محمد كرت" المختص بشأن هذا التنظيم المثير للجدل بتركيا، أن الدولة التركية لا تقف وراء تأسيس التنظيم، لكن يعود ويؤكد أن الدولة التركية استفادت من وجود التنظيم وربما نسّقت معه في مراحل معينة من منطلق استراتيجي بحت.
حزب الله تركيا/الكردي اليوم:
بعد انهيار تنظيم حزب الله تركيا في مطلع القرن الواحد والعشرين، بشكله الذي دام لما يقارب العقد من الزمن كتنظيم سري مسلح -تحت قيادة مركزية مطلقة- لعب دوره بجدارة خلال إحدى أكثر مراحل تركيا دموية في العصر الحديث، وبعد أن انتهى المطاف بكافة قياداته من الصف الأول والثاني بين القبور أو السجون أو بلاد المنفى، غابت أي علامة تأخذ بعين الاعتبار لفعالية التنظيم في الأراضي التركية. وأضحى التنظيم لا يتجاوز كونه موضوع جدل يتجدد عند كل جلسة محكمة لقياداته المعتقلين أو عندما تطفو للسطح أحد ملفات جرائمه الخفية التي لطالما تركت وقعاً مدوياً على الرأي العام التركي. ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن تنظيم حزب الله تركيا كان نتاج إيدولوجية لها مريدوها وجمهورها -وليس العكس، بقيت أفكار التنظيم ومبادئه حاضرة في شريحة من الشعب التركي، خصوصاً في مناطق نشاط التنظيم سابقاً.
في عام 2011 كان فرار ما يقارب الـ32 عضواً من التنظيم من بينهم قيادات الصف الأول بعد إخلاء سبيلهم بشرط التزامهم بحضور المراكز الأمنية للتوقيع، بمنزلة عودة التنظيم رسمياً للساحة التركية -ولو بصورة خجولة تختلف عن الأيام الخوالي، وذلك بعد تسمية "أديب غوموش" أحد الفارين بعد إخلاء السبيل الشرطي "مرشدا" للتنظيم. "أديب غوموش"، والذي يرجح وجوده في إيران مع رفاقه مع غياب أي تأكيد رسمي، اتبع سياسة جديدة أكثر انفتاحاً وأضاف للخلطة الإيديولوجية الإسلامية السنية-الخمينية عنصر القومية الكردية، ليروج لنتظيمه كراعي لمصالح الأكراد المحافظين، في محاولة منه لتوسيع شريحة الجمهور. وعلى الرغم من تجدد ادعاءات لظهور حزب الله مجدداً كتنظيم مسلح في كل مرة تعود فيها الاشتباكات بين الدولة التركية وعناصر حزب الله الكردستاني، تبقى هذه الادعاءات غير مدعمة بأي أدلة ملموسة، ولتقتصر نشاطات التنظيم بقيادة "مرشدها" الجديد "غوموش" على الأعمال الدعوية الفكرية عبر منتديات ومواقع منتشرة على الفضاء الإلكتروني التركي، وعبر مقابلات وتصريحات يدلي بها "غوموش" في كل فترة. وليختصر جواب "غوموش" المتكرر في مقابلاته الصحفية عن طبيعة التنظيم السرية والعنيفة سابقا: "لكل مرحلة ظروفها وشروطها" التوجه الجديد المبني على القليل من الانفتاح، وعلى إخلاء المسؤولية من الجرائم التي حصلت وإلقائها على عاتق الظروف السابقة.
بعد تسمية "أديب غوموش" أحد الفارين بعد إخلاء السبيل الشرطي "مرشدا" للتنظيم. "أديب غوموش"، والذي يرجح وجوده في إيران مع رفاقه مع غياب أي تأكيد رسمي، اتبع سياسة جديدة أكثر انفتاحاً
يقول الباحث "محمد كرت" في مقابلة له مع صحيفة T24 التركية الإلكترونية أنه شريحة جمهور التنظيم تصل اليوم لأكثر من 200 ألف مواطن منتشرين في كافة أنحاء تركيا، إلا أنها أقل تأثيراً بكثير على الساحة التركية، مقارنة بأيامهم الذهبية في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين.