مع التهديد التركي لشن عملية عسكرية في الشمال السوري، ترتفع موثوقية تصريحات الرئيس التركي أردوغان بخصوص شن عملية عسكرية جديدة، أو تؤكد على الأقل؛ عزم تركيا على تحقيق مكاسب معتبرة في سوريا. تزامناً مع تغيرات متسارعة في خريطة التحالفات الدولية، تبعت تورط روسيا في الساحة الأوكرانية. لتثير هذه التطورات الجدال السوري حول جدية الأتراك في تحركاتهم، فهل تفعلها تركيا وتعيد رسم الخريطة السورية؟
تستهين بعض الآراء السورية بالأهمية المصيرية التي تحملها سوريا في المنظور التركي، وبمناورات تركيا الدبلوماسية خلال الأشهر الماضية، والتي نتج عنها تطبيع للعلاقات مع دول إقليمية ودولية طالما عرقلت تحركات الأتراك في سوريا، وأخيراً بحاجة الحكومة التركية لنصر جلل قبل الدخول في انتخابات مصيرية.
كما تفسر الآراء نفسها تحركات تركيا، خلال عشر سنوات من التدخل المباشر، بشكل معاكس لتصريحات المسؤولين الأتراك الرسمية. واضعةً تركيا في موقع الاتهام بالانحياز للمحور الروسي-الإيراني، على حساب حلفائها من الشعب السوري. أو تحصر اهتمامها في الملف السوري بتهديد "قسد" فقط.
في المقابل، يلقي الأتراك لوم ما آلت إليه الأحوال في سوريا، على الحلفاء الغربيين والعرب. فالغربيون أعماهم الخوف من صعود القاعدة وداعش، والعرب أعماهم الخوف من صعود تيار الإخوان المسلمين؛ عن أولوية إسقاط النظام السوري. ليتركوا تركيا وحيدة في المواجهة -حسب الرواية التركية.
تطور الموقف التركي
منذ اندلاع الثورة السورية، أخذت تركيا التطورات في جارتها الجنوبية بجدية. واعتبرت عبر تصريحات مسؤوليها الأزمة السورية قضية وجودية. كيف لا وحدود سوريا المشتركة تتجاوز الـ 800 كم، كذلك فإن شعبي الدولتين مترابطان فيما بينهما اقتصادياً، وثقافياً، وعرقياً. ما يعني أن تبعات الأحداث في الجارة الجنوبية ستجد طريقها للداخل التركي، وهذا ما حدث.
نتيجة لقلقها من حالة الفوضى المتوقعة، وقفت تركيا في الأشهر الأولى أمام التصعيد ضد النظام السوري، واعتمدت على وعود قدمها رأس النظام نفسه، لتهدئة شبه الإجماع الدولي على إسقاط النظام. قبل أن تدرك مستوى المكر والكذب الذي يتبناه النظام لكسب الوقت، طمعاً بإخماد الحراك الشعبي. لتتبنى موقفا حازماً ضده، وتعرض كل إمكانياتها في سبيل إسقاطه وحماية المدنيين بأسرع وقت ممكن، للحد من تأثير هذا الحدث المفصلي على شؤونها الداخلية.
عام 2016، أصبحت الصورة في سوريا كارثية في العيون التركية. خذلان الحلفاء، وانخراط روسي كامل لإنقاذ الأسد ومعه المحور الإيراني، وقوات سوريا الديمقراطية أقرب من أي وقت لتأسيس كيان انفصالي يهدد وحدة الأراضي التركية. ما دفع تركيا بحسب روايتها لتنفيذ سلسلة من المناورات الدبلوماسية والعسكرية، ابتعدت فيها عن أولوية إسقاط النظام، واقتربت عبرها من المحور الروسي الإيراني مجبرةً، في سبيل إفشال مشروع الكيان الكردي جنوباً.
أما منذ عام 2019 وحتى اليوم، وبعد إدراكها أن المكاسب الممكنة قد حُققت بالفعل، اتبعت تركيا استراتيجية "النفس الطويل" في التعامل مع الواقع الجديد. فكلفة المحافظة على الوجود العسكري أكبر بكثير من الناحية المادية واللوجستية بالنسبة لإيران وروسيا، مقارنة بتركيا. ما يعني أن عامل الزمن لصالح تركيا، حتى تتغير الموازنات بما يسمح لها بتحقيق مكاسب في عمقها الجنوبي الأهم، تليق بطموحها في الوصول لمصاف الدول العظمى.
اليوم، وفي ضوء التقلبات الحادة التي تشهدها الساحة الدولية منذ التورط الروسي في أوكرانيا، يمكن الافتراض أن "الصبر التركي" بدأ بالإثمار. فالجولات الدبلوماسية المكوكية التي تميزت فيها تركيا مؤخراً حققت اختراقات مع دول محورية في المنطقة، من الإمارات للسعودية وصولاً لإسرائيل ومصر، والحليف الغربي مستعد للتعاون والدعم على مستوى غير مسبوق. في المقابل، وصلت روسيا لأضعف حالاتها، وإيران قد تكون في مواجهة اتفاق ضمني بين القوى الإقليمية والدولية على تحجيمها.
تبرر القراءة السابقة فرضية النية التركية بتحقيق مكاسب تعيد رسم خريطة النفوذ في سوريا لصالحها، وتنعكس إيجاباً على شؤونها الداخلية، وتعطيها بعض ما تطمح إليه من تأثير في الساحة الدولية والمنطقة. وتحاول السطور التالية، حصر هذه المكاسب تحت خمسة عناوين رئيسية، دون تقييدها بإطار زمني أو آلياتي:
-
حل قوات "قسد" في الشمال السوري:
أطلق صعود قوات "قسد" في الشمال السوري، تزامناً مع ما تلقته من دعم دولي لمحاربة داعش، صافرات إنذار لم تسمع منذ سنوات في الأوساط البيروقراطية التركية. فشبح التقسيم الذي حل جنوب البلاد يهدد كيان الدولة ككل. لمعرفة مدى حساسية الموضوع، يكفي التذكير بأن الحكومة التركية كانت مستعدة للتحالف مع القوميين على حساب شعبيتها في الوسط الكردي-التركي، وللتعاون مع روسيا وإيران على حساب الحليف التقليدي الغربي -أي تغييرين جذريين على المستوى السياسي الداخلي والخارجي؛ فقط في سبيل إفشال مشروع "قوات سوريا الديمقراطية".
نجحت تركيا نسبياً في إفشال المشروع بدخولها لمناطق استراتيجية في الشمال، لتحطم طموحات "قسد" بمنطقة نفوذ تمتد على طول الشمال الشرقي السوري. وأمام التهديد بالمزيد، دفعتهم نحو حضن روسيا والنظام السوري. ما أضعف تأثير "قسد" حتى في مناطق نفوذها، وأثار الشكوك عند الحليف الغربي.
أدركت تركيا حينذاك استعداد النظام السوري المحتمل على التعاون لإنهاء مشروع "قسد" جذرياً مقابل تطبيع العلاقات، لكنها فضلت الانتظار، على ما يبدو طمعاً بالمزيد.
-
إعادة إعمار سوريا آمنة تضمن عودة اللاجئين:
بعد سنوات من الكلفة العالية التي تحملتها في سوريا، بشكل مباشر أو غير مباشر، تتطلع تركيا للبدء بإعادة الإعمار في الجارة الجنوبية. إذ سينتعش اقتصاد تركيا الذي يعتمد بشكل ملحوظ على نشاط شركات البناء. وسيعود جزء لا يستهان فيه من اللاجئين؛ ما سيجرد المعارضة من كرت بالغت في استخدامه ضد الحكومة مؤخرا.
ويبقى العائق الرئيسي للبدء بهذه المرحلة، التي تخطط تركيا للتعويض خلالها عن خسائر السنوات؛ الوصول لحل سياسي ولو في أدنى الحدود، ينتج عنه استقرار أمني في سوريا. ما يعني ضرورة الضغط المباشر على نظام الأسد للوصول لتسوية تتماشى مع معايير المجتمع الدولي -الذي سيمول بدوره مسار إعادة الإعمار.
-
كسر حصار روسيا - إيران الجيوسياسي المطبق على تركيا:
يكفي إلقاء نظرة سريعة على خريطة تركيا والجوار، لإدراك أبعاد المأزق الجيوسياسي التي تواجهه تركيا. فمحور روسيا-إيران يحاصر تركيا حرفياً من ثلاث جهات، بدءا من أوكرانيا وروسيا شمال البحر الأسود، مروراً بجورجيا وأرمينيا وإيران شرقاً، ووصولاً للعراق وسوريا جنوباً. تاركاً تركيا معزولةً عن عمقها الاستراتيجي التركي الذي يمتد عبر أذربيجان وصولاً لوسط آسيا، وعن عمقها الاستراتيجي العربي.
أمام هذا التهديد الجيوسياسي الوجودي، لا خيار أمام تركيا سوى كسر الحصار بكل السبل المتاحة. لتبرز الساحة السورية في قائمة الخيارات، إن لم تكن الخيار المتاح الوحيد.
-
ضمان حقوق ودور السنة في المستقبل السوري:
تطورت خلال السنوات قناعة تامة عند الإدارة التركية بأن إيران تحاول هندسة سوريا ديمغرافياً حسب هواها. وتدرك أن للموضوع آثار قد تغير من صورة المنطقة جذرياً لمصلحة إيران على حساب تركيا والقوى الإقليمية الأخرى.
مدفوعةً بضرورة الوقوف أمام المشروع الإيراني الديمغرافي، وبمعرفتها أن هذا الموقف سيزيد من شرعية دورها في سوريا أمام قوى محلية ودولية؛ ترغب تركيا في أن تلعب دور الضامن لحقوق ودور السنة -وخاصة التركمان الذين أفرغوا من سوريا بشكل شبه كامل- في المستقبل السوري.
-
القبول بدور تركيا كوسيط معتبر في المنطقة:
ترغب تركيا في الخروج من الملف السوري محققةً ما سعت إليه منذ الأشهر الأولى من انطلاقة الثورة السورية: إثبات نفسها كضامن معتبر ويعتمد عليه في المنطقة، من قبل القوى الدولية والإقليمية. ما سيتيح لها الاستفادة القصوى من موقعها الاستراتيجي الذي يصل عوالم بأخرى.
ختاماً، من الخلاف مع تنظيم فتح الله غولن، لفشل مسار السلم الأهلي مع المكون الكردي، حتى تأزم العلاقات الدبلوماسية مع الدول الإقليمية والدولية؛ يمكن تتبع أبرز الأزمات الداخلية والخارجية التي عصفت بتركيا خلال العقد الماضي وصولاً لمصدر واحد: سوريا. فهل من المستبعد، أمام هذه الفرصة التاريخية، أن تسعى البلاد لحل كثير من أزماتها الحالية في المكان ذاته؟