ضمن إجراءات تقييد حركة اللاجئين السوريين في تركيا وتحت ذريعة تنظيم التنقل والحفاظ على الأمن العام، يُمنع السوريون من الإقامة في ولايات تركية أخرى ويحظر عليهم التجوال بينها إلا بموجب إذن سفر يقبل أحياناً ويرفض كثيراً، ما يزيد اللجوء مشقة خاصة مع شح الفرص والموارد في بعض المدن أو عدم توافق خلفيات تلك المدن الاقتصادية والصناعية مع المهارات والمؤهلات التي يمتلكها اللاجئ السوري المقيم فيها.
ومع محدودية فرص العمل في الولايات المسجلين بها يذعن السوريون لمتطلبات الحياة التي لا يجدون لتلبيتها سبيلاً إلا أن يتمردوا على حدود المدينة التي فرضتها عليهم الحماية المؤقتة ليجدوا أنفسهم في المدينة التي منحتهم العمل، ولكن مقابل التخلي عن حقوقهم في الوصول إلى الرعاية الطبية المجانية.
وحتى في الحالات التي لم تكن فيها مغادرة مدينة التسجيل قراراً طوعياً، عانى السوريون من قانون تقييد حركتهم، فقد كان ضمان استمرار حصول اللاجئين المتضررين من الزلزال على الخدمات الصحية رهن إذن السفر ساري المفعول، وكأن هذا التصريح يحدد صلاحيتهم في الوصول إلى واحد من أبسط الحقوق وأهمها حتى في أحلك الظروف الإنسانية الخارجة عن إرادة الحكومات والدول والبشر كالزلزال الأخير الذي ضرب بعض المدن التركية.
وضمن هذا الواقع اضطر عشرات آلاف السوريين لمغادرة المناطق التي ضربها الزلزال إلى ولايات أخرى، لكن ليحصلوا على الخدمات الصحية المجانية في الولايات التي قصدوها، يشترط أن يحصلوا على "إذن سفر" من رئاسة الهجرة التركية. ومع أن الرئاسة متساهلة في منح إذن السفر لنازحي الزلزال إلا أن موقع تلفزيون سوريا رصد الكثير من حالات رفض تجديد إذن السفر في الفترة الأخيرة.
لماذا يخالف السوريون على مستوى مدينة الإقامة؟
لطالما كان العمل وكسب لقمة العيش هو الدافع الأول لتضحية السوريين بكافة التسهيلات المقدمة لهم في مدن تسجيلهم، ففي استطلاع رأي أجراه موقع تلفزيون سوريا مع 12 عاملاً مسجلين في عدة مدن ولكن يقيمون في إسطنبول؛ أجمع العمال الـ 12 على أن السعي وراء فرصة عمل مناسبة هو السبب الرئيسي لإقامتهم مخالفين في إسطنبول.
وعلى الرغم من أن القانون التركي يسمح لأصحاب الحماية المؤقتة من مدينة معينة بالإقامة في مدينة أخرى عند حصولهم على تصريح عمل في المدينة التي يرغبون الإقامة فيها، يؤكد محمد صاحب إحدى المنشآت الصناعية في إسطنبول التي تضم عدداَ من العمال السوريين المخالفين بأن طلباته كصاحب عمل لاستخراج تصاريح إقامة للعاملين ذوي الحماية المؤقتة من مدن أخرى قوبلت دائماَ بالرفض في السنة الأخيرة.
فرصة العمل مقابل الخدمات الصحية
يدفع السوريون الباحثون عن فرص عمل تناسب مهاراتهم في غير مدنهم المسجلين فيها ضريبة مخالفة قانون حظر التنقل فيتأثر وصولهم إلى الخدمات الأساسية ويقعون في مشكلات ليست في الحسبان.
علاء شاب سوري ثلاثيني -يعمل في مجال رفض الإفصاح عنه- يقول في حديثه لموقع تلفزيون سوريا إنه وجد العمل المناسب ذا الأجر العادل في إحدى الشركات في إسطنبول التي يندر وجود مثيل لها في مدينة إقامته ماردين.
واعتقد علاء بأن الخطر الوحيد لمخالفته في مكان الإقامة سيكون بأن تكتشف أمره دورية شرطة أو حاجز أمن، لذلك اختار سكناً مجاوراً لعمله يكفيه تهديد مواجهة التفتيش على حد قوله، ولكن الخطر الحقيقي كان عندما تعرض علاء لإصابة في عينه اليمنى احتاجت تدخلاً جراحياً طارئاً لا تقوم به مشافي إسطنبول دون امتلاكه لإذن سفر يمنحه الحق في الوجود في إسطنبول.
اضطر الشاب إلى ركوب سيارة أجرة خاصة غير مرخصة تقله إلى مدينة ماردين التي تبعد ما يقارب 1500 كم عن مدينة إسطنبول، مع استحالة سفره في المواصلات العامة والطيارات دون حيازه على إذن سفر.
يصف علاء الساعات الـ 17 التي قضاها على طريق إسطنبول - ماردين بأنها "كابوس يقظة مرعب" لم ينته إلا عند وصوله إلى مشفى حكومي في مردين وتلقيه الدعم الطبي اللازم وإنقاذ عينه.
ولا تطول عواقب المخالفة صاحب القرار فحسب، بل تؤثر على عائلته الملزمة باتباعه كرب الأسرة وكمسؤول وحيد عن تلبية احتياجاتها الأساسية.
تروي رانيا التي حصلت مع زوجها وبناتها على الحماية المؤقتة في مدينة كوجايلي المجاورة لمدينة اسطنبول حكاية ابنتها التي باغتها مرض مفاجئ واحتاجت لرعاية طبية مكثفة لم يتمكنوا من الحصول عليها في المشافي الحكومية في إسطنبول بعد أن قرر زوجها الانتقال إلى هناك.
على الرغم من قربها لمدينة اسطنبول، لا تتوافق مدينة كوجايلي معها بالسخاء في تقديم فرص العمل والخيارات المتعددة لكسب لقمة العيش، وهذا ما دفع زوج رانيا لاتخاذ قرار الإقامة مخالفاً في مدينة غير مدينته المسجل بها فالعمل في إسطنبول هو الذي يضمن له ولأسرته البقاء كما تقول رانيا.
وتكمل في حديثها لموقع تلفزيون سوريا: "حين انتقلنا إلى مدينة إسطنبول لم يكن في الحسبان مرض ابنتنا المفاجئ واحتياجها لتلقي الخدمات الطبية المكثفة التي يستحيل الوصول إليها والاستفادة من المجانية منها في إسطنبول نظراً لقيدها كلاجئة في ولاية أخرى".
يتعذر على رانيا وزوجها اصطحاب ابنتهما إلى مشافي كوجايلي الحكومية المجانية، فالذهاب إلى هناك يعني تكاليف إقامة وتنقل وخسارة زوجها لعمله ليبقى خيارهم الوحيد هو اللجوء إلى الرعاية الطبية المأجورة في المشافي الخاصة في إسطنبول على الرغم من عبئها المادي المرهق خاصة مع احتياج ابنتها المتكرر للفحوصات الشاملة لمراقبة حالتها.
وفقاً لموقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تركيا، فإن قانون تنفيذ ميزانية الرعاية الصحية يعطي الحق للسوريين المسجلين في إطار الحماية المؤقتة الاستفادة مجاناً من جميع الخدمات الطبية في مراكز الصحة العامة والحكومية مع الإشارة إلى أن بطاقة الحماية المؤقتة تؤهل حاملها للحصول على المساعدة المتاحة -بما فيها الرعاية الطبية المجانية- حصراً في مكان تسجيلهم.
متضررو الزلزال من السوريين ليسوا معفيين من إذن السفر
على الرغم من استثنائية الحالة، لم يعفَ السوريون الجرحى الخارجون من مناطق الزلزال من إذن السفر بشكل كامل مهما بلغ وضعهم الصحي حرجاً، فبعد مضي حالة الطوارئ طولب السوريون الماكثون في دور الرعاية الصحية في الولايات التي نقلوا إليها باستخراج إذن سفر يعطيهم الحق باستكمال علاجهم بشكل مجاني وهذا ما حدث مع جيهان التي أرسلت من مدينة أنطاكيا إلى أحد مستشفيات إسطنبول بعد انتشالها من بين ركام منزلها عقب قضائها خمسة أيام تحت الأنقاض، كما روت في حديثها لموقع تلفزيون سوريا.
تقول جيهان التي ما زالت تتلقى العلاج في إسطنبول حتى الآن بسبب الأضرار الجسيمة التي لحقت بجسدها بعد مكوثها لمدة طويلة تحت الأنقاض، إنها تلقت أفضل عناية من الطواقم الطبية إلا أن مطالبة إدارة المشفى لها باستخراج إذن سفر بعد أربعة أشهر لإمكانية استكمال علاجها بشكل مجاني يعد إجراءً مربكاً لمن هم في مثل وضعها.
وتوضح جيهان: "في حالتي كان المرافق الوحيد لي هو زوجي الذي مازال هو الآخر يعاني من آثار الواقعة بعد أن فقدنا أطفالنا الثلاثة"، وتضيف أنه لا يخفى على المقيمين في تركيا صعوبة القيام بالإجراءات الروتينية واستخراج الوثائق من الدوائر الحكومية خاصة مع عدم خبرة الموظفين بالتعامل مع حالات ضحايا الزلزال على اعتبارها حالة جديدة بالإضافة إلى الضبابية في الإجراءات والأوراق المطلوبة ما كلف زوجها الكثير من الجهد والذهاب أكثر من مرة للتمكن من استخراج إذن السفر لها.
في السادس من فبراير/شباط الماضي، ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا زلزال مدمر أودى بحياة ما يقارب الـ51 ألف شخصاَ أكثر من 7 آلاف منهم من المهاجرين بحسب تصريحات وزير الخارجية السابق سليمان صويلو في شهر نيسان المنصرم، كما كشف وزير الصحة فخر الدين قوجة في منتصف آذار من العام الحالي عن استقبال المشافي في جميع الولايات التركية ما يقارب الـ10 آلاف جريح، وكانت أنقرة وإسطنبول وأضنة وغازي عنتاب وأنطاليا هي المحافظات التي استقبلت أكبر عدد من الجرحى.
حقوق الإنسان والدستور التركي
تشير المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى حق كل شخص في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والعناية الطبية له ولأسرته وفي حالة السوريين في تركيا يتأثر الوصول إلى هذا الحق بشكل سلبي بسبب قانون تقييد حركة السوريين على الرغم من أن حرية التنقل واختيار محل الإقامة هي بحد ذاتها حق مُشار إليه في المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويُنسف هو الآخر بموجب قانون تقييد حركة حملة الحماية المؤقتة.
وهنا يوضح سليمان كورت نائب رئيس الجمعية الدولية لحقوق اللاجئين في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليس ملزماً للدول وأن دستور جمهورية تركيا هو اللائحة الرئيسية التي يستند إليها في هذه الحالة حيث تنظم المادة 23 من دستور عام 1982 لجمهورية تركيا حرية الإقامة والسفر.
وتنص هذه المادة على أن "لكل فرد الحق في الاستقرار والسفر" كما تنص المادة 16 المعنونة بـ "وضع الأجانب" على أن الحقوق والحريات الأساسية لهؤلاء الأشخاص لا يمكن تقييدها إلا بموجب القانون بما يتوافق مع القانون الدولي، في حين يوافق القانون الدولي على إمكانية تقييد حرية الاستقرار والسفر لأغراض تنظيم تنقل السكان وحماية النظام العام، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأفراد الذين يدخلون في نطاق الهجرة القسرية وطلب اللجوء.
تتشعب تبعات قانون تقييد حركة السوريين وتتباين آثاره السلبية باختلاف الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية للسوريين وأبرز تلك الآثار وقوع البعض منهم في فخ المفاضلة بين لقمة العيش والصحة، وغالبا ما تكون حقوقهم في الوصول إلى الخدمات الصحية والعلاج قرباناً لفرصة العمل وحقاً مهدورا بمجرد مغادرة حدود مدنهم.
تم إنتاج هذا التقرير بدعم من "JHR - صحفيون من أجل حقوق الإنسان"