تغيير الخرائط وإعادة تشكيل حدود الدول..

2023.07.06 | 06:50 دمشق

تغيير الخرائط وإعادة تشكيل حدود الدول..
+A
حجم الخط
-A

تُعتبر غالبية حدود الدول في العالم اليوم مصطنعة، وقابلة للتبدُّل والتغيير، فقليلة هي الأمم التي بنت دولاً ناجزة عبر التاريخ، وطبعاً هي ليست على ما نراه الآن ويراه العالم في حاضرنا، فهذا التبدُّلات والتغييرات في الحدود الجغرافية للدول تحكمها عوامل عديدة: منها ما يتعلَّق بنوازع التركيب السكاني_الديمغرافي، ومنها ما يتعلق بأسلوب الحكم ونظامه وخاصة حكم الفرد المطلق والصلاحية المطلقة المركزية الشديدة المؤدية حتماً إلى الانفصال، وثالثها ما يتعلَّق بحركة قوى وعلاقات الإنتاج الدولية التي تحكم مسار الاقتصاد العالمي، بما يتم التفاهم حوله بين القوى الكبرى الواضعة لميزان العلاقات_المصالح فيما بينها وتغير موازين القوى وخرائط النفوذ، بعد أن يتم فرزها على الساحة الدولية، وبما يتطابق مع المصالح الدولية لهذه القوى بعد رسم استراتيجياتها الطويلة الأمد، وهذا الأمر لا يقتصر فقط على البلدان الفقيرة أو الدول النامية أو البلدان العربية، بل سارت عليه أغلبية البلدان الأوروبية والآسيوية والإفريقية كذلك، كتفكُّك الاتحاد السوفييتي الشيوعي ومنظومته، ودول أوروبا الشرقية ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وجنوب السودان والحكم الذاتي في إقليم كردستان العراق.

لكن اللافت، أنَّ هذا التفكُّك أو عمليات الانفصال غالباً ما كان قاسمها المشترك في تغيير الحدود وأحوال البلدان، هي الحروب وما ينتج عنها من تداعيات، وهذه سِمة لكلِّ الدول منذ التاريخ القديم التي تتغيَّر حدودها بفعل الغزوات وموجات الاقتتال، ناهيك عن الاستعمار وظواهره المقسِّمة للدول في العالم القديم، حيث تشكَّلت الكثير من الحدود بفعل عامل الاستعمار وبُناه الاقتصادية لما يُسمَّى بالحدود المصطنعة لربطها بالمتروبول الرأسمالي المركزي العالمي، بسبب توسُّع الإمبراطوريات الكبرى، بما يخدم مصالحها الاقتصادية والمالية، وفي إنتاج المواد الأولية وليست بالضرورة أن تكون حدوداً طبيعية.

واللافت كذلك، هو تخوف العالم العربي من هذه الظاهرة التفكيكية للحدود وللخرائط الجيوسياسية، والتي هي نفسها تحكُمها أشدُّ الأنظمة ديكتاتورية وتفرداً في العالم على مدى التاريخ القديم والحديث والأكثر ربطاً بالمتروبول العالمي، خصوصاً أنَّ البلدان العربية لها خصائص في الحكم وفي النسيج الاجتماعي لا ينبغي تجاهلها، بحيث يبدو السودان مثلاً، مقبلاً على أخطار أكبر، بسبب تركيبته السكانية وخلفيته التاريخية خاصة بعد انفصال الجنوب. وثمَّة قلق لا يمكن تجاهله ممَّا يحدث في معظم ساحات الصراع العربية وما يجري فيها الآن، مثل ليبيا وسوريا واليمن، وذلك بعد أن دخل السودان مؤخراً وسريعاً هذ الحالة، لتتوسَّع دائرة القلق فيه أكثر من غيره من الحالات الأخرى.

طبيعة المركزية الشديدة في الحكم بسوريا وتراكم المظلومية لعشرات السنين وضعف التنمية في أطراف الدولة، وترهُّل آليات السلطة وفقدانها ديناميكيتها، والهوة المتوسِّعة بين الحاكم والشعب، جعل مبدأ الانفصال حاضراً ومسهلاً

وما من شك في أنَّ الدول التي يتمُّ قضم أجزاء من أراضيها، تكون بفعل الحروب والانهزام، كما حصل في العديد منها كنتائج وكتداعيات وكأثمان، لكن كذلك بفعل الحرب الداخلية العبثية دون أن يكون للآخرين أي دور كالحالة السورية والعراقية والسودانية واللِّيبية واليمنية. إذ شكَّل الحكم ونظام الحكم في هذه الدول الأداة الأمثل للانفصال الذاتي والعمل على تغيير حدود الدولة بقضم أجزاء منها، أو إضافة الى أراضيها بما يغيِّر في الطبيعة الجيوسياسية ومستقبل الشعوب لمئات السنين.

فطبيعة المركزية الشديدة في الحكم بسوريا وتراكم المظلومية لعشرات السنين وضعف التنمية في أطراف الدولة، وترهُّل آليات السلطة وفقدانها ديناميكيتها، والهوة المتوسِّعة بين الحاكم والشعب، جعل مبدأ الانفصال حاضراً ومسهلاً في كلِّ وقت، رغم وطنية الشعب السوري، وخصوصاً في بلد مليء بالمكونات الإثنية والطائفية والدينية، وفي تنوُّع طبَع سوريا على مدى آلاف السنين بثقافة متفرِّدة في العيش الواحد، وأغناها بتراث تاريخي وبُنى فوقية مَسَحَتها قيادة الحكم السوري على مدى خمسين عاماً، وأبرزت دورها في الوحدة والقومية العربية وحشْد الطاقات، مهملة كل ما يُمكن أن يعزِّز هذه الثقافة، ويُعيد إحياء أو رفع كرامة المواطن في عيشه وحريته وحرية تنقله، والأهم في حرية التعبير عن رأيه. فلن يستوي الحكم إلاَّ في إطار الاستقلال الذاتي لبعض المكونات، وهو ما ينبذه المواطن السوري، لكنه يشكِّل الحلَّ الأخير لهذه المعضلة والمعاناة، بدليل أنه في الشمال الشرقي للبلاد، تنتشر القوات الأميركية وتسيطر قوات كردية على مناطق يحتفظون بها بالغالبية السكانية، ويمارسون حكماً ذاتياً فعلياً، وقد يتعمَّق في المستقبل على غرار أربيل العراق في ظل الحماية الأميركية وعدم وجود أفق تسوية شاملة بعد في البلاد.

وفي اليمن، يظهر الانقسام بحسب المساحة التي يسيطر عليها الحوثيون في مواجهة الحكومة الشرعية، في عملية تكريس لخطوط تماس متقاطعة مع تقسيم اليمن الجنوبي والشمالي الناتج من الاحتلال البريطاني للجنوب، وبناء تطور سياسي واجتماعي منفصل عن باقي اليمن، مع افتراق مذهبي وسيطرة حوثية على الشمال.

أما في ليبيا، فالحال منقسم بين الشرق والغرب منذ بدأ الصراع بين معسكرين، يقف خلف كل منهما أطراف دولية وإقليمية متنوعة، ورغم ذلك، تُبقي المعسكرات المتناحرة في صراعها على السلطة على خيوط التواصل في شأن وحدة البلاد.. لكن إلى متى...؟

واليوم، يبدو السودان مقبلاً على أخطار أكبر بسبب تركيبته السكانية وخلفيته التاريخية، بعد انفصال الجنوب، كما يعتبر  تفجُّر الصراع في دارفور مصدراً كبيراً للقلق الانفصالي، مع التقاطعات المعروفة من دور قوات الدعم السريع وماضيها السيئ في هذا الإقليم، نتيجة الاستهتار بالحكم والشخصنة والتفريط بقوة وثروات الدولة، والأهم أنه نتيجة عدم مساءلة ومحاسبة من أراق الدم بحق شعب السودان البريء.

في كل هذه الحالات يلعب التدخل الخارجي وممارسات الحكم الداخلية وتراكماته، دوراً سلبياً في تعميق مخاوف الانفصال والسير نحوه

كل حالة من حالات الصراع العربية سابقة الذكر، تستحق معالجة شاملة لتقييم أبعادها، وبالتالي إن إعادة تشكيل النظام الدولي والإقليمي، لن يقوم إلاّ على أساس صياغة في إعادة علاقات وحدات الإنتاج الاقتصادية من جديد، ولن تسمح الدول الكبرى بالإبقاء على دول عربية صاعدة بأن تشكل حالة بسماركية (نسبة الى بسمارك موحد ألمانيا) كسوريا والعراق سابقاً، أو السودان بما يحمله من ثروات صارت حاجة المجتمع الدولي ضرورية لقص أجنحته والاستفادة من خيراته، طالما أنَّ نظام الحكم فيه مترهِّل، وغير قادر على الاستمرار للإمساك بمفاصل الدولة.

وهنا تلعب الحداثة في الحكم السياسي دورها الأبرز، خاصة بالنسبة إلى التشكيلات الاجتماعية والتركيبات الديمغرافية التي يواجهها نظام الحكم، عبر تحديات من نفس التركيبة السكانية، وفي كل هذه الحالات يلعب التدخل الخارجي وممارسات الحكم الداخلية وتراكماته، دوراً سلبياً في تعميق مخاوف الانفصال والسير نحوه، والخطير بالأمر هو رهن مستقبل الشعوب في هذه الحالات بمصير التنافسات الخارجية، وبالربح والخسارة وما تخلِّفه من آثار سيئة على هذه المجتمعات.

لن يكون الرهان إلاَّ على الأجيال الشابة الوطنية، إذا ما أتيحت لها فرصة الوصول، مع إدراكها لتعقيدات العالم المعاصر في خلق ظروف مناسبة لبناء وطن بديل في عالم محفوف بالمخاطر وبهجرة الشباب والنزوح، وإدراكهم بمستقبل الدول المظلم بعد التقسيم والانفصال والتشرذم، والخوف من المجهول، وهذا يتطلَّب الصبر والعزم والإيمان، وتراكم النضال التاريخي لتحقيق الإنجازات.