تعفيش الامتحانات وبيع الأسئلة.. أوكازيون الجامعات السورية

2024.06.19 | 07:04 دمشق

52525252525252525252525252525252
+A
حجم الخط
-A

يصر نظام الأسد على محاولة رسم صورة مخملية ومثالية لواقعه المتردي، ولا يتردد في سبيل ذلك باستعمال السوريين كأدوات لتعزيز ذلك الهدف، واستغلال كل إمكانيات المجتمع السوري لجعلها وقوداً لفرنه الذي يحاول من خلاله صهر جرائمه وارتكاباته وتحويلها إلى تحف مزيفة يعلقها على جدران فشله محاولاً طمس معالم الرواية الأصلية وتشكيل صورة مغايرة تصلح للاستهلاك المحلي والتصدير الخارجي وتتوافق مع مشروع بقائه وإعادة تدويره.

وفي إطار محاولاته الذاتية في مشروع إعادة التدوير، لجأ نظام الأسد إلى عقد ما سمّاها مؤتمرات علمية دولية في الجامعات السورية كمؤتمر كلية الهندسة الزراعية في جامعة تشرين، ومؤتمر الاستثمار في قطاع الكهرباء لجامعة دمشق اللذين انتهى جدول أعمالهما منذ يومين.

والمتابع لأعمال هذه المؤتمرات سيلاحظ بوضوح شديد كمّ التزييف والكذب، ففعاليات المؤتمرين الأخيرين في عمقها وحقيقتها بعيدة كل البعد عن الهم العلمي والبحثي، وكل من يدقق في طريقة تنظيم تلك الفعاليات وإحداثياتها الفعلية وأهدافها العميقة لن يرى سوى لهاثها وراء تصدير النظام على أنه منتصر ومتوازن وراسخ ومستمر ومستقر ومهموم بالبحث العلمي، وبتصويره على أنه مسكون بتطوير البلد والبحث عن مصادر ذاتية للارتقاء بالقطاعات الخدمية، وكل ذلك من أجل نهضة الوطن ورفاهية المواطن، وهذا التزييف هو المهمة الفعلية المطلوب من المؤتمرين تصديرها.

سيظهر ذلك الزيف بوضوح أكبر من خلال الحوارات التي أجراها تلفزيون النظام مع المشاركين في كلا المؤتمرين حيث لم يبد على المشاركين فيها أي همّ أو هاجس علمي حقيقي، بل كان الحديث عن المؤتمر وسيلة وواجهة لتصدير رواية النظام فيما يتعلق بالحرب الكونية التي تعرضت لها سوريا وحرْص القائد على السوريين ورفاهيتهم، وكل ذلك بهدف المساهمة في مشروع إعادة تدوير الأسد من خلال تجيير فعاليات المؤتمرين لصالح الإعلاء من شأن الرئيس، (راجع مثلاً برنامج مراسلون، الفضائية السورية، الأربعاء (12/06/2024).

وسيتم تأكيد الكذبة وتأكيد التزييف مرة أخرى وبشكل أوضح من خلال تصدير المؤتمر على أنه "دولي"، رغم أن المشاركة الدولية فيه اقتصرت على ضيف من العراق وآخر من لبنان، ورغم أن هذه المشاركات تعد محلية في حقيقتها لأنها قادمة من ذات محور الممانعة بصرف النظر عن القطر الذي قدم منه المشاركان، إلا أن تصريحات الضيفين للفضائية السورية تشير بما لا يدع مجالاً للشك أن الهدف الأعلى من مشاركتهما في المؤتمر هو الإيحاء بمصداقية النظام في دعم البحث العلمي وحرصه على استضافة الخبراء من خارج سوريا لدعم هذا المشروع، ولكن حقيقة مشاركة الضيوف تتجسد في الحرص على وجود شخصيات تمثل صوتاً غير سوري، صوتاً "عربياً" داعماً لعملية إعادة تدوير الرئيس بعيداً عن الهم العلمي الحقيقي والذي لم يلعب دوراً فاعلاً في أسباب تلك المشاركة.

ظاهرة بيع أسئلة الامتحانات في الجامعات السورية قديمة قدم نظام الأسد وتمثل أحد مظاهر الفساد الضارب في عمق المنظومة الحاكمة.

وبالتزامن مع ما سمّاها إعلام النظام "المؤتمرات العلمية"، ثمة انهيار كبير في العملية التعليمية وتدنٍ غير مسبوق في مستوى التعليم، فضلاً عن الانتشار الواسع والعلني لعملية بيع الأسئلة الامتحانية من قبل أساتذة الجامعات والتي باتت شرطاً أساسياً لنجاح الطلبة في تلك المواد، الأمر الذي جعل الكثيرين من طلبة الجامعات الفقراء يعانون من الرسوب المتكرر في امتحاناتهم حتى وإن كان مستوى أدائهم يؤهلهم للنجاح، نتيجة عدم قدرتهم المالية على شراء الأسئلة ودفع مبالغ كبيرة لأساتذة الجامعة لقاء الحصول على تلك الأسئلة وضمان النجاح.

وفي الواقع، فإن ظاهرة بيع أسئلة الامتحانات في الجامعات السورية قديمة قدم نظام الأسد وتمثل أحد مظاهر الفساد الضارب في عمق المنظومة الحاكمة التي امتدت يدها لكل مرافق الحياة ولم توفر المؤسسات التعليمية والعلمية ابتداء من المدارس الابتدائية وصولاً إلى أعلى المراتب العلمية والشهادات التي تمنحها الجامعات الخاضعة لسلطة الأسد كشهادات الماجستير والدكتوراه والأستاذية والبحث العلمي بكل فروعه.

بدأت ظاهرة بيع أسئلة الامتحانات في الثمانينيات من القرن الماضي مترافقة مع الشرعنة الخجولة نسبياً والمستترة للفساد، وازدادت ظاهرة الفساد حدة ووضوحاً حينما وجه الأسد الأب ضربة قاضية لمصداقية العلم والمؤسسات التعليمية في سوريا من خلال ظاهرة الطالب المظلي التي تم ابتداعها إثر اصطدام حافظ الأسد بجماعة الإخوان المسلمين، وقام حينها بعسكرة العلم والتعليم والتلاميذ والطلاب بشكل أكبر، حيث لم تعد العسكرة في المدارس والجامعات تقتصر على الزي العسكري الموحد الذي فرضه الأسد تحت ذريعة التأهيل الوطني المبكر ومادة التدريب العسكري التي تم اعتمادها كمادة أساسية في المدارس والجامعات، بل ذهب الأسد إلى أبعد من ذلك حين قرر شراء ولاء طلاب المدارس مقابل منحهم زيادة في الدرجات التي يحصلون عليها في شهادة الثانوية العامة والتي حددت حينها رسمياً بـ 45 علامة، مع صلاحيات مفتوحة للجهات الأمنية لزيادة تلك الدرجات كما يحلو لها للطلبة الذين تثق بولائهم ممن خضعوا لتلك الدورات العسكرية التي تم تأهيلهم من خلالها للقفز المظلي.

وليس من الغريب أن معظم المعنيين بالشأن العلمي والكثير من الطلبة حينها تعاملوا مع زيادة العلامات للرفاق المظليين كما لو أنها حق مشروع لا يتناقض مع العلم والتعليم وتم اعتمادها بالتالي كجزء من النظام الداخلي في المدارس، لأن الأسد الأب كان مصدر التشريع في سوريا ولم يكن أحد يجرؤ حينها على الاعتراض، بعض الأصوات التي حاولت الاحتجاج على ذلك الواقع، كانت استثناءات حول الأسد أصحابها إلى عبرة للآخرين، وكان الطلبة المظليون الذين قبلوا بتلك المقايضة يضيفون علامة القفز المظلي على معدل درجاتهم وكأنها بديهية تدخل في المقياس العلمي بشكل طبيعي وقانوني.

في تلك الفترة كان على أساتذة الجامعة الشرفاء أن يتصارعوا مع الواقع الجديد حيث كانوا يرون انهيار العملية التعليمية وتوظيفها سياسياً وأيديولوجياً دون أن يستطيعوا فعل شيء يوقف تفوق الولاء على العلم، وازدادت معاناتهم مع توافق الكثير من أساتذة الجامعة الآخرين مع هذا الواقع أو خضوعهم له، وتلاشي حس المسؤولية لدى الكثيرين بالتدريج نتيجة إحساسهم بعبثية المحاولات لإنقاذ العلم من أنياب السياسة.

ومع تراجع الإحساس بالمسؤولية، إضافة إلى تراجع رواتب أساتذة الجامعة وحركة الغلاء المضطرد التي شهدتها تلك الفترة، ومع إيمان الكثير من الأساتذة بعدم جدوى المعايير العلمية والمبادئ أمام توحش الظاهرة واستفحالها، لجأ الكثيرون إلى بيع الأسئلة الامتحانية كدخل إضافي يستطيعون من خلاله الوصول إلى حالة التوازن الاقتصادي مع متطلبات الحياة.

ولكن الفرق بين متاجرة أساتذة الجامعة بأسئلة الامتحان أيام الأسد الأب ومتاجرتهم اليوم، يكمن في بعض الحياء والخوف اللذين رافقا تلك الظاهرة حينها، والوقاحة التي تمارس من خلالها اليوم وكأن بيع أسئلة الامتحانات في هذه الفترة من حكم الأسد الابن بات مشروعاً وأمراً غير مخالف للقوانين، لمَ لا ونحن نرى أعلى هرم في السلطة السياسية ينتج المخدرات ويتاجر بها، ويكذب في كل ما يتعلق بقضايا الدولة، ويقدم على ارتكاب المجازر وكأنها عمل وطني بحت.

ليس غريباً على نظام الأسد أن يلجأ إلى إصدار تسعيرة رسمية وعلنية لثمن أسئلة الامتحانات.

بالطبع، فإن بيع الأسئلة ليس متاحاً لكل أساتذة الجامعة، فهو يقدم كمكافأة لمن شارك في دعم الأسد وتصدير روايته وتمجيده خلال سنوات الثورة والحرب التي خاضها النظام ضد شعبه، أما الأساتذة الآخرون ممن لم يساهموا بشكل مُرضٍ في دعم النظام فهؤلاء يتركون كعينة يتم تطبيق العقوبة عليها واستثمارها في تصدير دولة القانون وقت الضرورة..

يعي أستاذ الجامعة أنه يضرب العلم في مقتل حين يبيع أسئلة الامتحانات ويقضي على ما تبقى من مصداقية التعليم في سورية، ويعي معظم الطلبة المستفيدين من هذه الحالة خطورة نجاحهم الزائف، ولكن ذلك كله أصبح منظومة معيارية متعارفاً عليها، منظومة متكاملة تستعمل البلد كلها لجعلها في خدمة بقاء الرئيس ودعم إعادة تدويره، وفي سبيل هذا الهدف، يهون كل شيء في سوريا الأسد.

تلك جريمة قديمة جديدة ومستمرة استمرار حكم العصابة الحاكمة، وعلى غرار ظاهرة التعفيش التي انتشرت كعرف يشبه القانون، أصبح تعفيش الجامعات وتعفيش العملية التعليمية والعلمية بأكملها أمراً لا يستوقف أحداً في سوريا المتجانسة، فمن وافق على القتل والمجازر والتهجير لن يجد في بيع أسئلة الامتحان أمراً يستحق التوقف عنده.

ليس غريباً على نظام الأسد أن يلجأ إلى إصدار تسعيرة رسمية وعلنية لثمن أسئلة الامتحانات، فمن أصدر قراراً بمنح درجات إضافية لطلبة الشهادة الثانوية بالاعتماد على خضوعهم لدورة المظليين لن يتردد في إشهار أسعار المواد الامتحانية بشكل رسمي أيضاً.