هذا هو الجزء الثاني من مراجعة كتاب تطور المجتمع السوري، لمؤلفه نشوان الأتاسي، وفي الجزء الأول تم الحديث حتى انسحاب الأمير فيصل من سوريا، ودخول قوات الانتداب الفرنسية إلى دمشق.
اتفاق فرنسي تركي
بعد اتفاق الفرنسيين مع الاتراك على تسليمهم إقليم كيليكيا الذي كان تاريخياً تابعاً لحلب، أوقف الأتراك الدعم الذي كانوا يقدمونه للثوار السوريين، ما أدى إلى اقتناع الحلبيين بالنضال السوري الموحد من أجل الاستقلال الوطني، وبدؤوا بتمتين صلاتهم مع دمشق.
مع أفول الاضطرابات في ربيع 1922 ألف الجنرال غورو مجلساً اتحادياً من خمسة عشر عضواً، ويشمل الدول الثلاث دمشق وحلب وجبل العلويين، ولكن هذه الانتخابات لم يكتب لها النجاح، حيث تمت مقاطعتها من الغالبية، فضلاً عن غياب أبرز الشخصيات الوطنية في المنافي.
اقرأ أيضا: الجيش والأقليّات والساسة.. مرحلة التأسيس
الثورة السورية الكبرى
الثورة السورية ضد الفرنسيين التي انطلقت من جبل العرب في السويداء بقيادة سلطان باشا الأطرش، امتدت الى دمشق وحلب، وحتى جنوب لبنان، في حين لم تشمل بلاد العلويين التي ظلت معزولة تحت حماية فرنسية.
الثورة التي كانت مشروعاً باهظ التكاليف كشفت عن وجود خلافات كبيرة بين أعضاء الحركة الوطنية، بعضها لأسباب شخصية، وبعضها يعود لفترة ماقبل الانتداب الفرنسي.
أبرز الكتل السياسية حينئذ هي الكتلة الوطنية التي كانت غالبية أعضائها من برجوازيي المدن الداخلية، حيث نالت دمشق 50 بالمئة وحلب 30 بالمئة، وعشرة لحمص ومثلها لحماة، وهم بنسبة 90 بالمئة من السنة الملاك، وهم ذوو مستوى تعليمي مرتفع، " كانت سياستهم أقل نضالية بكثير من جمعية القبضة الحديدية أو حزب الشعب، فقد ولدت سياستها القائمة على التعاون المشرف من رحم الهزيمة". خصوصاً بعد التدمير الكبير الناتج عن القصف الفرنسي الذي طال حي الميدان وغيره.
اقرأ أيضا: المغامرة الإنكليزية – الفرنسية في لواء دير الزور 1918-1921
تم تشكيل حكومة ترأسها الشيخ تاج الدين الحسني، وضمت أعضاء من الكتلة الوطنية في محاولة لاستيعابهم.
ثم بعد ذلك تم وضع دستور احتوى على ست مواد تؤكد أن سوريا الطبيعية بما فيها لبنان وفلسطين وشرقي الأردن وحدة لا تتجزأ، وهذا ما أغضب الفرنسيين، وعليه قام الأخيرون بتعطيل الجمعية التأسيسية.
عام 1931 أعلنت الكتلة على مضض قبولها بالتعديلات الدستورية التي أجراها المندوب السامي الفرنسي.
الكتلة السياسية الثانية هي عصبة العمل القومي، والتي تميزت بتنوع الأصول الطبقية لأعضائها، من مهنيين وتجار إلى كبار الملاك، ولكن الأغلبية كانت من الفروع الفقيرة من هذه العائلات.
اقرأ أيضا: جيش الشرق: الفرنسيون على البغال في شوارع المحروسة
الحرب العالمية الثانية
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وسقوط فرنسا تحت سيطرة النازيين، وإقامة نظام فيشي الموالي للألمان، حيث تم بمقتضاه تسليم القواعد الجوية في سوريا للألمان، خصوصاً خلال انقلاب رشيد عالي الكيلاني، الأمر الذي أدى إلى تعرض سوريا لغزو بريطاني، بمشاركة قوات فرنسا الحرة بقيادة الجنرال شارل دو غول، وهذا ما أدى بدوره إلى زيادة الشك والريبة بين الحليفين.
عام 1943 أجريت انتخابات فازت فيها الكتلة الوطنية التي يقودها شكري القوتلي، وتم الاحتفال بتشكيل الحكومة بحضور بريطاني فرنسي، دون أية امتيازات لفرنسا، في نفس الوقت في لبنان كان هناك ائتلاف بين بورجوازيي البلد من السنة بقيادة رياض الصلح، والأخير هو من الأعضاء المؤسسين للكتلة الوطنية السورية، والموارنة بقيادة بشارة الخوري، والشخصيتان من أنصار لبنان العربي المستقل. ولكن بعد انهزام النازيين، وتحرير فرنسا عادت القوة للفرنسيين، فتم زج الخوري والصلح وغيرهم في السجن.
الاستقلال السوري
يقول الكاتب إن هذه الأزمة كانت البداية لانتهاء الانتداب الفرنسي في كل من سوريا ولبنان، إذ بدأت المظاهرات عام 1945 في البلدين بعد ذلك، لجأت قوات الاحتلال الفرنسية لإخمادها عبر القصف الجوي، وفيها قتل نحو أربعمئة شخص وجرح أضعافهم، وهنا تدخلت بريطانيا، لأن سياسات حليفتها ستهدد الوجود الإنكليزي في المنطقة العربية، وعليه وافقت فرنسا على نقل إمرة القوات الخاصة إلى السوريين واللبنانيين، ولم تبق سوى خطوة واحدة لنيل الاستقلال الكامل، وهي انسحاب القوات الفرنسية من الشرق، وبعد ضغط دولي تم الانسحاب الفرنسي من سوريا في نيسان من عام 1946، وهذا الهدف الذي سعى إليه الوطنيون، ولكن ما حصل خلال فترة الانتداب من تغيرات داخل بنية المجتمع، والإيديولوجيات التي لم تكن موجودة من قبل، " الأمر الذي فتح الباب عريضاً أمام أفول دور الأعيان والملاك البيروقراطيين والتجار البرجوازيين، الذين شكلوا العنوان الأبرز لمرحلة في التاريخ السوري، امتدت على زهاء نصف قرن من الزمان".
اقرأ أيضا: حكومة فيشي.. واستقلال دمشق المؤقت
يرى المؤلِف أن الفرنسيين الذين أرسلوا الباحثين والمستشرقين إلى المنطقة لدراستها، وضعوا الخرائط قبل الحرب العالمية الأولى فوجدوا أن المسلمين السنة يسيطرون على السواحل والسهول الداخلية، في حين تقيم الأقليات في الجبال خوفاً من الاضطهاد، فحاول الفرنسيون إبعاد السنة عن الساحل وحصرهم في الداخل، عبر إنشاء دويلات طائفية شرق المتوسط.
الفصل الثالث: العهد الاستقلالي بين انتدابين (1946-1963)
نالت سوريا استقلالها تحت اسم الجمهورية السورية بمساحة 185 ألف كم مربع، بعد أن كانت في بداية الانتداب عام 1920 مساحتها 300 ألف كيلو متر مربع.
بعد اكتمال احتلالهم لسوريا عمد الفرنسيون إلى تشكيل قوات الشرق الخاصة، والتي كانت غالبية المجندين فيها من الأقليات، وخصوصاً العلويين، الذين ركزت عليهم فرنسا بشكل خاص.
قوات الشرق
القوات التي وصل عددها عام 1936 إلى 15 ألف جندي، كان الهدف من إنشائها هو استخدامها لضرب أي تحرك ضد الانتداب في سوريا، " ومع مرور الوقت تصاعد دور الضباط العلويين، ونمت التجربة العسكرية في أوساط الطائفة، وهذا ما يشرح دور العلويين الكبير ضمن المؤسسة العسكرية السورية بعد الاستقلال، مقارنة بنسبة عددهم إلى عدد السكان".
بعد الاستقلال دارت خلافات بين الكتل السياسية حول قبول هؤلاء العساكر، الذين كانوا يوصفون بالخونة، ولكن في النهاية تم ضمهم للمؤسسة العسكرية الوليدة، وقد كان لأكرم الحوراني اليد في ذلك، فضلاً عن حاجة البلد إليهم كونهم تدربوا على الانضباط على يد الجيش الفرنسي القوي.
وفي هذا الصدد ينقل الأتاسي عن المؤرخ كمال ديب قوله: " لقد كانت غلطة تاريخية ارتكبتها العائلات السنية المدنية والتجارية وعائلات الملاكين في الأرياف. إذ إن تعاليهم عن الخدمة في الجيش واحتقارهم لمهنة العسكرية جعلا أعداءهم الطبقيين أصحاب نفوذ وسلطة في القوات المسلحة، استعملوها فيما بعد لتسلّم مقاليد الحكم في سوريا".
انفراط الكتلة الوطنية
بعد الاستقلال انقسمت الكتلة الوطنية، فأسس أعضاؤها في دمشق الحزب الوطني، وفي حلب أسسوا حزب الشعب. الحزبان اللذان لم يكن فيها أي بعد عقائدي إيديولوجي، كانا متفقين بخصوص السياسة الداخلية القائمة على دعم التجار والصناعيين في المدن، والحفاظ على العلاقات الزراعية القائمة في البلاد.
في ذلك الوقت بدأت الأحزاب الإيديولوجية الشعبوية المتأثرة بأوروبا فيما بين الحرب بالظهور، وقد كان للرفض الشعبي لمفرزات اتفاقية سايكس بيكو والدعم الإنكليزي الكبير للحركة الصهيونية لإقامة الدولة العبرية في فلسطين، الأثر الكبير في تقوية تلك الأحزاب.
أحزاب ما بعد الاستقلال
يرى الكاتب أن عصبة العمل القومي كانت الأساس الذي قامت عليه الأحزاب القومية فيما بعد، كحزب البعث الذي أسسه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي، حيث تم الدمج بينه وبين العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني. ولكي يستطيع صغار الضباط العلويين والدروز والسنة التعبير عن أهدافهم وتطلعاتهم كانوا بحاجة إلى إيديولوجيا وفرها لهم حزب البعث.
إضافة إلى حزب البعث كان هناك الحزب الشيوعي الذي تم تأسيسه منذ عام 1924، أما الحزب الثالث فهو السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه أنطون سعادة 1932، وقد كانت شعبية هذا الحزب كبيرة عند المسيحيين والعلويين، لأنه كان معادياً للإقطاع، إلا أن معاداته للعروبة، جعلت شعبيته قليلة في المدن الريفية الأخرى.
إلى جانب هذه الأحزاب العلمانية الطابع ظهر في سوريا حزب الإخوان المسلمين عام 1939 كفرع سوري للحزب الذي أسسه حسن البنا في 1928.
هذه الأحزاب الأربعة تشترك حسب المؤلف بثلاثة أمور: 1- أن منظريها جاؤوا من الطبقات المتوسطة، التي كانت تسعى للحصول على دور في الحياة السياسية. 2- كلها أحزاب عابرة للوطنية، ولم يحمل أي منها شعارات وطنية. 3- الحط من قيمة الهوية الوطنية السورية.