وسط الأضواء يدخل بشار الأسد قاعة اجتماع القمة العربية في الرياض، محاطا باهتمام عدسات التصوير، والحاضرين، يسير محاطا بمرافقيه وموظفي البروتوكول إلى مقعد سوريا الفارغ منذ أكثر من عقد، ويجلس حيث لا ينبغي له أن يكون، في حين يتابع عشرات الملايين الحدث عبر الشاشات متسائلين، عما إن كان هذا المشهد القريب من السريالية، هو إعلان نهائي بانتصار القاتل على ضحاياه، أم أنه مجرد مرحلة في درب آلام سوري طويل، لن يقدر له أن ينتهي، لا هو ولا الثورة التي ولدت لتنهيه.
لن نستبعد مثل هذا المشهد، فهو يبدو أقرب اليوم من أي وقت مضى منذ انطلقت الثورة بدعم شعبي عربي، تماهى معه النظام الرسمي، حينما قام بعزل النظام المجرم، ورفض أن يقبل وسطه عصابة مجرمة تقتل السوريين وتتعامل معهم كما تعاملت مع اللبنانيين من قبل بطريقة العصابات وقطاع الطرق لا كرجال دولة وحكم. حينها شعر السوريون أنهم ليسوا وحدهم، وكان أن حققوا منذ وقت مبكر تقدما على عدوهم في الميدان كاد أن يطيح به لولا انتكاسة، ما زال أمرها مشوشا، وستحتاج بعد كل ما حدث إلى فضح، هو أبسط ما يستحقه الشعب وضحاياه.
سيكون من المربك أن يبادر نظام عربي للتقارب من الأسد من دون أن يحسب حسابا لما فعل مع سوريا وشعبها، بل حتى النظام العربي بأكمله
عودة الأسد للنظام العربي، ليست مفاجئة ولا شاذة عن طبيعة السياسة وتقلبات الأحوال، فقد طال بالثورة الأمد، وتعقدت أوضاع المنطقة، وعلاقات الدول الكبرى، وبات بعض الرسميين العرب يتحدثون عن مقاطعة نظام الأسد بوصفه نمطا من ترف جيوسياسي لا تحتمله الأوضاع المستجدة، ولا تطوراتها المحتملة، وهو ما برر به هؤلاء تطبيع العلاقات مع النظام.
وسيكون من المربك أن يبادر نظام عربي للتقارب من الأسد من دون أن يحسب حسابا لما فعل مع سوريا وشعبها، بل حتى النظام العربي بأكمله، وما كبده من خسائر جوهرية، تضمنت خصوصا، تمكين إيران وتحويل سوريا إلى قاعدة متقدمة لمشروعها العدواني في المنطقة، وفتح الأبواب للإرهاب، فكل ذلك سيتعدى التعامل مع قاتل ورأس رمح إيراني، ليبلغ حد التواطؤ معه، ومشاركته جرائمه، ولن يقدم نظام سياسي عاقل حريص على مصالحه، ناهيك عن سمعته الإنسانية على أن يفعل ذلك، لكن عجلة التطبيع تجري بعكس هذا الاتجاه والاعتبارات.
وقد ذهبت بعض التحليلات والتسريبات إلى أن التطبيع مع النظام في دمشق هو مجرد بداية لـ (احتواء) النظام وفصل ارتباطه مع إيران، وربما يكون هناك (مشروع) عربي لإيجاد حل للقضية السورية، أو على الأقل أن يكون للعرب مقعد على طاولة الحل الذي يبدو أنه يحث الخطى بقيادة روسية وبمشاركة إيران وتركيا إلى جانب النظام، لكن أيا من هذه الرؤى الافتراضية، لا تبدو منطقية أو قابلة للتحقق في ظل تسارع التطبيع من دون ضمانات واضحة، ولا تغيير من أي نوع في سلوك النظام أو مقارباته الداخلية والخارجية، بل إنها يمكن أن تقدم رسائل خاطئة توحي للأسد بأنه قد (انتصر) على النظام العربي، وليس في وارد الاستجابة لأي من المطالبات الخاصة بفك ارتباطه مع إيران أو التوقف عن قمع شعبه.
ليس متوقعا أن المطبعين قد فاتهم أن نظام الأسد بعد 12 سنة من المقاطعة قد تحول من عنصر عبث بالأمن العربي إلى حجر زاوية في المشروع الإيراني ضده، ولن تخدعنا بالطبع حالة المصالحة الحالية في المنطقة، فطهران تعتبر سوريا خط دفاعها المتقدم، ومحور مشروعها التوسعي، وهي لن تضحي بذلك تحت أي ظرف، فذلك بعيد تماما عن الاستراتيجية الإيرانية المتواصلة منذ 44 عاما، وهو ما يخلق تشويشا واسعا عند السوريين عن المكاسب التي يمكن أن يحققها المطبعون لبلدانهم، فضلا عن أن الأمل بتعديل سلوك النظام تجاه شعبه هو نمط من الوهم المطلق، لا يستقيم أبدا مع طبيعة النظام، ومع تغول نظامه الأمني الإجرامي بل وسيطرته على الدولة بكل مرافقها، وتحوله إلى شبكة محكمة مرتبطة بشبكات الإرهاب، وتجارة المخدرات.
القضية الملحة اليوم، هي أن سوريا مهمة بذاتها ولا غنى عنها بسبب موقعها ودورها الاستراتيجي والمركزي في المنطقة، وهذا هو العنصر الجوهري الذي تركز عليه النظم المطبعة، لكن في حقيقة الأمر أن سوريا الحالية لا يمكن أبدا أن تكون عنصر دعم للنظام العربي مهما كانت مغريات الحفاوة بالأسد وأركان نظامه، فهؤلاء لم يعودوا أصلا أصحاب قرار مستقل حتى لو كان لمصلحة النظام دون مصالح سوريا، وقد ارتهنوا لإيران وبعدها روسيا، نظير دعم النظام ضد شعبه، وتثبيت سلطته كأمر واقع يبدو النظام الرسمي العربي كأنه يخضع له اليوم.
بعض الساعين للتعامل مع الأسد يجب ألا ينتظروا من الأخير أن يكون لحضوره في القمة العربية المقبلة أهمية في تغيير أقدار المنطقة أو تعزيز قوتها
لقد تبدى بوضوح لسوء الحظ أن البعض يمكن أن يطبع مع النظام السوري دون اعتبار لما قام به تجاه شعبه، متذرعا بغلبة المصالح، والواقعية السياسية، لكن المشكلة هي في أن بعض الساعين للتعامل مع الأسد يجب ألا ينتظروا من الأخير أن يكون لحضوره في القمة العربية المقبلة أهمية في تغيير أقدار المنطقة أو تعزيز قوتها، وما سيحصل هو العكس تماما، ولن تخدعنا مظاهر البروتوكول والأضواء وحفاوة استقبال رئيس النظام، في اليقين من أنه لن يمثل سوريا بقدر تمثيله لمصالح المحور الذي يعمل لصالحه، محور إيران وتجار الكبتاغون.