تتعدد الركائز الفنية التي يقوم عليها المعرض التشكيلي الأخير للفنان (عدنان جتو) في غاليري الكاف- بيروت، بعنوان (قريب جداً، بعيد جداً). فرغم أن طغيان اللوحة يميز المعرض، 20 لوحة، فإن هناك حضوراً لفنون أخرى، وأبرزها الموسيقى والرقص. ذلك أن الفنان يجسد في تنويعات لوحاته تلك العلاقة المركبة واللامتناهية التي تربطه بالرقص والتي استلهم منها تجربته الفنية الحالية، كما يبين في النص التقديمي المرافق للمعرض: "قريب جداً، بعيد جداً، رقصة متناقضة تردد صدى تعقيدات الوجود".
لذلك، يمكن قراءة اللوحات باعتبارها تنويعات تشكيلية في تجسيد الموسيقى والحركة الراقصة داخل اللوحة، فيتنوع الإيقاع وتتكثف حركة الجسد الراقص تجريدياً في اللوحة، لكن أيضاً الجسد الراقص على الخشبة، على الوجود بكليته، الجسد الراقص فوق المنظر الطبيعي، أو الجسد الراقص في غمرة الألوان. فلا يقتصر الرقص باعتباره حضوراً لحركة جسدية تشكيلية بل يحمل أبعاداً تعبيرية بين اللوحة والأخرى.
الرقص استعراضاً: بين الخشبة والجاز والبريك دانس
تطالع الزائر للمعرض بداية رسومات الكتل اللونية الراقصة في أماكن العرض مثل المسرح، أو الغرفة، أو المنصة. في لوحات مثل: (انعكاس)، (انعكاس على المنصة أو المسرح) تشكل الضربات اللونية للفرشاة بكثافة حضور تشكيلياً متحركاً في وسط اللوحة، يوحي بالحركة الدورانية أو الالتفالية التي يقوم بها الجسد حول نفسه في لحظات الرقص، بينما يبدو الفضاء الخلفي مغلقاً للإيحاء بالرقص الجاري على خشبة المسرح أو في غرفة، أو في أي مكان يشترط فيه أن تنعكس الأشياء الطافية في الهواء على الأرضية، ليصبح الجسد الطافي في أعلى اللوحة انعكاس للجسد السابح في أسفل اللوحة. اللوحة الأولى (انعكاس) تولف من تدرجات اللون الأخضر بشكل أساسي، وتوحي بالحيوية والسكينة في الوقت عينه، إن عين المتلقي تراقب كياناً أو حضوراً في لحظة الرقص المتوازن مع الطفو. أما لوحة (انعكاس على المنصة) فإن ألوان البني الداكن تشكل شعوراً أكثر سكوناً من سابقتها، لكن أشد إثارة للقلق في نفس المتلقي.
يمزج الرسام مجموعة الألوان هنا، بما يماثل المزج الذي يقوم به الراقص بين الحركة والإيقاع. إنها المهارة الفنية بين الرسام والحيوية اللونية وبين الراقص والإيقاع الموسيقي. وهذا تخلق مستويات متعددة مستمدة من العناصر المشتركة بين البنية الموسيقية واللوحة التشكيلية، وهي: الإيقاع، اللحن، التناغم، النسيج، الشكل. في كتابه Opticks، 1704 بيّن نيوتن أن ثمة علاقة علمية بين الصورة المرئية، ممثلة بحركة أشعة الضوء، والتي تدرك كلون، وبين الصوت، مثلاً بذبذبات الجسم المصموت، مثل الوتر في الآلة الموسيقية. عميد الأكاديمية الفرنسية كتب في عام 1721:
"يجب أن تتمتع كل لوحة بصيغة أو أسلوب يميزها. فقد يكون الهارموني فيها حاداً حيناً، أو حلواً في حين، حزيناً حيناً أو مبتهجاً في حين، وفق الطبيعة المختلفة للموضوع الذي يريد الفنان تقديمه".
تتابع لوحة بعنوان (بالرينا راقصة الباليه) تكوين العالم اللوني والإيقاع الشكلاني بما يجسد الهيئة الراقصة، لكن هذه المرة في حالة صراع أو تراكب معقد يوحي بالتوتر الذي يمكن أن يعيشه الجسد الراقص لحظة تراكب الأعضاء فوق بعضها البعض أو تنافرها. وبالإضافة إلى نوع الباليه الكلاسيكي، فإن الفنان يخصص لنوعين موسيقيين آخريين لوحات ضمن الإطار نفسه: النوع الأول موسيقى الجاز في لوحة بعنوان (اهتزازات الجاز)، يتم تجسيد الهيئة الراقصة في حالة الاستعراض، حيث المشهد الراقص يقدم لعين المتلقي ضمن فضاءه الخاص، في المكان الذي يكون الرقص فيه استعراضاً. فتهتز اللوحة بالحضور الفيزيائي للذبذبذات الموسيقية كما يوحي عنوان اللوحة المخصصة لموسيقى الجاز، ويشحن الرسام الجو العام للوحة باللون الأحمر لتوحي الكتلة المرسومة بحركة إيقاعية لا تنتهي. أما النوع الموسيقي الثاني فهو (Break dance) أو نوع الرقص المتكسر الذي عرف في الولايات المتحدة في السبعينيات وعرف انتشاره الأوسع في تسعينيات القرن الماضي، وهو الرقص المرافق لأنواع موسيقية كانت جديدة في حينها مثل الهيب هوب والراب. يختار الرسام تصوير هذه الموسيقى الراقصة باللون الأصفر، حيث الهيئة الراقصة في هذه اللوحة تتمدد من الأرضية أسفل اللوحة، باتجاه الوسط ثم لتنتشر بمدى واسع حتى الطرف المقابل من اللوحة. ويحافظ الرسام على إيحاء القلق والخطورة التي تميز هذا النوع الراقص.
الرقص وجوداً: الطفو بين بهجة الوجود ووحشته
مجموعة اللوحات التالية تخرج من حالة الرقص الاستعراضي، إلى الرقص الممتد على مساحة الوجود. هذه اللوحات تخرج من إطار الرقص التعبيري، إلى ابتكار حالة من الرقص التواصلي، الاحتفاءي مع العالم والوجود. يكتب الفنان:
"عندما أشاهد شخصًا يرقص، أرى حوارًا يتكشف أمامي. حوارٌ قد يكون جديداً لم أعيه من قبل، لكنه سرعان ما يصبح حقيقة صعبة النسيان. فأجدني منبهراً بذروة التواصل عندما تُصاغ المشاعر والأفكار تموجات جسد. الرقص أداة يتناغم من خلالها ما خفي في خبايا أنفسنا ، ويتعزز عبرها اتصال أعمق مع العالم من حولنا".
مجموعة من اللوحات تمثل الرقص باعتباره وسيلة تواصل مع الوجود، أو تفاعل معه. لوحة (الطفو في الإيقاع) يتساوى فيها حضور الهيئة الراقصة في اللوحة والمساحة المحيطة بها. مساحة الجسد ومساحة اللوحة في حالة من التساوي. كذلك تذكر لوحة بعنوان (القفز حتى الشروق) بعناوين مقطوعات الموسيقي الألماني هاندل من مرحلة الباروك والذي بدأ يستحضر هيئات بصرية في موسيقاه، في السعي لتشكيل اللوحة النغمية Tone-painting، التي تستثير الموسيقى فيها صوراً في مخيلة المستمع. كانيستعين بالنصوص الأدبية التي تتضمن مشاهد بصرية: وحملت مقطوعاته الموسيقية عناوين من قبيل: البحر العاصف، وشروق الشمس، هدأة ما بعد العاصفة.
لكن لوحة بعنوان (الرقص بكليته، 120x140) تسعى إلى تجسيد علاقة الكينونة بين الجسد الراقص والحركة في ذروتها، اللون الأسود المسيطر على اللوحة يوحي بهيئة راقصة متكاملة مع ذاتها لكن ثابت في المكان، بالمقابل تقدم لوحة بعنوان (طفو الجسد) كتلة الهيئة الراقصة أوسع من مساحة الفراغ على قماش اللوحة من حولها. إن سلسلة اللوحات هذه تحاول ابتكار الحركة الراقصة كطريقة في الوجود. أو بالعكس، كما كان يرى جانم جاك روسو، بأن الموسيقى بقدرتها الهائلة في المحاكاة الحيوية هي التي تملك القدرة في تحريك شعور المتلقي الواقف أمام اللوحة. لكن الأكيد، أن الرسام جتو يستعمل اللون في وظيفته النفسانية أيضاً. يكتب الشاعر (فوزي كريم) عن اللون عند الرسام ديلاكروا: "ينطلق ديلاكروا من قاعدة ربطه اللون بالمزاج الفني، بالإضافة إلى أن اللون بالنسبة له قد يملك خصائص تجريدية أو موسيقية خالصة، وسعى إلى تحرير اللون من وظيفته الطبيعية". ويمكن ختام مجموعة الرقص في الوجود بلوحتين بعنوان (الرقص الاحتفالي 1، و2 ) وفيهما تحضر الجموع البشرية في أداء الرقص، ولا تعود الهيئة الراقصة فردية بل يحضر التحول تدريجياً إلى الرقص الجماعي، ومن ثم الرقص في تمازج مع المناظر الطبيعية.
الرقص المزاجي: اللون في التعبير عن الجوهر العصي
قبل الانتقال إلى تجربة تجسيد الطبيعة، كالآرض وطبقات السماء والشمس من خلال هيئة الجسد الراقص، تطالعنا مجموعة من اللوحات تركز على العالم النفسي والمزاجي للون. إنها لوحات تركز الرقص على اللون بشكل قطعي، منها (الاستلقاء في الإضاءة)، لكن الأكثر تعبيرية ومزاجية منها هي التي تلعب على جوهر اللون، مثل (إشعاع في الأسود)، (الأسود الضاج بالألوان)، (مزيج من الأصفر). هذه اللوحات الثلاثة، كما توحي عناوينها، تسعى لتجسيد الحركة من خلال نقيض جوهر اللون مثل الأسود اللامع، أو مثيل جوهره المزيج في الأًصفر. إن فكرة الإشعاع في الأسود أو المزيج في الأصفر أو حتى مفارقة الأسود الضاج باللون، تتابع فكرة المعرض بتنويعات تشكيلية راقصة، لكنها تمنحها جواً من الإضطراب أو الغموض. يكتب (فوزي كريم) عن حضور اللون عند عدد من الفنانين الطليعيين: "رسام مثل فان كوخ ذهب باتجاه الاستعمال التعبيري للون بنزعة ذاتية خالصة، في حين ذهب غوغان مع اللون إلى التجريد التزينيي الخالص، وأكمل ماتيس في مطلع القرن العشرين مهمة الطلاق بين اللون وبين الطبيعة، ثم أطلق كاندينسكي اللون من أسر أي هدف دلالي، وجعله قيمة روحية تجريدية خالصة. يقول ديلاكروا: "اللون، لا الشكل، هو الفضيلة الجوهرية للوحة"، والفكرة المفضلة لديه هي "أن الأشكال والخطوط التي ترى عن بعد قادرة على الوصول إلى المناطق الأكثر حميمية للروح، وعلى إيصال ما يمكن أن نسميه بموسيقى اللوحة".
لكن للروح أو للتعبير الجواني عوالم متقلبة، ليست خاضعة دوماً لبهجة الرقص الموسيقي أو الرسم الإيقاعي، في لوحة (نرجس) تتحول الهيئة الراقصة إلى إيحاء من الغضب، تتعاظم الكتلة المرسومة في أكبر لوحات المعرض لتبدو وكأنها تشتبك مع حضورها، مع مساحة سطح اللوحة كاملة، وربما مع صالة المعرض أيضاً. فالنرجسية الظاهرة باللون الأخضر والأزرق تحتل عمق فضاء الصالة بقياس 150x200، وتظهر فيها الكتلة الراقصة منفصلة عن انعكاسها الأرضي، أو في حالة خلاف وتشنج معها. هكذا يتحول الرقص إلى تعبير غاضب، أو إيحاء عن الانقسام الذاتي أو الصراع الذاتي. ويظهر الشعور بالضيق أو بالقلق كأحد غايات الرسام من لوحة بعنوان (يوم موحش للرقص) باللون الأسود والأبيض، يتدلى الجسد من أعلى يمين اللوحة وكأنه ذبيحة معلقة، أو شرنقة متدلية، أو كائن هلامي في حالة التحول أو السقوط.
في القرن التاسع عشر، كشفت العلوم التجريدية أن الجهاز العصبي لدى الإنسان ذو حساسية ديناميكية، وحركة دائبة في الاستقبال والاستجابة لما يسمى "ستيميولا"، الأحاسيس التي وجدوا أنها تؤثر بصورة مباشرة على المشاعر ومن ثمة على حالات العقل. هذا الحقل الذي يسمى الفيزياء النفسية، زودت كاندينسكي بالمادة في كتابه (بشأن ما هو روحي في الفن). وقد كان لهذا الرابط بين الموسيقى والرسم عند كاندينسكي درواً بارزاً في مطلع القرن العشرين، فقد وضع عناوين موسيقية لثلاث مجاميع تشكيلية بين (1909-1914): ارتجال، انطباع، تأليف. وراح النقاد الذين يتعاملون مع هذه اللوحات للمرة الأولى يقرأون اللوحة التجريدية بمصطلحات موسيقية، وانطلق البحث في تأثير كل نغمة وكل لون على الشعور،ب اعتبارها مؤثرات مستقلة. يكتب (فوزي كريم): "الإيقاع، هو أكثر مكونات الموسيقى أساسية، فالنغمة تتحرك وفقاً للإيقاع، وكذلك الألوان في الرسم تعد وفقاً للايقاع أيضاً، والأمر ذاته مع الشعر. لقد وصف كاندينسكي وكوبكا وموندريان كيف تعمل الألوان في حقلي البصر والمشاعر، وكيف يمكن أن تستخدم لتوليد مزيد من الإيقاع. كتب كوبكا في مؤلفه "الإبداع في الفنون البلاستيكية": "أن الإشعاع في الطاقة الحيوية في الطبيعة، وفي الطاقة الحيوية في داخلنا الإنسانية تعلن عن نفسها دائماً عبر العلاقات بين ذبذبات مختلفة، وبالتالي بين ألوان مختلفة".
عدنان جتو
فنان سوري ولد في مدينة القامشلي عام 1984، وتخرج عام 2008 في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق.
شارك في العديد من المعارض الفنية التي تسلط الضوء على أسلوبه الفريد في الفن الملون. كما بنى جيتو أسلوبًا مستقلاً لنفسه يتضمن قدرًا كبيرًا من التفاصيل التعبيرية الموضوعة في تنفيذ أعماله الفنية.