شكل التضخم المشكلة الأكبر التي واجهت الاقتصاد التركي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث بلغ ذروته في عام 2022 عند مستوى 85% قبل أن ينخفض إلى 40% بفعل تغير سنة القياس أو ما يسمى القاعدة الأساسية للتضخم في العلم الاقتصادي، ليعاود الارتفاع إلى 58% في قراءة شهر أغسطس الماضي على الرغم من بدء تطبيق سياسة التشديد النقدي ورفع أسعار الفائدة إلى 25% ليبقى ثاني أعلى معدل تضخم ضمن دول مجموعة العشرين بعد الأرجنتين وضمن أعلى عشر معدلات تضخم على مستوى العالم.
تسبب التضخم في أزمة معيشة في تركيا بسبب انخفاض القوة الشرائية لليرة التركية، مما جعل الحكومة التركية الجديدة تضعه على رأس أولوياتها.
أهم أدوات السياسة النقدية التي تستخدم لخفض التضخم بشكل سريع وحاد هو سعر الفائدة. ومع ذلك فإن هذه الطريقة تخلق بطالة خطيرة وبالتالي لها كلفة اجتماعية عالية
تحول التضخم إلى مشكلة خطيرة في كل من البلدان المتقدمة والنامية بعد انتهاء جائحة كورونا. الدول المختلفة لديها ديناميكيات تضخم مختلفة بالإضافة إلى ديناميات عالمية مشتركة (مثل أسعار الطاقة والسلع، والمشكلات اللوجستية وحالة عدم اليقين التي تسببت بها حرب أوكرانيا). هناك عوامل داخلية وخارجية في التضخم المرتفع الحالي في تركيا. ومع ذلك، من الواضح أن التضخم في تركيا هو تضخم "جانب العرض" يرجع إلى حد كبير لأسباب داخلية. هو ليس مجرد تضخم كلفة يعتمد على سعر الصرف، إنه وضع أكثر شمولاً يشمل أيضًا العوامل المتعلقة بجودة ومستوى الإنتاج (الانكماش النسبي في إمكانات الإنتاج والتطور غير الكافي في القدرة التكنولوجية).
أهم أدوات السياسة النقدية التي تستخدم لخفض التضخم بشكل سريع وحاد هو سعر الفائدة. ومع ذلك فإن هذه الطريقة تخلق بطالة خطيرة وبالتالي لها كلفة اجتماعية عالية. العزاء الوحيد هنا هو أن الكلفة ستكون قصيرة الأجل وسيعود الاقتصاد قريبًا إلى مستواه المستقر السابق. ومع ذلك، فإن هذا نهج يرى مشكلة التضخم إلى حد كبير على أنها مشكلة استقرار كلي، ويركز فقط على أدوات السياسة النقدية للتوصل إلى حل، ويجعل من الكلفة الاجتماعية أمرا ثانويا. هناك أمثلة تاريخية على هذا النهج، على سبيل المثال، جربته الولايات المتحدة في الثمانيات حيث انخفض التضخم من 15 إلى 4% خلال عامين، لكن البطالة وصلت إلى مستويات عالية للغاية، ودخل الاقتصاد في ركود عميق ضمن ما أطلق عليها صدمة فولكر نسبة لرئيس الفيدرالي الأميركي بول فولكر الذي رفع الفائدة إلى 17% مرة واحدة.
الطريقة الثانية هي التعامل مع الكلفة الاجتماعية للتضخم بطريقة تدريجية. الأدوات الاقتصادية التي سيتم استخدامها لهذا تظهر أيضًا تنوعًا أكبر. القضية الرئيسية هنا ليست فقط حل مشكلة التضخم، ولكن حلها من خلال مراعاة التكاليف الاجتماعية. لا يمكن حل هذه المشكلة دون النظر في ارتفاع معدلات البطالة المحتملة التي ستحدث مع ارتفاع أسعار الفائدة ومع ذلك، كما ذكرت أعلاه، فإن التضخم في تركيا هو مشكلة جانب العرض والتي تنتج في الغالب عن أسعار الصرف، وانكماش الإنتاج، ومشكلات الإنتاجية. وبالتالي، فإن حلها أكثر صعوبة من حل التضخم في جانب الطلب الناتج عن زيادة الكتلة النقدية بالعملة الوطنية. لذلك هناك حاجة لاتخاذ تدابير قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل. مرتبطة بالسياسة النقدية والمالية وهيكل الاقتصاد بالكامل.
أحد أدوات خفض التضخم في تركيا هو برنامج استقرار سعر الصرف. تعتبر إدارة التغيير في سعر الصرف مهمة ليس فقط للتضخم، ولكن أيضًا لمنع الأشكال المختلفة المحتملة للأزمات. تؤدي التغيرات المفاجئة في سعر الصرف إلى تدهور خطير في كل من قيم المخزون (الديون والبضاعة المخزنة في المستودعات) وقيم التدفقات (إيرادات ونفقات الميزانية) للبلد. رغم أن ميزان موازنة الدولة في تركيا يبدو مستقرًا الآن، إلا أن القفزات المفاجئة في سعر الصرف قادرة على تشويهه. إن خطورة المشكلة تصبح مفهومة عند الأخذ في الاعتبار أن ما يقرب من 60٪ من الديون العامة للدولة تعتمد على سعر الصرف.
من خلال دراسة تجارب بعض الدول في محاربة التضخم مثل المكسيك (1994) والأرجنتين (1990-2001) وروسيا (1998) والبرازيل (1999) وتركيا (2000-2001). يمكن اقتراح للخطوات التالية للحد من التضخم المرتفع:
أولا: الركيزة المهمة لمواجهة التضخم في تركيا هي استقرار سعر الصرف. لهذا، يجب الإعلان عن برنامج استقرار العملة. ويجب استخدام جميع أدوات السياسة النقدية، بما في ذلك سعر الفائدة، مع الأخذ في الاعتبار كيف سيتأثر الحساب الجاري بتغير سعر الصرف المهم هو إبقاء التغيير في سعر الصرف أقل من معدل التضخم في فترة زمنية معينة.
ثانيا: تطبيق إجراءات رأس المال من خلال الحد من التدفقات الخارجية لرأس المال تدريجيا مع انخفاض الدين الخارجي للبلاد أسوة بما هو مطبق في الصين على سبيل المثال.
النقطة الحاسمة في برامج الحد من التضخم هي ارتفاع معدلات البطالة وإفلاس الشركات الصغيرة لذلك يجب إطلاق برنامج موازي لدعم الشركات التي قد تتعرض للإفلاس
ثالثا: تنفيذ فكرة ميثاق التضامن، نفذت المكسيك برنامجًا مشابهًا في عام 1987 تحت اسم "ميثاق التضامن". في هذا البرنامج، اجتمعت الدولة والشركات والعمال، وتم الاتفاق على أن تحد الدولة من ارتفاع الأسعار في سعر الصرف والموارد الأولية للإنتاج، وفي المقابل تقوم الشركات بتثبيت الأسعار أو ترفعها ضمن هامش ضيق متفق عليه ينعكس في تعديل أجور العمال بشكل دوري.
رابعا: النقطة الحاسمة في برامج الحد من التضخم هي ارتفاع معدلات البطالة وإفلاس الشركات الصغيرة لذلك يجب إطلاق برنامج موازٍ لدعم الشركات التي قد تتعرض للإفلاس يتم تمويله من خلال زيادة ضرائب الدخل على فئات المجتمع الأكثر ثروة بشكل مؤقت.
لاشك أن المعركة ضد التضخم مؤلمة وتتطلب تماسكا اجتماعيا لمواجهة النتائج التي ستفرزها سياسة التشديد النقدي التي أعلن حاكم المصرف المركزي التركي الجديد ووزير المالية إطلاقها، والتي تمثلت في رفع أسعار الفائدة ورفع معدلات بعض أنواع الضرائب، هذه الإجراءات لابد منها لمواجهة تبعات السياسة السابقة، فالتضخم في تركيا هو إلى حد كبير نتيجة لسياسات اقتصادية غير ناجحة لفترة طويلة من الزمن، لذلك فإن خفضه ضرورة عاجلة بشرط أن يكون العلاج سيئًا مثل المرض.