كان جوي كينت قد سافر في مهمة سرية خارج بلده عندما جذبه صديق له جانباً ليخبره عن مقتل أربعة أميركيين في تفجير انتحاري بسوريا.
كانت هنالك امرأتان من بين الأميركيين الأربعة، بيد أن كينت أدرك في قرارة نفسه بأن زوجته شانون لابد أن تكون إحداهن.
كانت عالمة الشفرات التابعة للبحرية الأميركية تتعقب خلايا تنظيم الدولة وزعمائه في منبج، عندما تقدم رجل نحو مطعم الكباب الشعبي الذي يرتاده جنود أميركيون عادة، وفجر سترته الناسفة.
وقتئذ كانت شانون في الخامسة والثلاثين من عمرها ولديها طفلان، لكنها قتلت أثناء عملها إلى جانب أعضاء أشد مكتب استخبارات سرية في بلدها، ألا وهو وكالة الأمن القومي التي كانت تعمل على تعقب "الإرهابيين".
لم يتسن حتى لزوجها معرفة أدق تفاصيل العمل الذي كانت تزاوله أو حتى المكان الذي توجد فيه.
بعد خروجها في أكثر من خمس رحلات قتالية خارج بلدها، أصبحت شانون خبيرة في جمع المعلومات من أي شخص، إذ كانت مسؤولة عن العثور على مقاتلين حتى تقدم مواقعهم لقوة دلتا أو لفريق سيل 6 أو للطيارين الأميركيين حتى يستهدفوهم بغارات دقيقة.
لم يكن الضابط كينت متوجهاً لتناول غدائه على مهل عندما دخلت فتاة جميلة إلى غرفة الطعام في شهر كانون الثاني من عام 2019.
"أحبك" كتب لها جوي عندما أبلغته بسفرها في مهمة خلال آخر حوار دار بينهما.
كانت شانون تقوم بما يتوجب عليها القيام به من خلال مهنتها التي امتدت لخمسة عشر عاماً، وهي جمع المعلومات الاستخبارية من أخطر بقاع العالم.
أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن الهجوم فأصبحت شانون أول جندية تقتل في سوريا منذ وصول القوات الأميركية إلى سوريا عام 2015.
فجأة، أصبح كينت زوجاً يحمل شارة النجمة الذهبية، وبات عليه الاضطلاع بهمة مستحيلة وهي العودة إلى الوطن لرعاية طفليه، وبما أن عمر أحدهما كان بالكاد يصل إلى سنة، والآخر ثلاث سنوات، لذا كان من الصعب عليهما استيعاب ما حدث تماماً، كما أنهما بالكاد كانا يعرفان أمهما المحاربة.
وكغيره من الأسر المفجوعة، لم يدق أي غريب باب داره ليبلغه تلك الأنباء التي ينوء كاهل المرء عن حملها، ولهذا تواصل مع أهل شانون ليتأكد من أنهم تلقوا أسوأ اتصال يمكن للمرء أن يتخيله عن أي شخص يعرفه.
بعد ذلك قرر الخروج إلى أرض قفر، ثم عاد إلى وطنه ليواجه واقعه الجديد.
أما قصة حياة زوجته البطلة وكيف تعامل كينت مع وفاتها فموجودة في سيرة حياتها التي تحمل العنوان: أرسلني: القصة الحقيقية لأم في الحرب، والتي شارك في كتابتها الصحفي والمخرج مارتي سكوفلوند جونيور.
في حين اتضحت التركة التي خلفتها وراءها والسمعة التي تركتها من خلال الآلاف الذين حضروا حفل التأبين الذي أقيم لها في كنيسة الأكاديمية البحرية بماريلاند، حيث رقيت بعد وفاتها إلى رتبة قائد ضباط الصف.
ثم إن الميداليات الخمس التي تقلدتها وشهادات التقدير التي حصلت عليها تصف عملها لدى العمليات الخاصة التي تدعم مهام وكالة الأمن القومي وذلك عندما فرزت لفرع نشاط حرب الشفرات السادس والستين.
ولذلك نقش اسمها على الجدار التذكاري للشفرات وأضيفت بجانبه عبارة: "لقد عملوا بصمت".
كانت كينت تتحدث سبع لغات بطلاقة، وكانت أول امرأة تكمل دور الدعم المباشر للحرب البحرية الخاصة، كما شاركت في سباقات مارثون، وكان بوسعها السير لمسافات طويلة وهي تحمل حقيبة على ظهرها إلى جانب قيامها بالعشرات من تمارين سحب الجسم نحو الأعلى عبر التمسك بعارضة.
بيد أن شانون أصيب بسرطان في الغدة الدرقية، فلم تخبر جوي عنها بما أنه كان وقتئذ خارج البلد، وبقي الأمر سراً إلى أن خضعت لعمل جراحي وعادت إلى عملها بعد ذلك بأيام قليلة.
تعلمت شانون أربع لهجات عربية ولهذا أصبح بوسعها أن تشارك في حروب ما بعد 11 أيلول.
وقد دفعتها مهاراتها إلى حضور اجتماعات مع مصادر كانت تعرف أماكن بعض أهم المطلوبين من "الإرهابيين"، وعلى رأسهم زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي.
وبعض من التقت بهم وجهاً لوجه رفضوا حقيقة كونها امرأة، لكنها استطاعت أن تنتزع منهم ما هو مطلوب من المعلومات.
عالمة الشفرات
كان عملها شديد السرية، ولهذا لقبت بعالمة الشفرات، كما أن التفاصيل الكاملة لعملها لن يماط عنها اللثام لسنوات قادمة طويلة.
تشمل حرب الشفرات استخبارات الإشارات، وعمليات الفضاء السيبراني، والحرب الإلكترونية، والتي تخلف آثاراً في البحر والبر والجو والميادين السيبراني ضمن جميع مستويات الحرب.
بيد أن عملها تجاوز مجرد ترجمة الوثائق أو فك تشفير الرسائل.
كبرت شانون وترعرعت في مدينة صغيرة بنيويورك، حيث كانت تمتطي الخيول في عمر صغير.
أما براعتها بتعلم اللغات فقد ظهرت عندما تعلمت الإسبانية حتى تتمكن من التحدث إلى سائسي الإسطبلات القادمين من الأرجنتين.
انخرطت في البحرية في عام 2003 وكان مصدر إلهامها والدها العسكري وعمها المحارب، وقد كان كلاهما من أوائل المستجيبين عندما ضربت طيارتان البرجين في 11 أيلول عام 2001.
تخرجت شانون في عام 2004 من المعسكر التدريبي لقيادة تدريب المجندين في إلينوي ثم انضمت في شباط 2004 إلى البرنامج اللغوي للبحرية الأميركية.
كان تدرجها في الرتب العسكرية سريعاً، وفي عام 2007، اختيرت للانضمام إلى الفريق الداعم لعمليات فريق سيل التابع للبحرية الأميركية وذلك لتنفيذ غارات ليلية على العراق.
كما خدمت لدى قيادة عمليات المعلومات البحرية وفي نشاط دعم الحرب البحرية الخاصة، ولدى مكتب تنمية موارد الموظفين بواشنطن، واستكملت عملها في مهمتين بأفغانستان، قبل أن تلتقي بجو خلال تدريبات أقيمت في عام 2013 عندما عرفها أحد أصدقائها عليه، ثم تزوجا عشية عيد الميلاد من العام التالي، واشتريا بيتاً في ماريلاند، إذ كانت شانون قد قررت أن الوقت قد حان لتأسيس أسرة.
يخبرنا كينت بأنه ما يزال يستيقظ كل يوم وهو يفكر بالانتقام لمقتل زوجته، فقد أمضى عشرين سنة في القوات الخاصة و11 سنة في مهمات قتالية.
لكنه يدرك تماماً بأنه لا شيء يشفي غليله، كما لا يريد أن يترك ولديه وحيدين، وعنهما يقول: "بوسعي أن أحول طفلي ليتيمين، ولهذا لم يكن الأمر مطروحاً بالنسبة لي، لكني بقيت أفكر بالأمر طوال الوقت، وثمة جهاز عسكري كامل يتولى أمور من قتلوها، وأنا على يقين من أنهم فعلوا ذلك".
بعد عشرة أشهر من التفجير الذي قتلت فيه شانون، انتحر البغدادي برفقة ولديه بواسطة سترة متفجرة عندما اقتربت القوات الأميركية من منزله في سوريا.
على الرغم من أن شانون كانت تخدم لدى أهم قوات النخبة في العالم، إلا أنها لم تحظ بتقدير كامل، إذ كانت تتمنى لو تستطيع القول إنها عضو في وحدة العمليات الخاصة، وعن ذلك يخبرنا زوجها فيقول: "كانت تقول لي: أينما ذهبت حتى في الجيش وعالم الاستخبارات، أحتاج لخمس دقائق حتى أشرح للناس من أنا وما الذي فعلته".
وكان ما يغضبها ويثير حفيظتها عدم تصديق الناس لها لأنها امرأة، وفي ذلك دليل على أن النساء اضطلعن بمهام عسكرية خطرة كتلك التي يضطلع بها الرجال طوال سنين، أما بالنسبة لوضع شانون فقد كانت تعرف أنها تتعرض لخطورة أكبر من تلك التي يتعرض لها زملاؤها الذكور.
إذ لم يكن عملها يتم من وراء طاولة مكتب، بل كانت في الميدان ترتدي درعاً يغطي كامل جسدها وتحمل بندقية من نوع إم4.
كما لم ترتد بزة عسكرية في أهم مهماتها، وفي بعض الأحيان كان لديها فريق للدعم يضم عدداً ضئيلاً من الرجال برفقة مترجم فوري، أي إن أغلب عملها كان سرياً.
في كل عيد شكر كانت تدعو أصدقاءها الذين يعيشون بعيداً عن أهاليهم حتى تطمئن أنهم ليسوا وحدهم في تلك المناسبة، وبعضهم كانوا عراقيين هاجروا منذ فترة قريبة إلى الولايات المتحدة ولهذا يمكنهم تناول خليط من الأطعمة الشرق أوسطية وتلك التي تعد خصيصاً لتلك المناسبة.
يخبرنا كينت عن ذلك فيقول: "كان ذلك شيئاً فريداً خاصاً بشانون وهو أنها صنعت عيد شكر عربيا".
يرى كينت أنه من الضروري سرد قصة زوجته ليس فقط من أجل ولديها، بل أيضاً من أجل كثير من النسوة الأخريات اللواتي خدمن في العمليات الخاصة.
كانت نعمة ونقمة بالنسبة لكينت ألا يتجاوز عمر طفليه السنة الواحدة والسنوات الثلاث عندما توفيت أمهما، ويعلق على ذلك بقوله: "إنهما لا يتذكران أمهما ولم يتعرفا عليها تماماً، لأنهما كانا صغيرين ولا يستطيعان استيعاب حقيقة الأمور، ولقد فعلت كل ما يمكنني فعله حتى أجعل أمور حياتهم سلسة قدر الإمكان"، ولذلك انتقل إلى بيت قريب من أهله وبعد سنة من ذلك تعرف على امرأة ملأت الفراغ الذي تركته الأم الراحلة، وعن ذلك يقول: "لقد جعلنا شانون جزءاً من الطقوس اليومية للولدين، إذ إننا نتحدث عنها طوال الوقت، كما أنهما أصبحا مطلعين على أمور الموت أكثر من كثير من الكبار، لأن الموت أصبح جزءاً من قصة أسرتهما".
بعدما أصبح عمر الطفلين اليوم ستاً وثماني سنوات، صارا يسألان أباهما أسئلة تفاجئه على الدوام، لكنهما تعاملا مع موت أمهما طوال حياتهما تقريباً.
أرمل ضد الحرب
منذ فترة قريبة، حاول كينت أن يبحث عن مهمة جديدة، وذلك عبر المشاركة في مجتمعه وفي السياسة، إذ في عام 2022، ترشح عن الحزب الجمهوري عن الدائرة الثالثة بولاية واشنطن، لكنه خسر في الانتخابات.
ورشح نفسه مرة أخرى في عام 2024، وصرح بانتقاداته للجيش اليوم، ويخشى أن تواصل الولايات المتحدة السير على درب الحروب الأبدية، ولهذا يعلق قائلاً: "المشكلة الأكبر هي أن زعماءنا السياسيين والعسكريين خسروا كثيراً من المصداقية، فقد بدأت الحرب على الإرهاب بناء على أسس محقة وهي أن علينا أن ننطلق لنصل إلى من كانوا وراء أحداث 11 أيلول، لكننا سرعان ما انحرفنا نحو بناء الأمة، فمن المستفيد من ذلك؟ وكانت تلك مجرد عقدة صناعة الجيش، حتى عندما دلت كل المؤشرات على الأرض بأن ذلك لن يجدي نفعاً، ثم ضاعفنا جهودنا وغزينا العراق بناء على أكاذيب، ولقد أمضيت وقتاً طويلاً على الأرض في العراق فأدركت بأن الأمر لا يتصل بفهم صناع القرار لدينا للأمور بطريقة خاطئة، بل لأنهم لم يكترثوا أصلاً، فالحرب عمل كبير وهم يريدون له أن يستمر".
قتلت شانون بعد شهر واحد من تعهد الرئيس السابق ترامب بإخراج الجنود الأميركيين من سوريا، وعندما توجه كينت إلى قاعدة دوفر الجوية التي أعيد إليها جثمان زوجته، التقى بترامب هناك، فقال له: "يؤسفني ما حل بكم من خسارة، فقد كانت شانون امرأة ومحاربة مذهلة".
بيد أن الزوج والأب المفجوع استطاع أن يميز بأن قائد الأركان يعاني صراعا عميقا فيما يتصل بالإبقاء على الوجود الأميركي في سوريا، غير أن الرئيس وضع يده على كتف كينت وقال: "كانت شانون شخصية عظيمة، وإننا لمحظوظون بوجود أشخاص مثلها مستعدين للسفر إلى هناك ومواجهة الشر من أجلنا".
بيد أن ما يقلق كينت هو أن الولايات المتحدة قد وقعت في الفخ نفسه من جديد، وذلك فيما يتصل بموجة العنف الأخيرة التي ضربت الشرق الأوسط، وهو لا يريد أن يرى القوات الأميركية وهي تضرب في نقاط عسكرية عشوائية، ولهذا يقول: "من المثير للنقمة والأسف إلى أبعد الحدود أن يقتل ثلاثة أميركيين وهم يدافعون عن حدود منطقة قبلية بين العراق وسوريا والأردن، لأنه لا شيء يخصهم في تلك المنطقة سوى الأهداف العسكرية لأعدائنا، ولهذا أعتقد بأن علينا التحلي بالجدية وأن نفكر بواقعية بشأن حفظ أمننا القومي من دون خوض حروب أبدية، إذ في النهاية، لا تعتبر تلك الأمور مصالح مهمة تتصل بأمننا القومي، كما لا يمكننا أن نتحول إلى شرطي يحرس هذا العالم، ولا يجوز أن نصبح شرطياً على الشرق الأوسط خاصة".
يرغب هذا الزوج في أن تصبح قصة زوجته مصدر إلهام للمحاربين القدماء في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وهم يحاولون الانتقال للحياة المدنية، لأنه لم يكن يفترض بشانون أن تكون في سوريا عندما قتلت، بل كان عليها أن تبدأ ببرنامج الدكتوراه في علم النفس السريري، إذ كان هدفها الاستعانة بسنوات خبرتها في الاستخبارات والعمليات الخاصة لمساعدة المحاربين القدماء الذين يعانون اضطراب كرب ما بعد الصدمة، غير أن معاناتها مع السرطان والأشرطة الحمراء التي قلدتها البحرية إياها منعتها من التسجيل في ذلك البرنامج، وقد عملت كل شيء بوسعها فعله حتى تسجل فيه، حتى أنها لجأت لأعضاء رفيعين في البنتاغون والكونغرس حتى تحل تلك المعضلة، إلا أنها لم توفق بأي تغيير في هذا المضمار.
وعندما كانت تمارس عملية الضغط في مبنى الكونغرس، وافقت كينت على الانتقال إلى سوريا بناء على طلب من البحرية الأميركية في أواخر عام 2018، فسافرت في خامس مهمة قتالية لها على الرغم من أنها تركت طفلين في البيت، إذ بما أنها محاربة فقد بقي واجبها العسكري يحتل أهم زاوية في تفكيرها.
وعلى الرغم من أهمية الأسرة بالنسبة لها، لم يمنعها أي شيء من تأدية تلك المهمة.
وبعد شهرين من سفرها، توجهت نحو مطعم وقع فيه تفجير انتحاري، وأسفر عن مقتل العشرات بينهم ثلاثة أميركيين.
بعد مقتل شانون، خرجت البحرية بسياسة جديدة تهدف إلى تحسين جودة وعدالة واستمرارية عملية التنازل الطبي بالنسبة لجميع المنخرطين في برامج تكليف الضباط.
كان ذلك تقدماً في هذا الملف، بيد أن الحكومة ما تزال تتوانى عن رعاية المجندين في الماضي والحاضر.
أصبح المحاربون القدماء في الحروب التي قامت بعد 11 أيلول محوراً للصراع من أجل الحصول على الرعاية المناسبة التي يحتاجونها للتعامل مع الآثار الجسدية والنفسية للمهمات التي نفذوها، وعن ذلك يقول كينت: "ما زلت أرى نفسي محارباً محترفاً، وهذا ما كنته طوال معظم حياتي وأعرف كثيراً من الرجال الذين فعلوا ما فعلته، فقد خدموا في عدد من المهمات القتالية وكانت تلك حياتهم، فانتهى الأمر بكثير منهم لانقطاع علاقتهم بأولادهم، وبما أنني فقدت شانون لذا تبين لي بأنه لا يوجد أمامي أي خيار سوى أن أجعل أولادي أولوية لدي، ثم إن كل ما أريد فعله الآن هو أن أعبر عن مجمل ضغط الحياة العسكرية على الأسر، لأن زملائي قد يتراجعون خطوة للوراء ليفكروا بالأمر ويروا بأنهم سيتركون وشأنهم عندما يتركون الخدمة، ولعل مهمتين قتاليتين كافيتين، ولعله من الأفضل أن تنحي نفسك جانباً وأن تضع أسرتك قبل كل شيء بما أنه بوسعك فعل ذلك إلى أن تجبر على اتخاذ القرار أو إلى أن تحرم من العودة إلى الوطن بعد رحلة من تلك الرحلات".
المصدر: The Daily Mail