أثار لقاء بشار الأسد على إحدى القنوات العربية يوم 9 من الشهر الجاري ردود فعل عديدة تناولت اللقاء من زوايا مختلفة، إلا أن اللافت كان ردود فعل السوريين تجاه "مقولات" الأسد عن "وعي المخطط" وتنبّؤ السوريين بخطوات قادمة ستمارسها "السلطة" بعد أن أطلق المعلّم الأوّل والقائد المُلهم مقولاته!
تزامن اللقاء مع حراك مدني تشهده مناطق سيطرة الأسد حيث أعلن مجموعة من الشباب والشابات في 5 من الشهر الجاري عن حركة احتجاج مدني أطلقت على نفسها "حركة 10 آب" – ونشرت بيانا عبر فيسبوك يعبّر عن تخوفهم على "مستقبل سوريا"، وطالبوا بما سموه "مطلباً بسيطاً جداً؛ أن تقوم السلطة السورية على لسان رئيس جمهوريتها أو رئيس مجلس وزرائه بإصدار بيان يحدد فيه تسلسلا زمنيا لـ: رفع الرواتب إلى 100 دولار، وإعادة الكهرباء بمعدل 20 ساعة، وإصدار جوازات سفر، ودعم الخبز والمازوت والبنزين، وإخراج المعتقلين -النساء والأطفال أولا- ، إعلان قانون يوقف بيع أملاك الدولة للقطاع الخاص الأجنبي، تحديد مدة الخدمة الإلزامية والاحتياط في الجيش".
يوم 10 آب – بعد لقاء بشّار الأسد بيوم- أطلقت الحركة بيانها الثاني لتؤكّد أنّ: "السلطة قد أهملت كلّ المطالب؛ برفع الدعم وزيادة سعر الرغيف" وحمّلت الحركة بشّار الأسد المسؤوليّة.
قبل الخوض في "وعي" بشار الأسد -بوصفه مسؤولا- لمهمة الدولة ومسؤوليّة الحكومة كما أكّده في اللقاء الأخير لعلنا نمر سريعا على مسألة نظريّة في الفكر المدني؛ إذ قسّم بعض علماء الاجتماع الحديث الوجود للفرد الإنساني الحر إلى ثلاثة مستويات حيث يشتمل كل مستوى على احتياجات – حقوق- مصالح للفرد سلطة شرعيّة لتحقيقها والدفاع عنها؛ في حين أنّ حقوق- مصالح الدولة المدنيّة ما هي إلّا مجمل حقوق أفرادها:
- طبيعي: يتعلق بالطبيعة الفيزيولوجية للإنسان من حق بالطعام والشراب والحاجة الطبيعيّة كالإنجاب وللإنسان سلطة وحق طبيعي.
- مدني: حيث يعي الإنسان كيف يلبي احتياجاته الطبيعية دون الاعتداء على احتياجات – حقوق الآخرين.
- سياسي: وهنا مفترق الطرق بين السلطة المدنيّة وغير المدنيّة؛ إذ يدافع الأفراد في المجتمع المدني عن مصالحهم بانتخاب ممثلين ينوبون مؤقّتا عن سلطة الأفراد في الدفاع عن مصالح الأفراد.
مثل هذه العصابة لا تمارس السياسة باعتبارها مسؤولة عن تأمين الحقوق إنما حسبها أن تستولي على السلطة ومؤسّسات الدولة؛ ثم تعيد إنتاج مبرّرات بقائها!
بالمقابل؛ قد تستولي مجموعة ما -بطريقة غير ديمقراطيّة- على السلطة، فتسعى تلك العصابة إلى التمسّك بذرائع -غير تفويض المواطنين- لتبرير مشروعيّة تسلّطها على النّاس والوصاية على مصالحهم؛ فترفع العصابة شعارات قضايا كبرى: كتحرير الأرض المقدسة أو إنجاز قضية مصيريّة ونحو ذلك، إلّا أنّ إحدى أهم ذرائعها السلطويّة تكمن في نفي أهليّة الشعب لإدارة مصالحه لتنال تلك العصابة تفويضاً من خارج الدولة على إدارة مصالح شعب قاصر وعلى رأس تلك الذرائع انتشار الإرهاب!
مثل هذه العصابة لا تمارس السياسة باعتبارها مسؤولة عن تأمين الحقوق إنما حسبها أن تستولي على السلطة ومؤسّسات الدولة؛ ثم تعيد إنتاج مبرّرات بقائها!
في أثناء لقائه الأخير لم يختلف خطاب السلطة الأسديّة عنه طوال السنوات الـ 12 السابقة؛ حيث لا اعتراف بإرادة السوريين، وما "الحرب والدمار" الذي ألم بسوريا والسّوريين إلا حرب السلطة على "الإرهاب والمؤامرة"، وفي معرض رده على سؤال عمّا لو كان بالإمكان عدم حدوث تلك الحرب يقول بشّار: (كان ذلك ممكنا لو أننا كنّا خضعنا لكل المطالب التي كانت تُطلب أو تُفرض على سوريا بقضايا مختلفة، في مقدمتها التخلي عن الحقوق والمصالح السورية -لكننا - كنّا سندفع ثمناً أكبر بكثير لاحقاً)!
وليس المتطرّفون وحدهم -الذين استولوا لاحقا على حراك السوريين لأجل حريّتهم عام 2011- من لا يفرّقون بين الدولة وبين نظام الأسد؛ بشّار أيضا لا يفرّق حين يقول: (إذا افترضنا أن الدولة هي من كانت تقوم بالقتل والتهجير فهي تتحمل المسؤولية، ولكن هناك إرهاب وكانت الدولة تقاتل الإرهاب، والإرهاب هو الذي كان يقتل ويدمر ويحرق. لا توجد دولة حتى ولو كانت تُسمى دولة بين معترضتين سيئة، تقوم بتدمير الوطن، هي غير موجودة بحسب معلوماتي) وكلامه دقيق جداً فلا وجود لمثل تلك الدولة لكن يوجد نظام يخلط بينه كعصابة تحتل مؤسّسات الدولة وبين الدولة؛ والشعب غائب تماماً في مقاربة "الدولة – الإرهاب"!
حسنا كان السوريون غائبين ثمّ قام الإرهاب بقتلهم وتهجيرهم فهل يمكن للمهجّرين العودة؛ بشّار يقول: (إنّ الشعب السوري لا يستطيع العودة لعدم توفر خدمات وبنى تحتيّة ومدارس)!
وعن دور الدولة في معالجة تجارة المخدّرات المتّهم بها نظام الأسد يعود للخلط بين مصلحة نظام العصابة وبين الدولة فيقول: (إذا كنا نحن من يسعى كدولة لتشجيع هذه التجارة في سوريا؛ فهذا يعني أننا نحن كدولة من شجعنا الإرهابيين ليأتوا إلى سوريا ويقوموا بالتدمير ويأتوا بالقتل.. إذا وضعنا الشعب بين الإرهاب من جانب والمخدرات من جانب فنحن نقوم بأيدينا بتدمير المجتمع والوطن.. أين هي مصلحتنا؟)!
الحقيقة كان بشّار قد كشف عن عبقريّة فذّة إذ قال أثناء المقابلة: (الدولة دورها بحكم الدستور والعرف الوطني أن تدافع عن الدولة)، إذ في ظل غياب أي صلة بين صوت المواطنين المعبّر عن مصالحهم وبين مؤسّسات الدولة التي يختطفها النظام يمكن فهم كلام بشّار على النحو التالي: دور مؤسّسات الدولة الدفاع عن سلطة النظام، وقد نجح الأمر فصمد النظام في حين أفشل النظام الدولة!
إذا كانت مسؤوليّة سلطة بشّار مقتصرة على وصف لماذا لا يمتلك من تبقى من السوريين في مناطق سيطرته، ولا المهجّرين الذين يمكن أن تعيدهم الدول مرغمين، أساسيّات الحياة، ولا يمكن لسلطته إيقاف تجار المخدّرات، ولا استرداد المناطق "المحتلّة" بحسب وصف السلطة؛ فماذا تبقى من "صمود الدولة" المزعوم!
ما يميّز "حركة 10 آب" أنّها -ومن جديد- وعي شباب مدني سوري لمصالحهم الطبيعيّة والمدنيّة وقلق على مستقبلهم، وتلك المصالح في مضمونها هي "الحريّة والكرامة"
الوصاية على مصالح السوريين خطاب طالما مارسته سلطة الأسد في حين أطلق بشار ومؤخّرا أطلق بشّار عنان سلطته لإعادة السيطرة على وعي السوريين لواقعهم المرير بذريعة "وعي المخطط"!
في حين أنّ ما يميّز "حركة 10 آب" أنّها -ومن جديد- وعي شباب مدني سوري لمصالحهم الطبيعيّة والمدنيّة وقلق على مستقبلهم، وتلك المصالح في مضمونها هي "الحريّة والكرامة" التي أرادها السوريّون في الأشهر الأولى -ربّما السنة ونصف- من احتجاجات 2011، أي قبل تمكن النظام من استدعاء الإرهاب لإنقاذه!
العجيب ظهور أصوات تشكّك بأنّ أجهزة أمن النظام يمكن أن تكون خلف حركة مدنيّة كحركة "10 آب" ولعلّنا لا نميل إلى مثل هذا التوجس لسببين:
الأوّل أنّ ظهور حركة مدنية ما متعلّق بالاحتياجات- الحقوق الطبيعيّة والمدنيّة المذكورة ضمن المقال؛ ومدى الضرر الذي أصاب تلك الحقوق على السوريين في مناطق انتشار الحركة واضح وجلي؛ لذلك فإنّ ظهور حراك مدني للدفاع عن تلك الحقوق مسألة منطقيّة في ظل انفصال السلطة السياسيّة عن النّاس.
ثانيا لا مصلحة لسلطة الوصاية الأسدية في إظهار حراك مدني سوري يستوجب الديمقراطية السياسيّة؛ إنما مصلحة تلك السلطة تتمثّل في ظهور متطرّفين أو اندلاع أعمال عنف تبرّر قبضة السلطة الأمنية وتكميم أصوات النّاس.