هل وجدت فعلًا؟ هل يتكرّر ويتناسخ وجودُها؟ كيف لشعوبٍ مغلوبةٍ أوغير مغلوبةٍ أن تصير عمياء؟
أتساءل وأنا أقرأ قصة الكاتب البريطاني هربرت جورج ويلز، كاتب الخيال العلمي الشهير وصاحب الحدس الذي مهد للعلم وسبق مكتشفاته واختراعاته، بقرن: هل تصح قراءة أدبه ومدلولات أعماله في مواقع التواصل، ذات الاهتمام السياسي والإخباري والتحليلي الغالب، أم تظل قراءاتنا الاعتبارية والتحليلية لأدبه محصورة في مواقع وصحف الأدب والثقافة، مع أن مواقع الشأن السياسي التحليلي والنظري أولى بالأدب والفكر من غيرها؟ وهو ما سأقدمه هنا لقصة من أخطر قصص هذا الكاتب السابق والعظيم، وإضاءة ما يمسّنا فيها، ونحن شعب يطالب بالحرية والعدالة والكرامة، ونور العلم والمشاركة في تقدم الكوكب، وازدهارِ حضارة وثقافة إنسانية فيه، وهو حقّ طبيعي للبشر، وبالأخص نحن السوريين منهم.
ولد ويلز، كاتب قصة بلد العميان التي تعنينا هنا، في (كنت) الإنكليزية في أيلول 1866 وتوفي في العاصمة لندن في آب 1946.
ومن أشهر أعماله وقد تحوّل أغلبها إلى أفلام في السينما: آلة الزمن_ الرجل الخفي_ جزيرة الدكتور مورو_ حرب العوالم _ الرجال الأوائل على القمر.
تأتي أهمية قصة بلد العميان ليس من عمق فكرتها وشيوع حقيقتها في كل زمان ومكان فحسب، بل بغلبة ذهنية ومعرفة وادّعاء بشر وطواغيت وأنظمة بتفضيل العماء على البصر
وتأتي أهمية قصة بلد العميان ليس من عمق فكرتها وشيوع حقيقتها في كل زمان ومكان فحسب، بل بغلبة ذهنية ومعرفة وادّعاء بشر وطواغيت وأنظمة، بتفضيل العماء على البصر، وحياة العزلة وعيش الظلام، على العيش في الحرية والنور، ما يفرض على البشر، أنظمة عماءٍ وطغيان في عصر تفتح وحريات وأنوار، مهما ادّعت تلك الأنظمة غيرَ ذلك، فهل يمكن لنظام رغم كل هذه الثورات المطالبة بالعدالة والحرية أن يقتل شعباً طالبَ بالإصلاح، ومحاكمة الفسادِ المدعوم والمباح، وخرج طالبا الحرية، وقد فرض الحاكم على شعبهِ حربَ إبادةٍ بسبب ذلك، وهو ما حدث ويحدث للشعب السوري، وشعوب المنطقة العربية الآن، ويهدّد الوجود كلّه بالدمار.. نعم يمكن ذلك!
وهو نفس السؤال الذي طرحه المخرج ميخائيل روم تلميذ آيزنشتاين في فيلمه الأخطر (فاشيّة عادية) 1966 الذي تَعرّض فيه لنازية هتلر وزبانية حكمه من أعمدة ومتنفذين، عندما قبلوا أن يتحوّلوا إلى ريبوتات عمياء تنفذ الأوامر، وتتحرّك كالظل تمامًا للفوهرر، الذي فرض على العالم حروب إبادة وموت، بل استجر العالم إلى حرب عالمية ثانية بسبب أطماعه وأمراض تفوّقه وعمائه، ولم يُدنْ روم حكم الرايخستاغ ونازيته وحده، بل طرح سؤالًا خطيرًا في نهاية الفيلم وجّهه للشعب الألماني: "هل يمكن لشعب ألماني عظيم أن يخطئ وينساق وراء حاكم مجرم ومغرور؟". والجواب: يمكن لشعب أن يخطئ نعم، ولكن المهم أن يعتبر ولا يكرر خطأه ثانية.
قصة بلد العميان لويلز تعيد العبرة والاعتبار لكل من يقرؤها بطرح تساؤل: هل يمكن لقرية أو بلد أو حاكم أن يكونوا عمياناً ويقتنعوا بعمائهم؟ ذلك هو السؤال الاعتباري الفادح الذي يستخلصه القارئ من هذه القصة، لتبرز مشكلة كبرى نراها تحدث الآن، لا تقول بواقعية العمى الذي يصيب مجموعة أو شعبًا، بل المشكلة أن يقتنع العميان بعمائهم، ويحاربوا كل مبصر، ليصير أعمى، أي تعميم العماء بفرضه بحروب إبادة وموت.. وهنا الكارثة التي لاتخص الملك العاري الأعمى في قصة الملك العاري، بل حكوماتٍ ومنظوماتٍ ودولاً وبلاداً.
قصة بلد العميان
ليست من أجمل ولا أبلغ ولا أصفع القصص الحية المعبرة.. ليس مجازاً.. بل حقيقة تقودُ إلى مجاز.. ويا ليتَ الحقيقة التي انقلبت إلى قصة عبرها أن تظل في إطار حدوثها مرّة في قرية نائية هي "قرية العميان" من قرى جبال الأنديز في أميركا اللاتينية.. ولا تظل القصة في إطار استثنائية واحدة الحدوث، بل بحساسيتها ورهافتها لتكون قياساً لتعميم عظيم، يجتاح الكوكب، الذي يحكم جزءا كبيرا منه تافهون كبار.
قصة العميان، الذين بيوتهم بلا نوافذ، ولا يحتاجون إليها، ويعيشون على الوشوشة، واللمس، والشم، وفضيلة العماء.. واللافت أنهم لا يغرون أحدا بغزوهم، لأنهم متقشفون عن مغريات العالم، الذي يدّعي البصيرة، وهو أكثر عماءً وصلفاً من أي عصر قبله.. حتى (نيونز) بطلها الذي اكتشفهم، انزلق إليهم صدفة. وهذه البلدة ليست ماكوندو أخرى تحت شريعة جنرالات آل بونيديا.. وليست تحت سطوة "مئة عام من العزلة"، بل ألف عام منها وأكثر، مع أنّنا لم نطلع تمامًا على حقيقة حاكمها الأعمى، والقصة هي "حقّانية" فنية، عبقرية في سوداويتها الموجبة، التي تفضح عالمنا المرعب بقناع ادعائه بأنه عولمي وبصير مع أنه عالَمُ تكنولوجيا صماء عمياء تتحكم بالبشر، وبكل شيء..
سجن جلبوع.. بلد العميان!
وليس ببعيد عن سياق الفكرة، أكّد أبطال النفق الفلسطيني العظيم بأن دولة الاحتلال الإسرائيلي "بلدة" عميان تدّعي عكس ذلك..إذ كيف لأبطال فلسطينيين سجناء تأبيد، سلاحُهم ملعقة، أن يفضحوا عماء العالم كله، بحكام ريبوتات وبلاي ستيشن، ويتمكنوا من الفرار والحرية عبر نفق حفروه بملاعق، ومع ذلك تعجز عن كشفهم كلّ كاميرات الرصد والمراقبة، وتنجح العملية البسيطة والأسطورية معاً، لتترك المدجّج الاحتلالي والعالم كله معه في حالة ذهول ودهشان.. أخيراً أن تكون أعمى بخلقة الله، هذه ليست رذيلة ولا جناية، ولا تدعو إلى سخرية.. أمّا أن تدّعي البصر، والعلم والسيطرة، والتأبيد،بالقوة والغشم وقتل البشر، فتلك المهزلة، وادّعاء النصر، على عالم ضعفاء، وبلدان مسلوبة.. وأن تحرم بلدا من كهرباء وماء وبنزين وكل مقومات الحياة، فتلك جناية وجريمة لايقوم بها إلّا تابعٌ ذليل، وسيحسد ضحاياه أهل تلك القرية العمياء على عماهم.
كوكب العميان!
قصة العميان للمبصرين العميان الذين لا يعانون من عماء البصر، بل من عماء طائفية وتعصب وشوفينية وإرهاب وعنصرية ومناطقية، وتطرف يميني أو يساري أعمى، أو كل ذلك أو بعضه، والتعالي على البشر والتمييز العرقي أو الإثني هو عماء مركب وفادح.. حتى لكأنّ العماء يجتاح الكوكب كله مثل الطوفان.
الحكاية
يحدثنا المؤلف وكاتب القصة عن مرض غريب انتشر في قرية نائية معزولة عن العالم تقع في جبال الأنديز فأصاب المرض سكان القرية بالعمى. ومنذ تلك اللحظة انقطعت صلتهم بالخارج، ولم يغادروا قريتهم قط، فقد تكيّفوا مع العمى، وأنجبوا أبناءً عُمياناً جيلاً بعد جيل حتى أصبح كل سكان القرية من العميان، ولم يكن بينهم مبصر واحد.
ذات يوم، وبينما كان متسلّق الجبال (نيونز) يمارس هوايته انزلقت قدمه فسقط من أعلى القمة إلى القرية ولم يُصب الرجل بأذى، إذ سقط على عروش أشجار القرية الثلجية، وأول ملاحظة له كانت أنّ البيوت من دون نوافذ، وأن جدرانها مطلية بألوان صارخة وبطريقة فوضوية.
وهنا حدّث نيونز نفسه قائلاً: "لا بُد أنّ الذي بنى هذه البيوت شخص أعمى".
وعندما توغّل إلى وسط القرية بدأ في مناداة الناس، فلاحظ أنهم يمرّون بالقرب منه، ولا أحد يلتفتُ إليه. هنا عرف أنّه في (بلد العُميان) فذهب إلى مجموعة منهم وبدأ يعرّف بنفسه من هو، وما هي الظروف التي أوصلته إلى قريتهم، وكيف أن الناس في بلده (يبصرون).
وما إن نطق بالكلمة الأخيرة.. حتى أحس بخطر المشكلة، وانهالت عليه الأسئلة: "ما معنى يبصرون؟ وكيف؟ وبأي طريقة يبصر الناس؟.
سخر القوم من نيونز وراحوا يقهقهون. بل وصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتّهموه بالجنون، وقرر بعضهم إزالة عيونه فقد اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه.
لم ينجح بطل القصة -نيونز- في شرح معنى البصر، وكيف يفهم من لا يبصرُ معنى البصر. فهرب قبل أن يقتلعوا عينيه وهو يتساءل كيف يصبح العمى صحيحاً بينما البصر مرضاً!