تقوم رواية (الجنيات، تميم هنيدي) على مستويين أساسيين من السرد: المستوى الأول السرد المتعلق بحكايات المكان، وهي بلدة "الجنيات"، حيث تتضافر حكايات الجماعة، والمستوى الثاني الحكاية الفردية للشخصية الرئيسية خالد حمدان، الشاب الثلاثيني الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة، وأخفق في السفر من مدينته (الجنيات) التي أطبقت الخناق عليه من كل الجهات، فلم يبق أمامه خيار سوى العمل موظفاً في مكتبة يمارس من خلالها عملاً إضافياً سرياً، يبيع فيه أعماله الروائية لخليل النايف المحامي صاحب النفوذ الواسع، والراغب في دخول عالم الكتابة.
عالم التأليف الأدبي في ظل الحرب
رغم أن الرواية تؤطر (الجنيات) كبلدة واقعية، إلا أنها تظهر في بعض فقرات الرواية بشاعرية أو بسحرية: "فجأة، أبيض المكان، وانجلى الازدحام من أمامه، ووجد الطفل نفسه أمام لوحة لمدينة سيعرف لاحقاً أنها الجنيّات ذاتها، تحتها اختلط اللون الأحمر الداكن بألوان أخرى على الأرض". أما عن خصائصها كمكان واقعي: "الجنيات، مدينة سورية تبعد عن العاصمة قرابة الساعتين، في عام 2011 وما تلاه لم تكن الجنيات من المدن الشهيرة التي تغزو الفضائيات والصحف، فقد كانت أصغر حجماً من أن تشكل نقطة تحول في الحرب تُغري المشاهد الانتقائي الحديث، فنسيها الكثيرون وانكمشت على ذاتها، ومع مرور الوقت تأقلم أهلها مع وحدتهم، وساد شعور عام بالارتياب وعدم اليقين".
تنقل الرواية أجواء الحرب عن طريق حكايات فرعية، عائلة تنتظر تبيان مصير ولدها المختفي: "سمعوا أن 13 جندياً قد استطاعوا الهرب من أحد معتقلات العدو هذا الشهر". وتروى حالات اختطاف وفدية، عائلات تتابع فيديوهات قطع رؤوس الجنود بحثاً عن مصير أبناءها: "تزامن وصول الشتاء في ذلك العام مع رحيل الآمال المتبقية بانتهاء الحرب. بث مقطع فيديو قصير لعسكري شاب يخسر رأسه على يد رجل ملثم. كان الشاب هو هادي الدادا، مجند من الجنيات لم يتم التاسعة عشرة من عمره". وكذلك، ترصد الرواية كما شاهدنا في الإنتاج الدرامي السوري في السنوات الأخيرة، ظهور شخصيات التسلط والسلطة الفاسدة: "يعد أبو الوليد شخصية خطرة جداً، ومثيرة للجدل أيضاً، فهو من أبرز إفرازات الحرب والانفلات الأمني، وأكثرها وضوحاً. كان يعمل تاجراً في السوق الكبير، في بدايات الحرب تطوع للقتال تحت إمرة فصيل محلي دفاعاً عن أرضه من الأعداء. ومع مرور الوقت صارت مسؤولياته تتطلب قتالاً أقل، وجهداً استخباراتياً أعلى، فاستقر في المدينة، وازداد نفوذه تدريجياً ليصبح من الأشخاص الذين يمتلكون من النفوذ والقوة ما يمكنهم فعل أي شيء يريدونه".
هواجس الموهبة الأدبية في التأليف والنشر
ضمن هذا الإطار التاريخي والسياسي، تتطور حكاية الشاب خالد حمدان الذي يقوده مصيره موهبة في الكتابة يحاول تحقيقها: "تخرج من كلية الفنون الجميلة، ولم يتوقف عن الكتابة منذ كان طفلاً في الثانية عشرة من عمره، لكنه حاول أن يشق طريقه ضمن اختصاصه، فبدأ بممارسة فنه عبر بعض محاولات البورتريه متأثراً برامبرنت، وقد أنجز بعض الأعمال الجيدة، لكنه سرعان ما مل تلك الألوان الكئيبة، فانتقل مجرباً عالم الفن التكعيبي، وأنجز عدة أعمال عدها أحد أصدقاء والده تقليداً خُرائياً للفرنسي جورج براك، فهجر الفن كله. فعاد إلى اختصاصه الأساسي: تصميم الجرافيك، وقد نجح إلى حد كبير، وأطلق على نفسه اسم Inspiration". ومن خلال حكاية خالد، في علاقته مع خليل النايف الذي سيشتري رواياته وقصصه، تدخلنا الرواية بأهم ما يميزها عوالم الكتابة، التأليف، والنشر، تكتب دار نشر ممدوح عدوان في تقديم الرواية: "ضمن سياق تشويقي، وإيقاع متسارع، يغوص تميم هنيدي في كواليس علاقات الكتاب، والناشرين، وأصحاب المكتبات، ويضيء على الطريقة التي قد توظف فيها الثقافة لتلميع صورة الطبقة السياسية التي أفرزتها الحرب".
تدخلنا الرواية في فضاءات عوالم الكتب، الكتابة، والتأليف، عبر عدة مستويات. المستوى الأبسط بينها هي المكتبة التي يعمل فيها خالد: "يعمل خالد في مكتبة بلس منذ سنوات، تتلخص مهمته بمراجعة الحسابات والمراسلات، والإجابة عن استفسارات الزبائن الموزعة على وسائل الاتصال كلها، وترتيب الكتب في أماكنها الصحيحية، وبيعه الكتب لمن يريدها ولمن لا يريدها". فتكوّن المكتبة في الرواية مجالاً لمناقشة أعمال روائية عربية وعالمية (العطر، باتريك زوسطند)، (الأخوة كارامازوف، دوستويفسكي)، (الحرافيش، نجيب محفوظ)، و(شيفرة دافنشي، داني براون). فتجري نقاشات حول قيمة هذه الروايات، وحول العلاقة بين قيم العمل الأدبي وسوق المبيعات.
أما المستوى الثاني، والأكثر امتداداً على مساحة الرواية، والمتعلق بعوالم الكتابة، هي مسيرة خالد حمدان ككاتب، علاقته مع الكتابة، أو علاقته مع منتجه الأدبي. فكما أي شخصية تطمح للكتابة، تتدرج شخصية خالد في أسئلتها حول ودوافع الكتابة: "كيف تريد أن تصبح كاتباً وأنت تعجز عن التعبير"، وتجري نقاشات حول خصائص الكتاب: "أنت قارئ عظيم، ولديك جينات الكاتب العظيم أيضاً. لا تخف سوف تكتب رواية يوماً ما. قلة الموهبة لم تكن يوماً محرقة الكتاب، بل قلة نشاطهم كانت محرقتهم". وترافق الرواية الكاتب الناشئ في رحلته النفسية والذهنية في تأليف أعماله: "تزامن وصول الشتاء في ذلك العام مع رحيل الآمال المتبقية بانتهاء الحرب. كان خالد آنذاك يبلغ من العمر 28 عاماً، وقد أنهى روايته الأولى (صبايا الجسر)، ولم يتفق مع أي دار نشر على إخراجها للنور، كأن مراده كان إنجازها فقط".
تتألف (ثلاثية نيويورك، بول أوستر) من ثلاثة أجزاء: (مدينة الزجاج، 1985)، (الأشباح، 1986)، (الغرفة الموصدة، 1986). ويتخصص الجزء الثالث منها بعوالم الكتابة والتأليف، وأسئلة الهوية بين الكاتب الأصل والكاتب الظل.
تدور الحكاية حول الناشر الشخصية الرئيسية، الذي تبدأ الحكاية بتلقيه رسالة من صوفي زوجة صديق طفولته تخبره بإختفاء صديقه فانشو، وبوصية تركها عبارة عن مخطوطات أعمال أدبية لم تنشر سابقاً: "تلقيت رسالة من امرأة تدعى صوفي فانشو، تقول بأن فانشوا اختفى، ولا أدنى إشارة إلى المكان الذي يحتمل وجوده فيه، ولم تعثر الشرطة على أثر له، وعاد التحري الخاص الذي استعانت به خاوي الوفاض. طلب فانشو أن تعطي لي المخطوطات في الحال، والسماح لي بالقيام بكل الترتيبات، على أساس أنني سأتلقى خمسة وعشرين في المائة من أية أموال تدرها الأعمال". والكاتب الأصلي خالد في رواية (الجنيات)، كما الكاتب الأصلي في رواية (الغرفة الموصدة) كلاهما ناشئ، متشكك في موهبته، يبحث عن أعمق مستويات النجاح والقيمة، مما أعاق تقديمه أعماله لجمهور القراء: "لم يحاول فانشو أن ينشر أعماله، في البداية، عندما كان في مقتبل العمر، كان أكثر تهيباً من أن يبعث بأي شيء إلى ناشر، إذ ساروه شعور بأن عمله ليس على القدر الكافي من الجودة".
صراع الهويات بين الكاتب الأصل والكاتب الزائف
المستوى الثالث من مستويات الرواية فيما يتعلق بعوالم الكتابة والتأليف، هي العلاقة التي تنشأ بين خالد حمدان وخليل النايف، المحامي المتنفذ الراغب الدخول في عالم الكتابة والتأليف: "لا يتذكر أهالي الجنيات متى صار خليل النايف نافذاً قوياً، ومن الصعب تحديد الوقت الذي طار يُحسب فيه له حساب". وفي مجريات الحكاية، يبيع الكاتب الأصلي روايته الأولى (صبايا الجسر) فتحقق نجاحاً كبيراً: "الرواية كانت حدثاً مهماً في المدينة، فبعد حفل التوقيع صارت اقتباسات (صبايا الجسر) تقفز من فم إلى آخر، ومن شاشة إلى أخرى. أهداها العشاق لبعضهم على بطاقات معطرة، كما كتب عنها الصحافيون والنقاد". ثم يبيع روايته الثانية (مذكرات مستر بيكر) عن حكاية نيسلون مانديلا ورفاقه السجناء في جزيرة روبن تحت نظام الفصل العنصري الأبارتهايد، الذين سعوا وناضلوا لأن يحصلوا على حق بسيط جداً، يتثمل بالسماح لهم بلعب كرة القدم في الأوقات المخصصة للرياضة. وبعد أشهر من الرفض، والتعذيب، والظلم، سُمح لهم في عام 1965 للمرة الأولى في أيام السبت فقط، ونشأت بعد ذلك منظمة خاصة معنية بكرة القدم داخل أسوار السجن، وصلت إلى أن تعترف بها الفيفا لاحقاً، وعدها سجناء كثر سبباً مباشراً مكنهم من النجاة. تدور حكاية رواية خالد المتخيلة في غالبها- لكن المبنية على العديد من المصادر – حول أول فريق نظم الحدث التاريخي.
في كل من (الجنيات) و(الغرفة الموصدة)، تحقق الروايات المُباعة أو المُنتحلة نجاحاً كاسحاً، ويتشهد السارد في (الجنيات) بحكاية فيلم سينمائي لتوصيف المشاعر التي يعيشها الكاتب الأصلي الذي تحول إلى كاتب ظل مجهول: "أتذكرون فيلم نولان الشهير The Prestige؟ على مدى الأسابيع التي تلت حفل التوقيع كان خالد الحمدان هو هيو جاكمان، الساحر الحقيقي الذي كان ينحني محيياً الجمهور، وهو وحيد تحت خشبة المسرح، بينما كان شبيهه يستقبل التصفيق والصفير في الأعلى، على المسرح الحقيقي". أما في رواية بول أوستر فتأخذ الرواية المنتحلة مصير المجد، فيعجب بها مدير احدى دور النشر، وتحقق قدراً عالياً من القيمة المادية والأدبية: "قال ستيورات مشيراً إلى نسخة رواية "أرض المستحيل" الموضوعة على مكتبه: إنه كتاب غريب، فهو كما تعلم ليس من نوع الروايات التي تميل إليها، ولكن ليس هناك مجال للتشكيك في قدرة الرجل على الإبداع. لقد قرأت الكتاب قبل ما يزيد عن أسبوعين، وقد لازمني منذ ذلك الحين، وليس بمقدوري انتزاعه من ذهني. كانت العروض عن الرواية بلا استثناء جيدة، بل وبعضها متميز. كان هذا هو كل ما يمكن أن يأمل المرء فيه، وكانت هذه هي القصة الخيالية التي تراود أحلام كل الكتاب. وبعد أسابيع قليلة من الإصدرا تجاوزت المبيعات ما كان متوقعاً بالنسبة إلى الطبعة الأولى بكاملها". وتتعقد العلاقة بين الكاتب الأصلي وبين الكاتب المنتحل للهوية: "هذا هو الموضع الذي يجب، بمعنى من المعاني، أن تنتهي عنده القصة. العبقري الشاب مات، ولكن أعماله تواصل خلودها، ولسوف يتذكر اسمه على امتدا سنوات كثيرة تالية".
هواجس التأليف الأدبي بين الشك والإبداع
ربما أدق ما ترصده رواية (الجنيات) هي التجربة الوجدانية والنفسية والذهنية، لكاتب ظل يشهد على نجاح وقيمة أعماله الأدبية لكن المنسوبة إلى شخصية أخرى: "لم يستطع خالد فهم مشاعره، ربما كانت أعقد من أن تُفهم. لم يكن سعيدً بكل تأكيد، لأنه يتابع بصمت الصخب المصاحب لنجاح روايته، لكنه لم يكن حزيناً أيضاً"، وفي موضع آخر: "كانت هذه الحالة تشعر خالداً بنوع من اللذة غير المفهومة في البداية، شعور بنشوة مبهمة سرعان ما سيطر على عقله بعد أن كان مرتعاً للأفكار السلبية المنكسرة. فبعيداً عن الجانب الأخلاقي من فعلته، هناك بعد آخر مثير للغاية، لقد صنع كاتباً". وبما أن كل التعقيدات الذهنية والنفسية ترتبط بالكتابة، فيقرر خالد الانتقام عبر الكتابة أيضاً، ليحقق رواية الأخذ بالثأر والتي تروي قصته، ورغم ميله إلى الإخفاق في البداية: " كان كل شيء يتداعى، وخطته التي كان من المفترض أن تكون قارب نجاة سرعان ما بات يراها مثل زورق صغير من ورق. الرواية التي حلم بها مذ كتب الكلمة الأولى، حكايته هو التي تجلس في عالم الروايات تنتظر دورها لأن تحظى بنهاية. الرواية الصاعقة التي رآها تخلد اسمه وتمحو اسم خليل النايف إلى الأبد، وسيلته الوحيدة لأخذ الثأر باتت الآن مهددة بالزوال، بأن تُقتل قبل أن تعيّشه". إلا أن هذه الرواية التي تتحدث عنها الفقرة السابقة، ما تلبث أن تكتمل، وتصبح النص المنشور بين يدي القارئ أي رواية (الجنيات).
في رواية (الغرفة الموصدة)، تظهر شخصية الكاتب الأصلي مجدداً، فانشو، ويوجه رسالة إلى صديقه الذي انتحل شخصيته بعد أن اعتقد أنه ميت: "لا تغضب مني لكتابتي هذه الرسالة لك، فقد أردت أن أبعث لك، متجشماً المخاطرة بتعريضك لأزمة قلبية. لن أوضح لك موقفي هنا، وعلى الرغم من هذه الرسالة فإني أريدك أن تواصل النظر إليّ باعتباري ميتاً. ويتعين ألا تبلغ أحداً بأنك تلقيت رسالة مني، فلن يعثر علي أحد. وأريدك في المقام الأول ألاتذكر شيئاً لصوفي، اجعلها تطلب الطلاق، ثم تزوجها بأسرع ما يمكنك، أن الطفل بحاجة إلى أب، وأنت الوحيد الذي يمكنني الاعتماد عليه في القيام بهذه المهمة". وتتوقف حكاية رواية بول أوستر عند صعوبات الكتابة الأولى، فها هو الكاتب فانشو، ورغم النجاح الذي حققته أعماله الأدبية، إلا أن يبقى قلقاً من مصير الكاتب ويعتبر الكتابة مرضاً تخلص منه: "أسعدني أن أعمالي قد أثارت كل هذا الاهتمام، ولم يخطر ببالي شيئاً من هذا القبيل يمكن أن يحدث، لكن كل هذا يبدو بعيداً للغاية عني الآن، فتأليف الكتب ينتمي إلى حياة أخرى مفارقة بالنسبة إليّ، والتفكير فيه الآن لا يثير حماسي، ولن أحاول أبداً المطالبة بأية أموال، وأنا أعطيك وصوفي إياها عن طيب خاطر، فقد كانت الكتابة مرضاً دهمني ولزمني وقتاً طويلاً، ولكنني شفيت الآن منه".
هما روايتان عبر الحبكة الحكائية المتعلقة بالكاتب الأصلي والكاتب المنتحل، أو المؤلف الحقيقي -الظل والمؤلف الزائف، تفتحان السرد على أسئلة الكتب، الكتابة، والتأليف، والنشر. عن صعوبات الكتابة الأولى، والعلاقة المعقدة بين ذات الكاتب وعمله الإبداعي، وبين هوية الكاتب-الإنسان، وهوية الكاتب-المؤلف. كما هو الحوار التالي بين رامي وخالد من رواية (الجنيات):
- تبيع حكاياتك مقابل المال؟ لا أصدق.
- أليس هذا ما يفعله الكتاب؟
لم يجب رامي، فتابع خالد بدون انتظار:
- لقد خدعنا الجميع، لكن فكر بها قليلاً، لماذا يهمّ من كتب الكتاب أكثر من الكتاب ذاته؟
- لأن الكاتب هو الذي يخرج ليعطينا النصائح والآراء وليس الكتاب. هو الذي يؤثر في المئات والآلاف، مكبر الصوت – مع الأسف- مع الكاتب يا عزيزي، وليس مع الكتاب.