إلى جانب معاناتهم من ضخامة المناهج المقررة وغياب الوسائل التعليمية لا سيما في مختبرات الكليات التطبيقية، فضلاً عن الأزمات المفتعلة في مناطق النظام بين الحين والآخر كأزمة المواصلات وانقطاع الكهرباء والغلاء المعيشي، واجه طلاب كلية الطب البشري في جامعة دمشق مشكلات من نوع آخر اتضحت بإصدار نتائج امتحانات الفصل الأول.
الاعتمادية: نعمة أم نقمة على الطلاب؟
لم يكن حصول كلية الطب البشري في جامعة دمشق على "الاعتمادية الدولية" ذا انعكاسات إيجابية على الطلاب وفق شهادات بعضهم لموقع تلفزيون سوريا، على الرغم من التطبيل والضجة التي أحدثتها وزارة التعليم آنذاك بوصفه إنجازاً يُسجل لجامعة دمشق كما صرّح (محمد أسامة الجبان) رئيس جامعة دمشق لكون الاعتمادية "ستسهم في الاعتراف الدولي بشهادة كلية الطب البشري بجامعة دمشق" وفق قوله.
وتعني الاعتمادية من الاتحاد العالمي للتعليم الطبي (WFME) قدرة الخريج من كلية الطب البشري بجامعة دمشق مزاولة المهنة ومتابعة تحصيله العلمي في أي مكان في العالم.
لكن الدكتور بيان السيد، رئيس اللجنة ومدير مكتب ضمان الجودة، ومعه محمد أسامة الجبان.. تناسيا في خضّم احتفالهم بالاعتمادية أمام وسائل إعلام النظام، أن مختبرات كلية الطب البشري وغرف التشريح تنقصها معظم التجهيزات العلمية، وأن المجاهر الضوئية والإلكترونية مُعطلة؛ الأمر الذي يدفع بالأطباء (طلاب كلية الطب) إلى التجمع فوق مجهر واحد أو مجهرين من أجل إتمام الجلسات العملية.
استطاع موقع تلفزيون سوريا لقاء طلاب من داخل كلية الطب البشري من سنوات ما قبل الاختصاص لمعرفة رأيهم بالاعتمادية وانعكاسات ذلك على مستواهم الدراسي بعد قرابة سنة من صدور الاعتمادية.
مناهج ضخمة وخلافات الأساتذة
عبّر عدد كبير من الطلاب عن خيبة أملهم ولا سيما بعد انقضاء امتحانات الفصل الأول، إذ بدلاً من أن يرفع قرار الاعتمادية من السوية التعلمية لكليتهم عبر تطوير المناهج وتحسين التجهيزات ولا سيما المختبرات (المخابر)، أدى القرار إلى مزيد من المشكلات في طريقهم الدراسي.
ويعاني الطلاب في سنوات ما قبل الاختصاص، من ضخامة المناهج الناتجة عن تقاسم المقرر الواحد بين عدد من الأساتذة، قد يصل عددهم إلى 4 أساتذة؛ ما يعني أن كل أستاذ منهم سيطلب مرجعاً خاصّاً به للدراسة "نوطة دراسية" أو كتاباً لقسمه، ليصبح أمام الطلاب في نهاية الفصل "تلة" من الكتب والمحاضرات وفق وصفهم، فقط لمقرر واحد!.
إلى جانب غياب التنسيق بين الأساتذة وخلافاتهم حول محتوى المادة العلمية المعطاة، وهو ما حصل مع طلاب السنة الثانية في مقرر (النسُج) إذ ألّف الدكتور (عمر الزعبي) كتاباً خاصاً به وفرضه على الطلاب لكون الكتب الموجودة في مستودع الكلية قديماً ويعود تاريخه إلى عام 2007؛ وهو ما أحدث مشكلات مع إدارة الجامع.
وقد دخل الطلاب في إثر ذلك، في حالة من التشتت وإضاعة الوقت لعدم توحيد المحتوى العلمي للمقرر آنف الذكر، وزيادة التكاليف المادية لشراء الكتاب والمحاضرات المطلوبة.
ولم يتوقف الأمر على غياب توحيد المحتوى المكتوب للمادة، بل يسخر الطلاب في السنوات الأربع الأولى من خلافات الأساتذة على المعلومة الطبية المتعلقة بإحدى المتلازمات أو أحد الأمراض؛ إذ لكل منهم وجهة نظره بحسب الدولة التي أتمّ فيها دراسة الدكتوراه.
يقول الطالب (عامر) ساخراً: "حينما يأتي إلينا المريض في المستشفى نُشخص حالته المرضية وفق مزاج الدكتور فلان أم الدكتورة فلانة؟ وعلى أي مؤلَّف نعتمد؟ عن أي اعتمادية يتحدثون ولا مرجعية طبية في المقررات نعتمد عليها؟!".
مستودع الكتب الجامعية شبه فارغ
يخلو مستودع الكتب الجامعية لكلية الطب البشري من المؤلفات والمراجع التي يحتاجها الطلاب، فيما عدا بعض الكتب القديمة التي لا يعول عليها علمياً بسبب عدم اشتمالها على الدراسات والأبحاث الحديثة.
وقد أوضحت الطالبة (عُلا– اسم مستعار) وهي من طلاب السنة الرابعة أن الكتب المتوفرة في المستودع في معظمها كتب السنة التحضيرية، تقول (علا): "نلجأ إلى شراء النوطات والملخصات التي يكتبها الطلاب من المكتبات الخارجية... ولا مؤلفات حديثة في المستودع لنعتمد عليها".
وتتراوح أسعار "النوطات" لمواد السنة التحضيرية بين 50 و100 ألف ليرة سورية لكل مادة، في حين يلجأ عدد كبير من الطلاب إلى طباعة الكتاب الجامعي نفسه في مكتبات خارجية لعدم توفره في المستودع.
الاعتمادية.. مبرر الأساتذة لتصعيب الأسئلة
اشتكى عدد من الطلاب في السنوات ما قبل الاختصاص، ولا سيما طلاب السنتين الثالثة والرابعة من صيغة الأسئلة غير المفهومة خلال امتحانات الفصل الأول لعام 2024؛ إذ تعمّد الأساتذة جعل الأسئلة تحمل عدة أوجه للإجابة فضلاً عن تكرار بعض الأسئلة التي تحمل الإجابة نفسها لكن بصيغتين مختلفتين؛ الأمر الذي أدى إلى انسحاب عدد كبير من طلاب السنة الرابعة من امتحان مقرر (الباطنة غدد) في حين استمر البقية بحل الأسئلة مع يقينهم بالرسوب.
تقول (عُلا): في شهادتها لموقع تلفزيون سوريا حول المقرر الآنف الذكر الذي تقدموا إلى امتحانه بتاريخ 27 من شباط 2024 وصدرت نتائجه بتاريخ 7 من آذار 2024، "انسحب من امتحان المقرر عدد كبير من الطلاب قبل انتهاء الوقت، ورغم تحضيرنا وسهرنا لأيام طويلة لدراسة المقرر، إلا أنّ الأسئلة كانت خارج التوقعات فهي مُحيِّرة وغير مفهومة، وكأن مَن وضع الأسئلة لا يعرف اللغة العربية ولا الطب حتى! وحينما صدرت النتائج كان عدد الناجحين لا يتجاوز الـ 270 طالباً من أصل 1000 طالب متقدم تقريباً؛ فقد بلغت نسبة النجاح 28% فقط".
وبرر أساتذة المادة -وفق شهادات طلاب السنة الرابعة- صعوبة الأسئلة برفع السوية العلمية للطلاب بعد الاعتمادية! وقد أوضح عدد من الطلاب الذين تقدموا بشكوى، أنهم وُعدوا بحذف الأسئلة "المربكة" وإعادة توزيع علامتها على بقية الأسئلة من أجل رفع نسبة النجاح، لكن الوعود بقيت وعوداً.
ولم يقتصر الأمر على مقرر (الباطنة غدد)، بل عانى الطلاب في سنوات مختلفة من وضع مشابه في مقررات الباطنة كلية، وعلم الأدوية، والباطنة الهضمية. وهو ما تسبب بتدني نسب نجاح الطلاب بدلاً من رفع السوية العلمية.
"الرابط العجيب" بين الاعتمادية وتزفيت الطرقات
ترافق إعلان الاعتمادية مع بدء أعمال تعبيد "تزفيت" لبعض الطرقات بين مباني الكلية، فضلاً عن تركيب لوحات توضح الاتجاهات داخل الكلية وإعادة تركيب "السيراميك" الخارجي لبناء المخابر، رغم أن المخابر نفسها كما أشرنا سابقاً تخلو من التجهيزات والأدوات العلمية.
الأمر الذي أثار سخرية الطلاب واستياءهم في الوقت نفسه؛ فقد كان من الأولى تسخير هذه الميزانية لتحسين المناهج والمختبرات وتأمين الكتب الجامعية، بدلاً من بعض التغييرات الظاهرية التي لم تتجاوز بعض الطرقات والأبنية في حرم الكلية.
يُشار إلى أن دورات المياه في الكلية وقاعاتها ومدرجاتها تعاني القذارة المفرطة وغياب النظافة والتعقيم، إلى جانب كون قاعات تشريح الجثث غير نظيفة، والجثث فيها قديمة جداً؛ إذ يعاني الطلاب عدم القدرة على أخذ مشاهدات واضحة من هذه الجثث بعد تغير لونها وغياب معالمها، إذ لا يمكن تمييز النسج والأعضاء فيها.
في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، يقول (عامر) وهو طالب في السنة الخامسة: "لا لوم عليهم بقذارة كلية الطب عندما تكون المستشفيات وغرف العمليات خارج حساباتهم في عملية التنظيف والتعقيم!".
المحاضرات بأكثر من نصف مليون
عانى عدد كبير من الطلاب على اختلاف سنواتهم الدراسية ومستوياتهم المادية في الفصل الأول من التكاليف الباهظة لشراء المحاضرات و"النوطات" الورقية من المكتبات الخارجية.
الأمر الذي تطلب "ميزانية خاصة" دفعت ببعضهم إلى الاستدانة من الأقارب أو الاعتماد على الدراسة مع الأصدقاء من المحاضرات نفسها التي يملكها أحدهم، أو شراء المحاضرات والكتب المستعملة من طلاب السنوات السابقة، في الوقت الذي يتعذر عليهم الدراسة من مصادر إلكترونية بسبب انقطاع الكهرباء المستمر وعدم القدرة على شحن الأجهزة الإلكترونية في معظم الأوقات.
في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، أوضحت (عُلا) أنها دفعت مبلغاً يزيد على نصف مليون ليرة سورية لشراء المحاضرات للدراسة لامتحانات الفصل الأول، تقول (عُلا): "لدي 7 مواد في الفصل الأول واضطررت إلى دفع 652 ألف ليرة سورية لشراء الملخصات من مكتبة الكمال، وقد كان هذا المبلغ عبئاً على والدي ولا سيما أنه موظف حكومي لا يتجاوز مرتّبه الـ 460 ألف ليرة، فاضطرّ إلى الاستدانة من خالي من أجلي".
أما (عامر) الطالب في السنة الخامسة فقد قام بشراء المحاضرات والكتب المستعملة من أحد الطلاب منذ بداية الفصل الأول لتوفير جزء من التكاليف.
يقول (عامر) لموقع تلفزيون سوريا: "اشتريت الملخصات والمحاضرات في بداية الفصل بمبلغ 250 ألف ليرة سورية – ربع مليون، ورغم كثرة كتابة صاحبها عليها وتشوه شكلها، إلا أنني حاولت ترتيبها قدر المستطاع، لكن المشكلة التي واجهتني هي تعديل الدكاترة على بعض المحاضرات بالزيادة أو النقصان؛ الأمر الذي أجبرني على إعادة كتابة بعض المحاضرات من جديد بخط اليد... كون الدكاترة يخترعون مادة جديدة بين الحين والآخر!".
يُشار إلى أن بعض المكتبات تحتكر المادة العلمية لبعض المقررات لتكون ذات الحصرية ببيع محاضرات؛ إذ ترفض منحها إلكترونياً للطلاب وتحصر الحصول عليها ورقياً بالشراء من المكتبة نفسها؛ تماماً كما فعلت مكتبة الكمال لجني الربح الأكبر من الطلاب.
وقد مهّد لهذه التجارة في كلية الطب وبقية الكليات -كما أشرنا سابقاً- غياب المادة العلمية الموحدة وعدم وجود الكتب الجامعية في المستودع، إلى جانب امتناع بعض الأساتذة عن منح الطلاب المادة المكتوبة من قبلهم بحجة "إجبار الطلاب على الحضور وتدوين ما يقوله الأستاذ خلال المحاضرة".
تكاليف تثقل كاهل الأهالي
الجدير بالذكر أن الطالب يحتاج يومياً إلى مبلغ 10 آلاف ليرة سورية على الأقل، من أجل تكاليف المواصلات وحدها؛ أي ما يعادل 50 ألف ليرة سورية خلال 5 أيام دوام أسبوعياً، وهو أمر يعاني منه على وجه التحديد طلاب الكليات التطبيقية الذين لا يستطيعون التغيُّب بسبب وجود الجلسات العملية.
كما لجأ عدد كبير من طلاب السنة التحضيرية إلى أخذ "كورسات" أونلاين لمواد الفصل الأول ليستطيعوا التقدم إلى امتحانها، ويعطي هذه الكورسات طلاب من السنوات الرابعة أو الخامسة أو حتى الطلاب الخريجون (طلاب سنوات الاختصاص).
وهو ما أكده (أحمد) الطالب في السنة التحضيرية في حديثه لموقع تلفزيون سوريا بعد أن اضطرّ إلى دفع مبلغ 600 ألف ليرة سورية لأخذ 3 كورسات بعدد ساعات معينة، لمواد: البيولوجيا (40 ساعة)، الكيمياء العامة (35 ساعة)، الفيزياء (35 ساعة).
وقد أثقلت هذه التكاليف كاهل الأهل والطلاب، ما اضطر عدد كبير منهم إلى تجميع محاضراتهم في يومين أو ثلاث على الأكثر بدلاً من الدوام بشكل يومي، أو حتى التغيُّب القسري عن الجامعة ومتابعة سير الدوام والمحاضرات المعطاة من خلال المجموعات الطلابية على الواتس آب أو تلغرام.
تقول (عُلا): "صرت أخجل أن أطلب من أهلي 10 آلاف أو أكثر يومياً، ولو لم يكن لدي ضغط هائل في دراسة كلية الطب لكنت عملتُ في عمل ما إلى جانب الدراسة.. وأسعى في الوقت الحالي إلى إيجاد طلاب مدارس لإعطائهم دروساً خصوصية في مادتي العلوم والإنكليزي، لتأمين مصروفي الجامعي على الأقل".