رحلة الموت التي عاشها مئات اللاجئين من بلاد العرب في ظلمات البحر المتوسط أمام ساحل اليونان، تلخص حالنا اليوم، حيث المواطن العربي يفر من بلاده التي تتغنى بجمالها الإذاعات المحلية، فيترك أهله وخلانه، ويخاطر بحياته، مفضلا حياة اللجوء، والعيش على هامش مجتمع جديد، لا هو مؤهل للانخراط فيه، ولا ذلك المجتمع يرحب به أو يعترف بمؤهلاته.
إننا في بلاد يحيا فيها الكل لخدمة الحاكم، وتبجيله، والإشادة بقدرة أجهزته وحاشيته، على تحويل حياتهم إلى جحيم لا يطاق. ومع ذلك ينبغي على هذا المواطن ليكون صالحا ومقبولا أن يشكرهم على نعمة الكهرباء، ولو ساعة في اليوم، وأنهم يوفرون له شربة ماء عكرة وجرعة دواء منزوعة الفاعلية. وشكرا أيضا على السماح باستنشاق الهواء الملوث بفسادهم والملطخ بدماء ضحاياهم، ودموع أهالي المظلومين في سجونهم.
إنها بلاد العرب التي يهان فيها كل شيء ولا يعلو سوى شأن الحاكم، وتتدحرج احتياجات المواطن وكرامته تحت أقدام أزلامه الفاسدين، وعناصر مخابراته الذين يحصون على هذا المواطن أنفاسه، لكنهم لا يعلمون، ولا يريدون أن يعلموا، كيف يتدبر معيشته وقوت عياله.
لدى التدقيق في الانتماء الجغرافي للسوريين الغارقين في بحر اليونان، نجد أن معظمهم من محافظة درعا، والتي يعمل النظام وأجهزته الأمنية باجتهاد على تهجير شبابها إلى الخارج
وفي سوريا، يبرز هذا المشهد الكئيب بأوضح تجلياته، حيث يضاف إلى الافتقار لكل مقومات الحياة تقريبا، الافتقاد للأمان بعد أن انحسرت "الدولة" حتى بهياكلها الشكلية، لصالح حكم الميليشيات، وليصبح النظام الحاكم مجرد إحدى هذه الميليشيات، يجندها أو يتنافس معها، على سلب من تبقى من مواطنين، المتبقي من سبل العيش، والشعور بالانتماء إلى شيء كان اسمه بلد ووطن.
ولدى التدقيق في الانتماء الجغرافي للسوريين الغارقين في بحر اليونان، نجد أن معظمهم من محافظة درعا، والتي يعمل النظام وأجهزته الأمنية باجتهاد على تهجير شبابها إلى الخارج وفق خطط مدروسة تقوم على بث الفوضى الأمنية، ونشر المخدرات، والابتزاز والتهديد بالاعتقال.
خطط يقول العارفون ببواطن الأمور بأنها تستهدف إحداث تغيير ديموغرافي في مناطق الجنوب السوري وإفراغ المنطقة من عنصر الشباب، حيث يجري خلال كل تسوية منح الشبان مهلة 6 أشهر للالتحاق بالخدمة العسكرية مع السماح بالحصول على جواز سفر، وإذن سفر ومغادرة البلاد. وعقب كل تسوية، يغادر مئات الشبان المحافظة هربا من تأدية الخدمة العسكرية ومن الواقع الأمني المتردي حيث تجري يوميا عمليات اغتيال وخطف واعتقال.
ووفق المعطيات التي توفرت بعد حادثة أو جريمة، غرق أو إغراق المركب، إن ثبت تسبب خفر السواحل اليوناني في ذلك، فإن معظم السوريين الذين كانوا على متنه هم من محافظة درعا، وكثير منهم ممن أجروا مؤخرا تسويات مع النظام، وفضلوا الهجرة على الخدمة في قوات الأسد، حيث يتم فرزهم غالبا إلى المناطق الساخنة في الشمال السوري ليلقون حتفهم هناك.
ومن يختار منهم البقاء، فهو يفعل ذلك غالبا مضطرا بسبب عدم توفر تكاليف هذه الرحلة المضنية والمحفوفة بالمخاطر معه، حيث كلفة انتقال الشخص من درعا إلى لبنان أو مناطق الشمال السوري قد تزيد على 1500 دولار. ومن يبقى، فهو غير آمن على حياته من الاغتيال أو الاعتقال، حتى لو أجرى تسوية، سواء اختار نشاطا مدنيا رافضا الانخراط في تشكيلات النظام الأمنية والعسكرية، أم انخرط فيها، فيكون مستهدفا في هذه الحالة من الفصائل المعارضة للنظام والعاملة في المحافظة.
إن موقف النظام في دمشق الذي لم ينبس ببنت شفة لا هو ولا وسائل إعلامه حول المصير المأساوي الذي حاق بعشرات ممن يفترض أنهم مواطنوه، يجسد خير تجسيد ليس حالة من عدم الاكتراث بحياة هؤلاء البشر الذين يفترض أنهم مواطنوه, بل درجة متقدمة من التشفي
وكذا الحال في المناطق الأخرى، التي قد تكون الظروف الأمنية فيها أفضل قليلا، لكن الظروف المعيشية تقسم ظهر الجميع، وخصوصا الشباب الطامحين لبناء مستقبلهم، فيجدون أنفسهم يلهثون طوال الشهر إن وجدوا عملا أصلا، من أجل راتب لا يسمن ولا يغني من جوع وقد لا يتجاوز 15 دولارا.
إن موقف النظام في دمشق الذي لم ينبس ببنت شفة لا هو ولا وسائل إعلامه حول المصير المأساوي الذي حاق بعشرات ممن يفترض أنهم مواطنوه، يجسد خير تجسيد ليس حالة من عدم الاكتراث بحياة هؤلاء البشر الذين يفترض أنهم مواطنوه، بل درجة متقدمة من التشفي والسرور بغرقهم، وهو الذي لا يبالي أصلا بحياة مناصريه ومؤيديه، فما بالك بمن تصنفهم أجهزته الأمنية كأعداء خطرين، لا بأس أن يكون مصيرهم التهلكة في البحر، وقد تعذرت تصفيتهم داخل بلدهم، خشية ردود فعل محلية انتقامية من جانب أهاليهم.