قد يظن الزائر لأحياء حلب الشرقية، أنّ الحرب ما تزال مستمرة، حيث المباني المدمّرة بفعل القصف السابق للنظام السوري وحلفائه، والركام يغلق الكثير من الطرقات، إضافة إلى انتشار أكوام القمامة، وشبه انعدامٍ للخدمات الأساسية من ماء وكهرباء.
ومع غياب أي حلول حقيقية من قبل النظام لإعادة الإعمار أو تحسين الظروف المعيشية، فإنّ هذه الأحياء تعيش حرباً من نوع آخر تتجلّى في الإهمال المتعمّد والتهميش المقصود، ما يزيد في معاناة السكّان ويدفعهم للتفكير بالهجرة إلى أماكن جديدة داخل سوريا أو خارجها.
في نهاية العام 2012، سيطرت فصائل المعارضة السورية على القسم الشرقي من مدينة حلب، الذي يضم عدداً من الأحياء أبرزها: (صلاح الدين، السكري، والفردوس، والمرجة، وباب النيرب، وطريق الباب، وهنانو، الحيدرية، والصاخور، والشعار)، إلى جانب أجزاء من المدينة القديمة.
لكنّ الفصائل انسحبت من تلك الأحياء، بموجب اتفاق بين المعارضة وروسيا برعاية تركيا، أواخر العام 2016، وجاء بعد حملة عسكرية للنظام السوري -بدعمٍ روسي وإيراني- تسبّبت بدمار واسع في البنى التحتية والخدمية، مكنّت النظام والميليشيات الإيرانية من السيطرة على معظم تلك الأحياء، قبل أن تنتهي الحملة بـ"تهجير" سكّانها.
وخلال هذه الفترة (2012- 2106) شهدت مدينة حلب أكبر نسبة دمار في سوريا، لا سيما القسم الشرقي، بحسب تقرير صادر عن معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR)، عام 2019، يبيّن مدى الدمار الذي لحق بالمحافظات والمدن السورية.
تردي الخدمات الأساسية
على الرغم من كل الوعود التي قدّمها النظام منذ سيطرته على هذه الأحياء، بإعادة الحياة إليها وإعمارها، إلا أنّ الواقع يحكي عكس ذلك تماماً، خاصة بالنسبة للبنى التحتية من خدمات وماء وكهرباء ونظافة، وذلك بحسب ما أكّده عدد من السكان لـ موقع تلفزيون سوريا.
وتكمن المعاناة الأساسية لهذه الأحياء في عدم توفّر الكهرباء، وانقطاعها لساعات طويلة، إذ لا تصل إلا مدة 3 إلى 4 ساعات يومياً، وغالباً ما تكون ضعيفة، حيث لا تمكّنهم من استخدام الأجهزة الأساسية، أو حتى التدفئة في الشتاء.
أحمد.ع -أحد سكان حي الحيدرية في حلب- يقول لـ موقع تلفزيون سوريا: إنّه "على الرغم من وعود المحافظة بمد خط كهربائي من المدينة الصناعية في الشيخ نجار لتغذية الحي، إلا أن المعاناة ما زالت مستمرة، مما يضطر الأهالي إلى الاعتماد على الأمبيرات لتأمين حاجاتهم الأساسية رغم ارتفاع ثمنها، إذ تصل كلفة الأمبير في الأسبوع، لمدة 6 ساعات يومياً، إلى حدود الـ70 ألف ليرة سورية أي بمعدل (4,5) دولارات".
وعدم توفر الكهرباء وارتفاع أسعار الأمبيرات أثّر أيضاً على القطاع الصناعي في مدينة حلب، إذ أسهم في ارتفاع كلفة الإنتاج، الذي يؤدّي بدوره إلى ارتفاع أسعار البضائع.
وسبق أن نقلت إذاعة "شام إف إم" المقرّبة من النظام السوري عن مدير كهرباء حلب، باسل قواص، في حزيران 2023، أنّ ثلث مدينة حلب من دون كهرباء، معترفاً بأن الأحياء الشرقية الأكثر تضرراً و"لم تأخذ حقها بشكل كامل".
إلى جانب ذلك تشكّل المياه مشكلة أيضاً في تلك الأحياء، فبعد قطعها من قبل النظام في أثناء سيطرة فصائل المعارضة عليها، فإنّ إعادة ضخها من جديد عبر الشبكات ذاتها التي تعرّضت للقصف خلال المعارك، تسبّب بتلوث مياه الشرب، نتيجة اهتراء الشبكة لقديمة واختلاط بعض الخطوط بمياه الصرف الصحي.
هذا الواقع دفع "الحاج علي.ج" من سكّان حي الفردوس، إلى شراء مياه شرب يبيعها بعض أصحاب الآبار التي حُفرت في أثناء سيطرة الجيش السوري الحر على المنطقة، وفق قوله.
ويضيف "الحاج علي" لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ هذا يشكّل عبئاً مادياً عليه في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، لأنه يضطر لدفع فاتورتين للمياه: الأولى لشركة المياة التابعة للمحافظة، والثانية لأصحاب "الصهاريج".
وعن تردّي الخدمات في أحياء حلب الشرقية، فإنّ انتشار تلال القمامة في محيط الأبنية المدمرة مع غياب شبه كامل لخدمات النظافة، يجعل هذه الأحياء بيئة خصبة لانتشار الأمراض والأوبئة، وهذا ما تجلّى بشكل واضح في انتشار العديد من الأمراض الجلدية وأبرزها "اللشمانيا"، إضافة إلى انتشار القوارض والكلاب الضالة، خاصّةً في أحياء "الأنصاري والهلك وطريق الباب وأرض الحمرا".
وأمام هذا الواقع وجد الأهالي أنفسهم مضطرين للقيام بمبادرات جماعية لكل حي على حدة، بهدف التخلّص من القمامة على نفقتهم الخاصة، إذ أوضح سكّان من هذه الأحياء أن شكواهم إلى البلدية ومطالبتهم برش مبيدات حشرية كانت دائماً تواجه بالتبرير نفسه "قلة اليد العاملة، وعدم توفر مازوت لتشغيل الآليات اللزمة لنقل القمامة إلى الأماكن المخصصة".
مبانٍ على وشك الانهيار
أدّى القصف المركّز لقوات النظام وروسيا لتلك الأحياء، خلال سيطرة المعارضة السورية عليها، إلى تهدم أو تصدع الكثير من المباني في تلك الأحياء، ثم جاء زلزال 6 شباط 2023، وزاد الوضع سوءاً، وعليه فإنّ معظم السكّان يعيشون في هذه الأحياء داخل منازل مهددة بالانهيار، لأنهم لا يملكون مكاناً آخر يذهبون إليه، في ظل ارتفاع آجارات البيوت في الأحياء الغربية من المدينة.
محمد.ك -أحد سكّان حي هنانو- أوضح أنه عاد للعيش في منزله المتصدع عقب انسحاب قوات المعارضة من الحي، إلا أن الزلزال جعله معرضاً للانهيار في أي لحظة، مما دفعه للسكن في منزل أحد أقربائه المغتربين.
ويشير محمد في حديثه مع موقع تلفزيون سوريا، إلى أنّه "على الرغم من وعود اللجان المختصة التي شكلتها المحافظة لتقييم أضرار وخطورة المنازل، إلا أنه لم يحصل لحد الآن على أي مبلغ".
في هذا السياق أكّد مسؤول محلي في مدينة حلب، أنّ "التعويضات التي كانت تعطى في السابق لا تشكّل 5% من قيمة الأضرار للمواطنين العاديين"، مضيفاً في تصريحات سابقة لـ موقع تلفزيون سوريا أنّ "التقديرات السابقة للجان بهدف تعويض المتضررين، تخضع للواسطة والمزاجية".
وشهدت أحياء حلب الشرقية عقب الزلزال، العديد من عمليات الانهيار للمنازل، من بينها انهيار منزل في حي صلاح الدين، عام 2019، ما أدّى إلى مقتل 11 شخصاً، بينهم أطفال ونساء.
إهمال مُتعمد
أمام هذا الواقع المتردي يبرز السؤال التالي: هل يتعمد النظام تهميش هذه الأحياء، أم أن هناك عوامل أخرى تمنعه من الاهتمام بالبنى التحتية لها؟
الجدير بالذكر، أنّ معظم أحياء حلب الشرقية، شهدت مظاهرات سلمية مناهظة للنظام في بدايات الثورة، وبعد سيطرة الجيش السوري الحر عليها، اعتبرها النظام بيئة حاضنة للثورة، وانهال عليها قصفاً بالبراميل المتفجرة، التي أسهمت في قتل وتشريد الآلاف من السكّان، إلى جانب تدمير أجزاء كبيرة من هذه الأحياء.
وبعد انسحاب قوات المعارضة منها، يؤكّد سكان تلك الأحياء أنّ النظام السوري ينتقم منها عن طريق إهمالها وحرمانها من الخدمات الأساسية، وذلك خلافاً للأحياء الغربية، حيث تختلف من حيث ساعات الكهرباء وتعبيد الطرقات، ويقدّم موظفو البلدية الخدمات بشكل اعتيادي ودون توقّف".
محمد السكري -الباحث في مركز "حرمون" للدراسات- يرى أنّ "سياسة النظام تجاه الأحياء الشرقية تندرج تحت ما يسمى فلسفة (عقاب الضحية)، فهو يرى أن عملياته العسكرية غير كافية لمعاقبة هذه الأحياء، لذا من الطبيعي أن يستمر النظام في التفنن بتكريس الفناء الاجتماعي للحاضنة المعارضة له".
ويقول "السكري" لـ موقع تلفزيون سوريا، إنّ "النظام لا يريد أي عودة للاجئين من تلك المناطق، كونها معارضة لنظامه، ولديها ترابط وشبكة عائلية مع أرياف حلب الشمالية والغربية التي تسيطر عليها المعارضة إضافة إلى أرياف إدلب".
من جانبه، يرى الباحث أحمد القربي -مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري - أنّ النظام كان يستخدم قضية الخدمات كسلاح ضد الشعب حتى قبل الثورة، وهذا ما تجلى بشكل واضح بعد أحداث الثمانينات، إذ عانت بعض المدن من تهميش متعمّد مثل إدلب وحماة".
وتابع خلال حديثه مع موقع تلفزيون سوريا: "هذه السياسة الانتقامية تعاني منها كل المناطق التي ثارت على النظام كدرعا، وريف دمشق، وحماة وحمص وحلب".
عوامل أخرى وراء الإهمال
إضافة إلى ما سبق، فإن هناك عوامل أخرى تقف وراء تقصّد النظام إهمال هذه المناطق، منها أن إبقاء حلب بهذا الشكل يفتح المجال أمام النظام للوصول إلى صفقة اقتصادية وسياسية ممكنة مع الوقت، وبالتالي فهي ورقة ضغط مهمة لاستمرار سياسة العقاب، بجانب الاستفادة السياسية في إطار التعويم، وفق "السكري".
ويرى "قربي" أن هناك هدفاً آخر يتجلّى بتشكيل بيئة ديموغرافية مؤيدة للنظام تحوي العديد من الميليشيات التابعة له في تلك الأحياء، مشيراً إلى أنّ "النظام لا يرغب بعودة اللاجئين والنازحين الذين هجّرهم أصلاً من هذه الأحياء، خلال سنوات الثورة، وقد يعمل على استبدالهم بوجود شيعي مضمون الولاء، وبذلك يصل بشار الأسد إلى ما سمّاه (المجتمع المتجانس)".
يشار إلى أنّ أبرز الميليشيات التي تنتشر في أحياء حلب الشرقية هي: "لواء أبو الفضل العباس"، و"لواء الباقر" في حيي الصالحين والفردوس، إضافة إلى عدد من الميليشيات العشائرية المنضوية ضمن ميليشيا "الدفاع الوطني" التابعة للنظام، مثل "آل بري" و"آل حميدة" في حي باب النيرب.