فرضت تجربة اللجوء على النساء السوريات طرق حياة، لم يعتدن عليها في السابق، كإحدى ضرائب الحرب المؤلمة، واضطرت العديد منهن للعمل لإعالة أسرهن، سواء بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية أو فقدان المعيل.
في تركيا التي لجأ إليها العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، تعددت المهن التي نشطت فيها النساء، ومعظمها أعمال بسيطة من وحي تجاربهن في ظل انعدام الفرص وعدم تنظيم سوق العمل في تركيا، وكانت بالكاد تسد الحاجة وتخضع لرحمة السوق والظروف المحيطة.
بعد توترات أنقرة قبل ثلاثة أشهر وما صاحبها من رد فعل قوي من قبل الأتراك ضد السوريين في حيي “ألتن داغ" و"الأندر" في العاصمة التركية، إثر مقتل شاب تركي على يد آخر سوري نتيجة شجار عابر؛ فقدت العديد من الأسر أماكن استقرارهم وعملهم.
نحاول في هذه المادة تسليط الضوء على تجارب نساء سوريات فقدن أعمالهن ودخلن في دوامة جديدة للبدء من الصفر لإحياء مشاريعهن البسيطة التي كانت بالكاد تكفي قوت يومهن.
فريدة أم عادل، امرأة سورية أمضت حياتها كفاحاً لتأمين حياة كريمة لها ولأسرتها، فكانت تعمل مربية ومدبرة منزل في سوريا لدى عائلة ميسورة راضية شاكرة، ولكن الأقدار ساقتها كما ساقت ملايين السوريين إلى اللجوء إلى خارج البلاد بسبب الحرب التي لم ترحم، واستقرت في العاصمة التركية أنقرة في حي يقطنه السوريون ضمن بيوت متواضعة، يسمى حي "الأندر"، وبدأت العمل من جديد مشرفة مطبخ، تلبي طلبات الولائم والحفلات حسب الطلب، وهو أمر نادر الاستمرار.
وتصف أم عادل (59 سنة)، سنواتها السبع في تركيا بأنها الأقسى في حياتها، لأنها اضطرت للبدء من الصفر في رحلة كفاح جديدة للبحث عن مصدر رزق بعد الأحداث الأمنية التي شهدها حي "الأندر" في آب الماضي.
تقول أم عادل لموقع تلفزيون سوريا: إذا كانت هناك مناسبة ما مثل حفلات عيد الميلاد، أو دعوة غداءٍ، أقومُ بتجهيز كل ما يلزم من مأكولات وحلويات، وباقي التفاصيل من ترتيب السفرة والتنظيف، مقابل أجر لا يتناسب والجهد الذي أبذله".
لم يكن الأجر الزهيد أو الجهد المرهق ما يقلق أم عادل، وإنما انقطاع العمل الذي كانت تتمنى أن يكون عملاً دائماً، رغم محاولاتها المتكررة لإيجاد عمل يومي يكفيها وأسرتها.
وتضيف الستينية السورية: سبعُ سنوات أقضي فيها معظم ساعات الليل، وأنا أفكر بتأمين رزق اليوم القادم، ويبدو أننا لن نحصل عليه، فقد وصلت بنا تلك الظروف القاسية بعد أحداث أنقرة الأخيرة، أنه لم يعُد مُتاحاً تأمين أدنى مستويات المعيشة.
مشاريع صغيرة لا تدوم
وصلت سحرُ العوض، إلى مرحلة متقدمة من الاستقرار، بعد افتتاح محلها الخاص بمساعدة أختها اللاجئة في ألمانيا.
وقبل أشهر من أحداث أنقرة، تقول سحر لموقع تلفزيون سوريا: لم تبق طريقة للعمل غير ثابتة إلا خضتها.. كنت أصنع فرص العمل لنفسي، لأستمر في الحياة أنا وأولادي.. من الطبخ في المنزل، للمطاعم وتصنيع المؤونة والإكسسوار اليدوي، ولكنها كانت تجارب عمل مؤقتة أمنت فيها دخلاً إضافيَّاً لا يُغني من جوع.
وتضيف سحر (38 سنة) وهي أم لولدين وابنة: كانت سعادتي لا توصف وأنا أجهز بضاعة المحلِ؛ لأعود إلى نقطة الصفر بعد صدور قرار إخلاءِ السوريين من منازلهم ومحالهم، وتحول الشارع المزدحم بالناس إلى شارع خال من الحياة، فلم يعدْ هناك من يشتري بضاعتي، التي تعتبر من الرفاهيات؛ فهي أمور ثانوية كالعطور والإكسسوار، وهنا لم يكن أمامي سوى إرسال ابني للعمل في إسطنبول لتأمين أجرة المنزل، وهو في سن صغير لم يبلغ من العمر سوى 12 عاماً.
لم تكن سحر الوحيدة في معركة البقاء، التي تخوضها السوريات اللاجئات في تركيا مع قلة فرص العمل.
في سن 55 تقارع الحياة
بدورها، أم سعد تعمل قبل الظهيرة في محل لبيع الألبسة النسائية، وبعد الظهر تعمل في تصنيع المخدات ومفارش الأطفال، تجلس ساعات طويلة على ماكينة الخياطة مع كأس من الشاي المعتق وسيجارة، يبدو أنها بدأت بمصاحبتها من جديد كنوع من كسر قسوة الأيام.
أم سعد، امرأة سورية من ريف حمص، ترفض الإفصاح عن اسمها كعادة معظم السوريين الذين يخشون الظهور على الإعلام، لا سيما عندما تكون قصصهم فيها جانب شخصي.
وتقول: كنت مهندسة، وكان عندي عملي الخاص من عشر سنين وأنا أحاول العيش بأمان وألا أشعر بالخوف من غد ومما يمكن أن يحدث معي أنا وبناتي.
وتضيف أم سعد وهي في عقدها الخامس من العمر: أقسى شعور هو عجزك عن تأمين احتياجات أبنائك، لقد كنت أعمل أنا وبناتي طوال النهار والقسم الأكبر من الليل، وما زلنا في الحد الأدنى من تأمين أقساط الجامعات ومصاريفها، دخلنا كل فرصة عمل متاحة دون معرفة مسبقة بها، من خياطة وتصنيع إكسسوار، وكفوف طبية وأحذية، وكنا راضين ونحمد الله أن أُتيحت لنا فرص عمل؛ كي لا نعود كغيرنا من السوريات في حالة ضياع وبحث من جديد عن مصادر دخل قد تكون مستحيلة بعد أن أقفلت غالبية المحال.
لست الوحيدة هناك العشرات
أما نور أم صبحي تنقلت خلال ست سنوات بين المدن التركية، وكانت البداية مع مدينة أنقرة ثم أنطاكيا فإسطنبول وعادت مجدداً إلى أنقرة.
تقول أم صبحي: منذ عامين يعمل زوجي معلم دهان، دخلُه غير كافٍ لتأمين احتياجات بناتي، وفي كل مدينة أسكنها أروج عن طريق صفحات الواتساب والفيس بوك عملي في تجهيز الطعام والحلويات في منزلي؛ لأُساعد زوجي في تأمين حياة مستقرة.
وتضيف أم صبحي: استطعتُ خلال فترة وجودي الأخيرة في أنقرة أن أكتسب عدداً جيداً من الزبائن، وبدأت أشعر بالأمان إلا أن الأحداث الأخيرة في أنقرة أعادتني إلى نقطة البداية من جديد.
وبحسب أم صبحي، بعد التوترات الأمنية التي راح ضحيتها جهد ليال وسنوات للسوريين لتحقيق الاستقرار النسبي، باتوا يحسبون أدق التفاصيل الأمر الذي أثر على الأعمال التي تعتمد على نوع من الارتياح الاجتماعي وليس في حالات شبيهة بحالات الطوارئ.
تقول أم صبحي: انعدمت التجمعات ودعوات الطعام وأعياد الميلاد وغيرها من المناسبات.. يبدو أن القدر لن يسمح لي بتحقيق مسافة أمان.
وتضيف: لست الوحيدة فهناك العشرات من النساء السوريات يخضن المعركة نفسها من أجل البقاء وتأمين أدنى حد من مستلزمات الحياة.
واقع عمل السوريات في تركيا
تؤكد دراسةٍ أعدها مركز الحوار السوري تحت عنوان "العمالة السورية في سوق العمل التركي"، أن ظروف العمل في السوق التركي غيّرت نمط العمل الذي اعتادت العمالة السورية عليه؛ فانتقلت هذه العمالة إلى أعمال أطول وأقل استقراراً.
وتشير الدراسة إلى أن سوق العمل التركي استوعب أعداداً أكبر من النساء اللواتي تحولن نتيجة ظروف اللجوء إلى مُعيلات لعائلاتهن، أو اضطرتهن الظروف للعمل؛ لمساعدة أزواجهن في تأمين دخلٍ مقبولٍ للأسرة.
وتضم العمالة السورية شريحة واسعة تملك خبرات سابقة؛ إلا أن هذه الشريحة لم تستطع نقل خبراتها السابقة إلى سوق العمل التركي.
وبحسب الدراسة فقد تركزت العمالة السورية في أنماط معينة من المهن، وتوزع غالبية السوريين في مهن منخفضة ومتوسطة المهارة، فيما عملت نسبة قليلة لا تتجاوز 7% في مهن تتطلب مهارات عالية.
كما أن التركز على قطاعات عمل تتطلب مهارات منخفضة يعيق فرص الاندماج السريع، وبالتالي استمرار استنزاف العديد من الخدمات الاجتماعية، إذ يتوقع أن يؤدي الاندماج البطيء إلى تجمع السوريين في الأحياء الفقيرة، ونشوب صراع اجتماعي مستقبلي.
وفي آخر إحصائية أصدرتها المديرية العامة للهجرة التركية، منتصف الشهر الماضي، يبلغ عدد اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، 3 ملايين و715 ألفاً و913 شخصاً، موزعين على معظم الولايات، وتأتي العاصمة أنقرة في الترتيب الـ 11 من حيث عدد اللاجئين السوريين فيها ويبلغ عددهم 102 ألف شخص.