خلال الفترة القريبة الماضية، حصد شيء بارز اهتمام كثيرين في الشرق الأوسط، وهو نموذج التحالف القائم على تغيرات دراماتيكية وفي ذلك ما يشبه فكرة: عدو عدوي صديقي وعدوي في آن معاً، بيد أن الجولة الحالية لتشكيل التحالفات اليوم أصبحت معقدة، والسبب في ذلك لا يعود لتدخل الولايات المتحدة فحسب، كونها الدولة التي يعتمد عليها الجميع في مجال الأمن، بل أيضاً بسبب تنامي الوجود الصيني في تلك المنطقة التي زاد اعتمادها على الصين من الناحية الاقتصادية، وكذلك بسبب وجود روسيا التي عززت حالة التنسيق في مجال الطاقة مع دول المنطقة.
قواسم مشتركة
مع انطلاق قمة السبع في 19 من أيار بهيروشيما، عقدت السعودية قمة عربية بجدة حضرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي يتزعم القتال ضد روسيا، كما حضر القمة حليف موسكو بشار الأسد الذي ذاع صيته بعدما تعطل قطار الربيع العربي في سوريا.
من الواضح أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أقام من خلال تلك القمة عرضاً مميزاً بحضور كل من أوكرانيا وسوريا، فبدا تصرفه أشبه بتصرف قورش الأصغر، ذلك الأمير الفارسي في الزمن القديم والذي وعد بمكافأة أهل إسبارطة في حال تحالفهم معه، وذلك عندما قال: "أما الذهب والفضة فسيكونان بلا عد، بل بالوزن فحسب"، فبدا كمن يتباهى بطموحاته ويزهو بها وهو يسبق أغنى عشرين دولة في العالم وكذلك الدول الفقيرة عبر عرضه للوساطة في حربي أوكرانيا وسوريا.
تغيرت الديناميات السياسية الدولية في الشرق الأوسط كثيراً، ولهذا يعتمد آخر محور استراتيجي ضمن ملحمة الشرق الأوسط الجديدة الصاعدة على حالة التوازي التي تشكلت بين ثلاث دول غير عربية، وهي تركيا وإيران وإسرائيل، وتلحق بها السعودية من الدول العربية.
من بين الدول الأربع التي كانت فيما بينها خلافات عميقة، اتفق البعض على حالة التعايش التنافسي عبر اللجوء لمفتاح بهدف التوصل لحل في الحرب السورية والأوكرانية.
يتسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والأمير محمد بن سلمان بالدهاء، وفي حال طبقنا المقولة الإغريقية القديمة التي استشهد بها المؤلف والفيلسوف الإغريقي بلوتارخ في كتابه الأخلاق، فيمكن القول إن السياسيين الذين أسلفنا الحديث عنهم قد اشتهروا من خلال شخصياتهم لا بلادهم.
لا زعماء في هذه المنطقة
أما في مصر وسوريا والعراق، الدول التي مثلت بشكل تقليدي محوراً استراتيجياً أو محور "مواجهة"، فلا نجد أي زعيم طموح أو عظيم حقاً، إذ فقدت المنطقة شهوتها التي ظهرت في السابق عقب اختفاء فكرة القومية العربية وحالة الدمار التي خلفتها الحرب في سوريا.
وبذلك تغير مركز الثقل الجيوسياسي في المنطقة باتجاه بلاد فارس، وهذا ما دعم فكرة التعايش التنافسي الذي عززته السعودية. كما مضى الرؤساء الأميركان قدماً في هذا الاتجاه، بدءاً من الرئيس الأسبق باراك أوباما، مروراً بدونالد ترامب، وأخيراً بايدن وذلك عندما اعتمدوا على سياسة فك ارتباط واشنطن بالشرق الأوسط، عبر سحب الجنود الأميركيين من المنطقة، إلا أن هذا لم يخلف سوى تطورات لم تعجب أحداً.
استراتيجية "السعودية أولاً"
لم يتخذ ترامب أي إجراءات مضادة في عام 2019 عندما تعرضت مصافي النفط السعودية لهجوم وقفت إيران خلفه. ومنذ ذلك الحين، لم تعد الرياض تثق بواشنطن لدرجة جعلت المملكة ترى بأنه لم يعد أمامها أي خيار سوى أن تتولى أمور أمنها بنفسها وأن تضع ذلك في أعلى درجة من سلم أولوياتها. بيد أن الانتقال لاستراتيجية "السعودية أولاً" دفع المملكة لعقد اتفاق مع إيران يقضي بتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في آذار من هذا العام.
وفي شهر تموز من العام نفسه، اتفقت تركيا مع السعودية والإمارات على إصلاح ذات البين بعد توتر العلاقات بينها طوال عشر سنين أو يزيدون، وكذلك أعادت قطر علاقاتها الدبلوماسية مع السعودية والإمارات أيضاً.
في عام 2020، وقعت كل من إسرائيل والبحرين والإمارات الاتفاقيات الإبراهيمية التي تهدف لإقامة علاقات دبلوماسية بين تلك الدول.
انضمت المغرب والسودان فيما بعد للاتفاقيات الإبراهيمية، وبالتزامن مع عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية، ارتأت كل تلك الدول الشرق أوسطية أنه من الأفضل تغيير سياستها من المواجهة إلى التعايش التنافسي، لتنهي بذلك حالة الاضطراب والفوضى التي سادت المنطقة طوال عشر سنين منذ قيام الربيع العربي.
إلا أن السعودية التي تعتبر نفسها قائدة العالم العربي ما تزال متخوفة من توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل، بل حتى الأمير محمد بن سلمان يرى أنه من الشطط التوسط بين إيران وإسرائيل، ولكن ثمة من يرجح أن تكون السعودية الدولة الوحيدة التي بوسعها ثني إيران وإسرائيل عن تصعيد الأمور وتحويلها إلى أزمة نووية، بما أن المملكة ماتزال في طور التواصل مع إسرائيل هي أيضاً، وذلك على مستوى المعاونين لدى كلتا القيادتين.
المتوازيات في الشرق الأوسط
من جانبها، أبدت تركيا حضورها على الساحة السياسية الأوروبية وذلك عندما ربطت موافقتها على انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي بدخولها للاتحاد الأوروبي، وبذلك نجحت أنقرة في تذكير الغرب بأهمية حالة التوازي الجيوسياسي في الشرق الأوسط.
ولدت الديناميات السياسية في المنطقة إطاراً استراتيجياً جديداً لطرح التعايش التنافسي الذي ظهر جراء أمرين اثنين وعززته الدروس المستفادة منهما، أولهما عدم إسهام فكرة استخدام القوة العسكرية كما حدث في حرب الخليج وأفغانستان عندما استخدمت الولايات المتحدة تلك القوة، في دمقرطة الشرق الأوسط، وثانيهما يرى بأن سبب "فشل" الربيع العربي والذي تمثل بظهور ديكتاتوريين جدد والانقسامات الداخلية التي اجتاحت شعوب المنطقة، هو رضا الكثير من الناس على النظام في البلد وعلى الدخل الذي يقدمه هذا النظام في ظل حكمه الاستبدادي والملكي، إذ قامت بعض الدول العربية الخليجية بتركيب نظم مراقبة تستهدف المدنيين شملت أحدث التقنيات التي قدمتها إسرائيل، وفي ذلك ما يرمز لتحول نظام الشرق الأوسط من المواجهة إلى التعايش التنافسي.
وبالرغم من كل ذلك، تعرب إدارة بايدن عن كبير تفاؤلها بالوضع في الشرق الأوسط، ومع أنها ترى في انضمام السعودية وإسرائيل للاتفاقيات الإبراهيمية شرطاً لازماً لحل القضية الفلسطينية، ترى الحكومة الإسرائيلية التي يهيمن عليها اليمين المتطرف في تلك الاتفاقيات أداة مهمة لتفتيت الدول العربية ولتقسيم الشعب الفلسطيني، إذ لا توجد أي نية لدى إسرائيل لوقف توسعها الاستيطاني أو إنهاء بنائها للمستعمرات في مناطق السلطة الفلسطينية.
النفوذ الصيني المتعاظم
لا بد من الانتباه للوساطة الصينية في الاتفاق الذين أبرم بين السعودية وإيران بهدف تطبيع العلاقات الدبلوماسية بينهما، إذ لم تنجح الصين عبر نفوذها الاقتصادي في هذه الوساطة بل من خلال مكانتها كدولة قوية عسكرياً، وقد أتى ذلك نتيجة لاستعانتها بنفوذها في بيع السلاح وتوفير البنية التحتية لتصنيع الأسلحة بناء على طلب السعودية. كما تسعى المملكة للتعاون مع الصين على تطوير تقانة تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود النووي بعد استخدامه، ومن المتوقع أن توافق الصين على طلب السعودية مستقبلاً، لكن هذا لن يتحدث قريباً.
بالنسبة لمساعي إيران والسعودية في مجال التخفيف من حدة الاحتباس الحراري في العالم، والتقليل من نسبة الكربون في الأجواء، فإن قادة كلا البلدين يرون أن تبني نهج الصين في دفع الأمور قدماً دون مراعاة الاتفاقيات الدولية أسهل بكثير من اتباع المعايير الغربية واليابانية.
وفي هذا الصدد، من المدهش أن يرى المرء مجموعة من التوصيات التي وضعها باحثان أميركيان ونشراها في مجلة فورين أفيرز، إذ في البداية كتبا بأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تتقبل الجوانب الإيجابية لتزايد الوجود الصيني في الشرق الأوسط، ويرى كلاهما أيضاً بأنه لا يجوز لواشنطن أن تزيد من استراتيجيتها البالية التي تركز على الأمن بل ينبغي عليها عوضاً عن ذلك أن توسع أدواتها السياسية والاستثمارية في المنطقة بحيث تصل إلى المناطق التي تتمتع فيها واشنطن بميزة نسبية، مثل تطوير رأس المال البشري وتطوير التعليم والتقانة الخضراء والمنصات الرقمية.
أما التوصية الثالثة التي لا يمكن للمرء أن يقرأها دون أن يبتسم بمرارة، فترى أنه يجب على الولايات المتحدة أن تدعم أنواعاً أوسع من الاتفاقيات مع الشركاء العرب والقوى المتوسطة الصاعدة مثل البرازيل والهند واليابان، وفي ذلك تقليل من شأن اليابان التي تعتبر من الدول السبع الأغنى في العالم، إذ لا يجوز أن تذكر هذه الدولة بين القوى المتوسطة الأفقر مثل البرازيل والهند. أما مجالات الميزة "النسبة بالنسبة" للولايات المتحدة فتشبه المجالات المتاحة أمام اليابان، أي يبدو بأن الباحثين الأميركيين لا يعرفان بأن اليابان ماتزال تجتهد وتعمل على تعزيز التبادل الثقافي مع الشرق الأوسط وعلى تطوير الموارد البشرية في المنطقة على المدى البعيد.
المصدر: The Japan News