للوهلىة الأولى يعتقد المرء الذي يقرأ المقال المنشور في موقع "المجلة" بعنوان (أما آن أوان دفن فأس الأحقاد؟) أن كاتبه هو من المدافعين عن نظام الأسد وليس شخصاً اضطره نظام الأسد للهروب من سوريا والاستقرار في بيروت، فما ورد في هذه المقالة من أفكار ومقترحات لا يختلف كثيراً مع رؤية نظام الأسد لحل المأساة السورية، هذه الرؤية التي عمل وما زال يعمل عليها منذ مبادرة كوفي عنان ونقاطها الست.
وإن كنت أتفق مع السيد عمر عبد العزيز حلاج كاتب المقال المذكور في أن "الحركات المعارضة لم تستطع إنتاج تنظيمات سياسية ناضجة وأن الحكومة لم تقم بإصلاحات كافية"، إلا أنني لا أستطيع لوم الحركات المعارضة على فشلها، قبل أن أسأل نفسي عن الأسباب التي منعتها من إنتاج تنظيمات سياسية ناضجة؟
وهل سمح نظام الأسد الأب والابن أساساً بنشوء معارضة سياسية في سوريا حتى نقول إن المعارضة تقاعست عن القيام بدورها؟ أمّا إذا كان باستطاعة كاتب المقال إنشاء تنظيم سياسي معارض وناضج في سوريا، فسأكون أول مَن ينتسب إليه وأتخلّى عن نشاطي في مجال حقوق الانسان.
إن نظرة سريعة للحياة السياسية في سوريا، منذ انقلاب البعث عام 1963، واستيلائه على الحكم، ثم احتكار "الأسد الأب" واستئثاره بالسلطة لنفسه ومن بعده لأولاده، يثبت بوضوح عدم وجود حياة سياسية، ونظام الأسد الذي استولى على السلطة منذ السبعينات، لم يسمح بأي نشاط سياسي معارض أو حتى نشاط مدني مستقل، سوى النشاط الذي يخدم سلطته كما هو حال أحزاب الجبهة الوطنية، وفيما عدا ذلك حظّر أي نشاط سياسي ومدني معارض له.
وأمّا القوى السياسية التي انتهجت خطاً معارضاً للنظام فلم يكن أمامها إلا أن تنشط سرّاً وفي ظروف بالغة الصعوبة والقسوة، تعرّض خلالها قادتها وأفرادها وحتى أقربائهم من الدرجة الرابعة للقتل والملاحقة والاعتقال لسنوات طويلة، ولم يسلم حتى الناشطين في مجال حقوق الإنسان من الملاحقة والاعتقال أيضاً، وهو ما يفسّر اليوم المأزق الكبير الذي تعيشه قوى المعارضة والمجتمع المدني على اختلاف توجهاتها، وعجزها عن الخروج برؤية موحدة في مواجهة نظام ديكتاتوري مستبد، طبعًا هذا الكلام لا يبرر بأي حال الأخطاءَ القاتلة التي ارتكبتها المعارضة.
بشار الأسد لم ولن يتزحزح عن سلطته ولن يقبل أن يشاركه أحد في الحكم، وهذا ما أثبتته الأحداث منذ اندلاع ثورة الشعب السوري، في آذار 2011، حيث أوهم الناس أنه استجاب لبعض مطالب المتظاهرين بمسرحيات..
بشار الأسد لم ولن يتزحزح عن سلطته ولن يقبل أن يشاركه أحد في الحكم، وهذا ما أثبتته الأحداث منذ اندلاع ثورة الشعب السوري، في آذار 2011، حيث أوهم الناس أنه استجاب لبعض مطالب المتظاهرين بمسرحيات: رفع حالة الطوراىء واستبدالها بـ"المرسوم 55"، الذي لا يختلف عن قانون الطواىء، وكذلك إلغاء محكمة أمن الدولة العليا واستبدالها بمحكمة الإرهاب كامتداد لها، ومسرحية تعديل دستور والده بـ"دستور 2012" وإلغاء المادة الثامنة، التي كانت تمنح البعث قيادة الدولة والمجتمع، جميعها لم تكن إلا محاولات للالتفاف على المطالب الحقيقية للمتظاهرين، فجاء الدستور الجديد خالياً من أي نصٍّ يشير إلى أن السلطة سيتم تدوالها سلمياً.
كذلك، خلا الدستور من أي إشارة إلى مبدأ المشاركة في الحياة السياسية، واستعاض عنهما بنص غريب غير مفهوم "سمح فيه للأحزاب السياسية المرخصة والتجمعات الانتخابية بالمساهمة في الحياة السياسية الوطنية"، وخصّ نفسه بسلطة تحديد الأحزاب التي يجوز لها النشاط والمساهمة، من دون أن يوضح كيف لهذه الأحزاب أن تسهم في الحياة السياسية، وما هي حدود وطبيعة هذه المساهمة، فأي معنى لهذه التعددية السياسية إذا كانت الأحزاب التي قد تحصل مستقبلاً على أغلبية المقاعد في "مجلس الشعب" -وهذا مستبعد في ظل بقاء نظام الأسد- لا تستطيع أن تشكّل حكومة أو حتى تسمّي رئيس الحكومة والوزراء، لأنّها من صلاحيات الرئيس، ومَن يجرؤ على الاقتراب من صلاحياته؟
يتساءل الكاتب: "أما آن لنا أن نبدأ بالمصالحة قبل مزيد من الفوضى؟ أما آن أوان إطلاق المصالحات مع المجتمعات؟"، وكأن المشكلة في سوريا هي في المجتمع السوري ولا علاقة للسلطة الحاكمة بها، ولهذا لم يجد الكاتب أي حرج بالدعوة إلى التخلّي عن القرارات الدولية المتعلقة بسوريا، قائلاً:"لا ينبغي لنا- حكومات ومحكومين- انتظار انتقالات سياسية تدعمها الأمم المتحدة، وهي التي لا تستطيع أن تدعم حتى أسباب بقائها".
وهذا يعني بوضوح، التخلّي عن كل القرارات الدولية المتعلقة بسوريا وفي مقدمتها بيان جنيف والقرار 2254، والرضوخ لشروط بشار الأسد والقبول بالمصالحات التي فرضها بصفته "الغالب" على ضحاياه "المغلوبين"، تلك المصالحات التي عكست بوضوح حجم الكارثة التي عاشتها المناطق التي قبلت مرغمة بتلك المصالحات، كما جرى في حمص والغوطة والزبداني وداريّا ومخيم اليرموك ودرعا، وكما جرى مع أشخاص كثر قبِلوا بتلك المصالحات، حيث قتل بعضهم وبعضهم ما زال مختفيا قسرياً في سجون "الأسد".
أي دعوة للمصالحة لن يكون لها أي معنى ما لم تتضمن إطلاق سراح المعتقلين من كل الأطراف والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرياً والاعتراف بحقوق الضحايا ورد الاعتبار إليهم، وإجراء انتقال سياسي حقيقي في البلاد، ومحاسبة مرتكبي الجرائم بحق الشعب السوري، وإجراء إصلاح مؤسساتي خاصة في القضاء والأمن والشرطة والجيش..
إن أي دعوة للمصالحة لن يكون لها أي معنى ما لم تتضمن إطلاق سراح المعتقلين من كل الأطراف والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرياً والاعتراف بحقوق الضحايا ورد الاعتبار إليهم، وإجراء انتقال سياسي حقيقي في البلاد، ومحاسبة مرتكبي الجرائم بحق الشعب السوري، وإجراء إصلاح مؤسساتي خاصة في القضاء والأمن والشرطة والجيش، وصياغة دستور جديد ينص على نظام حكم مدني ديمقراطي على أساس تداول السلطة سلمياً والمشاركة في الحياة السياسية، وسيادة القانون على الحكام قبل المحكومين، وقضاء مستقل ونزيه يحمي حرّيات بناتها وأبنائها وحقوقهم.
ويختم الكاتب مقالته بالدعوة إلى الحوار بقوله: "التغيرات السياسية لن تأتي إلا بعد جهد وحوار مرير"، مَن مِن السوريين لا يريد أن تنتهي مأساة الشعب السوري؟ باستثناء أمراء الحرب والفاسدين والمرتكبين من جميع الأطراف، لا أعتقد أن أحداً لا يتمنّى اليوم قبل الغد نهاية المأساة السورية.
وأمّا عن الحوار، فمع مَنْ يريدنا الكاتب أن نتحاور؟ هل نتحاور مع بشار الأسد، الذي تفنّن نظامه بالمماطلة والتسويف والإغراق في تفاصيل التفاصيل لمنع أي حوار أو تفاوض من تحقيق أي نتيجة لا تتوافق مع شروطه؟ وهل نسينا كم من الحوارات التي عطلها نظام الأسد بدءا من مؤتمر "سميرا ميس" إلى مؤتمر هيئة التنسيق الوطنية في حلبون، وحتى اللقاء التشاروي الذي عقد بمبادرة ورعاية "الأسد" نفسه وخرج بتوصيات لم ينفذ منها بندا واحدا.
باختصار، أقول لمن ما زال يرى أنه بالإمكان الحوار مع نظام الأسد، عليه أن يرى ويعترف بالحقيقة التي أثبتتها مرارة السنوات السابقة، حقيقة أن نظام الأسد لم ولن يتعاطى جدياً مع الآخر من أجل سوريا، لا بل لم ولن يقيم أي اعتبار لهذا الآخر، وهو الوحيد الذي لن يدفن الأحقاد، بل على العكس سيكرّس ما اعتبره انتصاراً لسحق كل وطني صادق، وهو ما فعله حتى الآن، لذلك أرى أن الدعوات اليوم إلى دفن فأس الأحقاد لن تفيد في شيء، في ظل هذا النظام، سوى في تمكين المجرمين والفاسدين والمرتكبين من أي طرف كان.
لم يبق أمامنا اليوم، أمام هذه المأساة التي يعيشها الشعب السوري والتي ستزداد قساوة مع محاولات إعادة تعويم نظام الأسد والتطبيع معه، إلا القبض على الجمر والمحافظة على ما راكمته الثورة من دروس، منذ آذار 2011، وفي مقدمها الإصرار على أن يكون مسار العدالة هو المعيار والمحدد لمسار الحل في سوريا، وألا نترك الأمر للسياسة حتى لا يكون مصيرنا كمصير الدول التي تركت للسياسة والسياسيين، التحكّم بمسار الحل، وسمحت للمجرمين بأن يكونوا جزءاً من مستقبلها، كما هو حال لبنان والسودان، اللذين سمحا لأمراء الحرب المشاركة في الحكم، فلا يمكن بناء سلام مستدام من دون وجود عدالة.