انتكاسة الديمقراطية في أوروبا..

2024.05.14 | 05:48 دمشق

غزة
+A
حجم الخط
-A

لا شك في أن قارة أوروبا أول من عرفت التجربة الديمقراطية، تلك التجربة التي مرت بأطوار عدة إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي التي يعدها كثيرون أنها نموذج كوني لا بد من تعميمه، كونها تضمن الحقوق الأساسية للبشر في حياة كريمة، كما أنها أنجع وسيلة لترميم أخطائها ومعالجة المشكلات الجديدة، وقد تجلى ذلك في قوانين الرعاية الاجتماعية والرفاهية التي مثلت نقلة نوعية في حياة الناس، بطريقة دمجت بين الاقتصاد الحر والعدالة الاجتماعية. لكن ما يجري في الفترة الأخيرة من تغيرات ملحوظة مرتبطة بقضايا اللجوء وحرب غزة يمكن أن تشكل تهديداً لأسس التجربة الديمقراطية في أوروبا، وحتى للنموذج على مستوى العالم، خاصة إذا أخذنا موقف الدول الغربية تجاه تجربة الربيع العربي والعلاقة مع الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في المنطقة. 

نتيجة حروب الإبادة التي مارستها أنظمة الطغيان ضد شعوبها بعد ثورات الربيع العربي 2011، وخاصة نظام الأسد الذي لم يوفر وسيلة قتل إلا جربها في أجساد السوريين، الأمر الذي دفع الملايين إلى ترك بيوتهم والبحث عن مناطق أقل خطراً، سواء في الخيام على الحدود، أو ركوب دروب الموت خارجها، وقد كان لأوروبا الحصة الأكبر لمن وصل من هؤلاء اللاجئين، حيث وفرت لهم -رغم ما عانوه من صعوبات- ظروفاً آمنة وإمكانية للعمل والتعليم وغيره، فأضافوا جديداً لها متمثلاً بقوى عمل شابة ومهنية، ومن جهة أخرى، خلقوا مشكلات ناتجة عن اختلاف الثقافة والعادات وغيرها، وخاصة لكبار السن، مشكلات تستغرق زمناً لاستيعابها، وتشكل تحدياً حقيقياً للتجربة الديمقراطية، وإمكاناتها بالتعامل مع المختلف ليس بالرأي فقط، وإنما بنمط الحياة.   

لم تتوقف موجات الهجرة يوماً، ربما تتماوج تبعاً للظروف التي يعيشها السوريون في الداخل أو في دول الجوار، وربما تشير الظروف القاسية مؤخراً إلى احتمال موجة جديدة شبيهة بموجة 2015، في الوقت الذي تشهد أوروبا، أو كثيراً من دولها تغيرات سلبية تجاه قضية اللجوء، فبعضها يصنف سوريا أو بعض مدنها آمنة، ما يبرر له إعادة القادمين من تلك المناطق. والأمر الأهم، هو أن الأحزاب اليمينية المتطرفة/ اليمين البديل، مع أنها صغيرة وحديثة النشأة، إلا أنها تمكنت بفضل خطاب شعبوي يخلط بين قضايا اللجوء والموقف من المثليين والحركة النسوية وصولاً إلى الموقف من البقاء في الاتحاد الأوروبي، من الحصول على أصوات جزء مهم من الناخبين، أوصلتها الصدارة، وفي أسوأ الأحوال، شكلت عامل ضغط قوي على الحكومات من أجل قوانين جديدة تحد من استقبال اللاجئين، إن لم تلغِ العملية برمتها.

ومن الناحية العملية، فما يعانيه طالبو اللجوء الذي يصلون بعد رحلات الموت، سواء عن طريق البحر أو دروب الغابات والجبال، وكلها أماكن لاصطياد أرواحهم، ومن قدِّر له الوصول إلى الأماكن المقصودة بعد عناء شديد الوصول، يدخل في رحلة التيه، وخاصة إن كانت تلاحقة وصمة "البصمة"، وهي التوقيع في إحدى بلدان العبور التي كانت ذات يوم تحكمها أنظمة "اشتراكية"، ودخلت منظومة الاتحاد الأوروبي مؤخراً، بدءاً من ظروف قاسية في المخيمات، التي لم توفر لهم الحدود الدنيا من الحياة بكرامة، ناهيك عن الانتظار الطويل الذي قد يصل بسنوات ليرى عائلته ما لم يُعَد إلى إحدى بلدان العبور تلك، ويحرَم من رؤية ما كان يحلم به.

والأمر الأكثر بؤساً في المخيمات، هو بقاء اللاجئ كائناً غير معرّف، نكرة، وتمييزه عن الآخر يكتسي شكلاً يمكن عدّه مهيناً، من خلال سوار ملونة توضع في معصمه، تشير إلى مروره في مرحلة ما من مراحل اللجوء، وبعضها يشير إلى المخيم الذي يقطنه، حيث بعد فترة معينة يمكن أن يرتدي أكثر من سوار بألوان مختلفة تصبح شيفرة تعريف له، من دون التدقيق في اسمه وشخصه، وكل ذلك يناقض بشكل صارخ قيم حقوق الإنسان التي تقرّ بكرامة الإنسان كآدمي، وحقه بحياة كريمة.

الأمر الآخر الذي برز بشدة، ويشكل تهديداً للتجربة الديمقراطية في بعض دول أوروبا، هو الموقف من حرب غزة، الذي تجلى في أكثر من دولة بالتعامل القاسي مع المتظاهرين المناهضين لحرب الإبادة الإسرائيلية، وما سنته من قوانين تعاقب هؤلاء المتظاهرين أو من تسوّل له نفسه بالاحتجاج تحت ذرائع بالية، أهمها معاداة السامية. وفي الوقت نفسه توفر تلك الحكومات الدعم المالي والعسكري المستمر إسرائيل، رغم الرأي العام الذي يتنامى يوماً بعد يوم رافضاً عملية الإبادة والتجويع التي ترتكبهما الدولة "المدللة" ضد الفلسطينيين، وذلك في تناقض واضح بين قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بما فيها حق المقاومة ضد المحتل، ناهيك عن حق البقاء حياً.

لم يكن الموقف الأخير جديداً، رغم خطورته، وإنما سبقه الموقف المتهاون مع أنظمة الطغيان الحاكمة، حيث فتحت بعض حكومات أوروبا قنوات مختلفة معها بشكل مباشر أو عبر "منظمات" دولية، هذا الموقف الذي حوّل قضية المتطلعين نحو الحرية والكرامة إلى قضية مساعدات ودعم -خاصة النفسي منه- وخيام، ومكافحة هجرة، والأهم من ذلك كله، مكافحة الإرهاب، وهي القضية التي يحصد عبرها النظام وروسيا وإيران أرواح السوريين. خلقت هذه الممارسات موقفاً متناقضاً وساخراً لدى الجمهور المتطلع نحو الحرية، كما أنه غير قابل للتبرير، حيث يتساءل الناس عن مدى التزام تلك الدول بمعايير الديمقراطية والموقف من أنظمة الطغيان، وذهب البعض ساخراً يقول إن الديمقراطية لهم.. وليست لنا.

كان جوهر ثورات الربيع العربي ما عبرت عنه صيحات الشباب مطالبة بالحرية والكرامة، تلك الثورات التي عملت جهات عدة على إفشالها، من دون استثناء عوامل فشلها الداخلي، وما نشهده اليوم من تغيرات انتكاسية في بلدان الديمقراطية، وخاصة أوروبا، يضيف خيبة، لكن لا يلغي إيماننا بأن الشعوب في ظل الديمقراطية ستخرج من هذه الانتكاسة، وربما ما تمثله مظاهرات الطلبة في معظم الجامعات دعماً للحرية ولفلسطين خير أمل لهم ولنا، وهو ما يعطي الأمل للحالمين بالتحرر بمتابعةالطريق وإن طال..