قبل الحديث عن الفيدرالية وظروفها التاريخية عموماً، ودعواتها في بلادنا، لا بد من الحديث عن تاريخ تشكّل الدول، وعلاقتها بالقوميات.
يشير تاريخ تشكّل الدول، وخاصة ما يُعرف باسم الدولة القومية التي تطورت إلى دولة الأمة أو دولة المواطنة، إلى أن معظم الدول تشكّلت عبر حروب داخلية وخارجية. أما في بلادنا، فيعود تشكيل الدول -الكيانات العربية القائمة بحدودها الحالية أو المعدلة نسبياً- إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتحديداً مع بداية التدخل الاستعماري الأوروبي، الذي رسم بدقة وفق معايير غير عشوائية الحدود بين هذه الكيانات. وقد حافظت عليها حكومات ما بعد الاستعمار بكل ما تملك من قوة، وحولت أجهزة "الدولة" من خادم للناس إلى قوة قهرية عارية، "سلطة في مواجهة الناس".
لم تنتهِ بالكامل عملية تشكيل الدولة، فهي تتغير باستمرار، وقد تنهار، ويصبح من الضروري إعادة بنائها وفق أشكال جديدة، وقدرات ووظائف جديدة، ومقاييس جديدة في دورات متكررة من المركزية السياسية واللامركزية، والفيدرالية.
وبغض النظر عن ظروف نشوئها، فقد نُظر إلى الدولة وأجهزتها من وجهات نظر مختلفة، ووضعوا شروطاً لها أهمها الأرض -الإقليم، واحتكار العنف وسنّ القوانين والقدرة على تنفيذها في عموم الأراضي تحت سلطتها، وإمكانية اختراق المجتمعات. ومؤخراً، ثمة شرط رافق تطور دور الدولة وهو رضا المحكومين، وبالطبع من دون نسيان دور "الدين" أو أي إيديولوجية أخرى في دعم "الدولة"، من خلال تقديم الوحدة الرمزية للسكان تحت حكم تلك الدولة.
وقبل الحديث عن الدعوات اليوم التي تطالب بتأسيس نظام حكم فيدرالي في سوريا، لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة من سياق تشكل النظم الفيدرالية قديماً وحديثاً (وهي بالتعريف آلية دستورية لتقسيم السلطة بين مستويات مختلفة من الحكومة بحيث يمكن للوحدات الفيدرالية أن تتمتع باستقلالية جوهرية مضمونة دستورياً بصدد مجالات سياسية معينة مع تقاسم السلطة وفقاً لقواعد متفق عليها، تجمع الفيدرالية بين الحكم الذاتي الجزئي والحكومة المشتركة الجزئية). فعندما تشكّلت الدول في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت الدعوة إلى نظم حكم فيدرالية وسيلة لتشكيل الدول، كما حدث في سويسرا وألمانيا.
لم تعرف سوريا، التي تشكّلت بحدودها الحالية بموجب التقاسم الاستعماري للمنطقة مع بداية القرن العشرين -عدا لفترة قصيرة- سوى الأنظمة العسكرية التي تولّت السلطة عبر انقلابات، ومركزت السلطة بقوة في يديها.
أما مع نهاية القرن العشرين وحتى اليوم وعودة دور القوميات، فقد غدت الدعوات إلى النظم الفيدرالية وسيلة لتفتيت الدول/ الكيانات القائمة، كما حدث مع عدة دول أوروبية، مثل البوسنة والهرسك وغيرها في أوروبا، وكما جرى ولا يزال يجري في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003. ولا تنفصل الدعوات في سوريا اليوم عن ذلك السياق التاريخي والسياسي السائد في العالم.
وبمعاينة التجربتين، فيدرالية البوسنة والهرسك (التي نتجت من تفكك يوغوسلافيا) والعراق اللتين قامتا مؤخراً كشكل حكم فيدرالي، فالأولى أسست عام 1992، أعقبتها معارك ارتُكبت فيها الفظائع وفق أسس إثنية بمضمون ديني وإثني (الصرب -الأرثوذكس، الكروات -الكاثوليك، البوشناق -المسلمين)، وفرضها الغرب في نهاية المعارك عام 1995 وفق أسس قابلة للانفجار. أما في العراق، فقد انتقلت دعوات الفيدرالية إلى حيز التنفيذ بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، على يد الحاكم العسكري بريمر، الذي صاغ خطاباً لا يزال أثره مستمراً حتى اليوم، وله مفاعيله خارج العراق، خطاب يقوم على نظام حكم فيدرالي (اتحادي حسب دستور 2005) شكلاً، وبمضمون تقسيمي فعلاً، قائم على أساس إثني ومذهبي، وعلى تغييب الانتماء العربي، غايته ضرب انتماء وهوية البلد وعزله كاملاً عن جواره العربي وإلحاقه ككيانات وجماعات بالدول الداعمة.
لم تعرف سوريا، التي تشكّلت بحدودها الحالية بموجب التقاسم الاستعماري للمنطقة مع بداية القرن العشرين -عدا لفترة قصيرة- سوى الأنظمة العسكرية التي تولّت السلطة عبر انقلابات، ومركزت السلطة بقوة في يديها معتمدة على قاعدة اجتماعية قبلية أو طائفية إضافةً لقاعدة طبقية. فاتسمت بصفة استحقتها عن جدارة: الأنظمة الاستبدادية أو الشمولية اللصوصية (الكليبتوقراطية).
ولاحقاً، حولّها نظام الأسد إلى مملكة الرعب لدرجة يمكن الحديث فيها عن فرادة وتميز لنظام العائلة الأسدية في أشكال خنق السوريين عموماً، حيث نجح إلى حد كبير في تفتيت المجتمع السوري، وإعادة تشكيله وفق قواعد جديدة، أهمها الطائفية مع خطاب أمني في السياسة تجاه الأقليات الأخرى، ربط وجود الأقليات باستمراريته، فحوّل البلاد إلى مكان يخاف فيه الكل من بعضهم، غابت فيه ثقة الناس ببعضها، وبالتالي لا مجال للسياسة فيه، بل للخنادق.
هذه الفيدرالية التي لن تكون ضمن السياق التاريخي والوقائع السائدة سوى الدعوة إلى تشكيل كيانات هزيلة أكثر هشاشة، تقوم على أساس الهوية.
عانى الكرد في سوريا إلى جانب القمع المعمم من اضطهادات خاصة بانتمائهم الإثني، بدءاً من الحرمان من التعلم بلغتهم وصولاً إلى عدم منح الجنسية لقسم منهم، ناهيك عن محاولات "التعريب" البعثية. وهو ما دفع الكرد للمشاركة بحماسة في فعاليات الثورة منذ بدايتها، لكن كان لأذرع النظام بين الأحزاب الكردية، وخاصة الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني في تركيا، الدور الأسوأ في تاريخ الحركة السياسية الكردية، من خلال تحالف وظيفي انتهازي مع النظام، يقوم على قمع التظاهرات ضد النظام مقابل تسلم إدارة المناطق ذات الوجود الكردي، الذي تمكن نتيجة التحولات التي طرأت إلى خلق كيان وكيل جديد، كيان شبه "مستقل" تحت رعاية الولايات المتحدة، متقدماً بطرحه للفيدرالية كنظام حكم لسوريا المستقبل.
بالطبع، لا ينفرد حزب الاتحاد الديمقراطي بطرح النظام الفيدرالي لسوريا، وإنما يشاركه فيه شخصيات وتيارات عدة. يمكن فهم وتفسير طرح حزب الاتحاد الديمقراطي نتيجة لكونه حزباً يعتمد الآلية الأمنية القمعية كحزب قائد ليس للدولة والمجتمع وإنما لـ "الشعوب"، وهو ما يتقاطع مع نظام الأسد في ذلك. وبالتالي لا يعتبر غياب الحريات/ حضور القمع مشكلة رئيسة في سوريا، ويلخص المشكلة كلها بعدم "الاعتراف" بحقوق الكرد، وهو ما يُلاحظ من تهافت قادته تجاه التحاور مع نظام الأسد مقابل ذلك "الاعتراف"! أما فيما يخص الشخصيات والتيارات الداعمة للفيدرالية، فيعود ذلك لاستبدالها إيديولوجيتها الطليعية المنحازة سلفاً إلى الأقليات بخطاب ليبرالي على طريقة بريمر، خطاب يقر بحقوق جميع الإثنيات عدا العرب، فهم مجموعة مذاهب وطوائف!
يمكن عزو الخطاب الذي يدعو إلى الفيدرالية كنظام حكم بديل في سوريا "المستقبل" عموماً إلى استمرارية غياب قضية الحرية والديمقراطية الفردية أولاً، والجماعية ثانياً من الذهنية السياسية لدى الداعين إلى الفيدرالية، والتركيز على مبدأ المساواة بين "المكونات" أكثر من التركيز على حريتها. وهذا هو جوهر الخطاب السياسي الأميركي بالصيغة التي قدمها بريمر عام 2003، والتي يمكن عدّ الدعوة إلى الفيدرالية سواء في العراق من قبل، أو في سوريا اليوم، أحد مفرزاته. هذه الفيدرالية التي لن تكون ضمن السياق التاريخي والوقائع السائدة سوى الدعوة إلى تشكيل كيانات هزيلة أكثر هشاشة، تقوم على أساس الهوية، وبالتالي تؤسس لانفجار أكثر من الاستقرار. وهو ما نلحظه في العراق بكل وضوح، وربما القادم أسوأ، إذ تظهر دعوات لأقاليم ثلاث: كردي، وشيعي، وسني.
يبقى الخيار الديمقراطي الذي يضمن حقوق الجميع ويمهّد لبناء دولة قوية لا تفرق بينهم على أساس انتمائهم، وتسعى لتحقيق العدالة، هو الخيار الأكثر نجاحاً رغم كل هذا الضجيج "الفيدرالي"، الذي لن يؤسس ضمن الوقائع الحالية سوى لصراع قائم على الهوية يفتت أكثر مما يوحد.