تحبس تركيا أنفاسها استعداداً لانتخابات الإعادة لبلدية إسطنبول الكبرى، بعد قرار لجنة الانتخابات العليا، إلغاء نتائج انتخابات الواحد والثلاثين من مارس/ آذار الماضي، وإعادة الانتخابات فقط لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، بعد قبولها الطعن بنتائج الانتخابات من قبل الحزب الحاكم، نتيجة للخلل القانوني الذي حصل بعملية الفرز، وتولي رئاسة صناديق الاقتراع ممن هم من خارج موظفي الدولة والمؤسسات العامة.
مجرد قرار الإعادة لنتائج بلدية إسطنبول الكبرى فقط، وقبول نتائج بلديات المناطق ومجلس البلديات والمخاتير، أي قبول ثلاث نتائج موجودة بنفس ظرف الاقتراع، ورفض نتيجة واحدة. هذا القرار بحد ذاته كان كافياً لانقسام الشارع التركي -المقسوم أصلاً- إلى قسمين، وتعميق التخندق الذي كان موجوداً بالأصل نتيجة لتحول الانتخابات المحلية الماضية إلى انتخابات وكأنها برلمانية بل ومصيرية لمستقبل تركيا، بسبب لغة وشعارات الحملة الانتخابية الأولى التي استخدمها الفرقاء، وخاصة اتفاق الجمهور.
اليوم انتخابات إسطنبول لم تعد انتخابات بلدية، ولم تعد انتخاباً بين مرشحين يتنافسان على تقديم أفضل الخدمات لقاطني هذه المدينة.
لقد تجازوت هذه الميزة وتحولت إلى انتخابات تعم سطح تركيا بأكمله، وانتخابات مصيرية وتشكل انعطافة كبيرة في مستقبل تركيا.. هل هناك من مبالغة بهذا التوصيف؟ وهل هناك تضخيم لهذه الانتخابات المحلية!؟
اليوم انتخابات إسطنبول لم تعد انتخابات بلدية، ولم تعد انتخاباً بين مرشحين يتنافسان على تقديم أفضل الخدمات لقاطني هذه المدينة
نعم قد يتساءل المرء لهذا الحشد وهذا الاصطفاف وهذا التخندق! لكن الحقيقة تقول أن إهمية إسطنبول كمدينة يسكنها ما لا يقل عن 18% من سكان تركيا، وتشكل الثقل الاقتصادي والثقافي والسياحي والتجاري، إضافة إلى اعتبارها صورة مصغرة لتركيا، حيث يقطنها سكان من كل محافظات تركيا. يضاف إلى ذلك، القناعة لدى كثير من المواطنيين الأتراك، أن طريق الوصول إلى قيادة تركيا يمر من ترأّس بلدية إسطنبول والنجاح بإدارتها.. فمن يدير إسطنبول يدير تركيا.
وربما أكثر من عزز هذه القناعة هي سيرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحملته الانتخابية في المرحلة الاولى عندما ركًّز على هذه النقطة بالذات، وطالب الناخبين بعدم التفريط بإسطنبول لأنها تعني تركيا.
وهذه القيمة الإضافية لبلدية إسطنبول الكبرى هو الذي جعل حزب العدالة والتنمية يبدو وكأنه الخاسر بالانتخابات رغم حصده لأكثر من ثلثي بلديات المناطق وثلثي مجلس بلدية إسطنبول الكبرى.
كل هذه النواحي بالإضافة إلى التحدي والاصطفاف السياسي وتخندق الشارع التركي يجعل من انتخابات الإعادة بالفعل أكثر من انتخابات بلدية، ويضعها بمثابة انعطافة مفصلية في مسيرة تركيا لما سَيُبنى على النتائج من تقييمات وقرارات ومواقف.
لقد بدا واضحاً التغير الكبير بموقف وأسلوب وطريقة وشكل الحملة الانتخابية الجديدة للحزب الحاكم أو "اتفاق الجمهور بين العدالة والتنمية والحركة القومية" حيث يرى المراقب هذا التحول الكبير، وكأنه اعتراف بعدم نجاح الحملة الانتخابية الأولى، التي قامت بالأساس على شعارت الأمن القومي وبقاء تركيا والتهديد الخارجي والتآمر على مستقبل تركيا، ولهجة التصعيد والتخوين والاتهام.
لقد تحولت الحملة الجديدة لفسح المجال أمام مرشح "الجمهور" بن علي يلدرم ليعرض خدماته بلغة الهدوء والاحتواء وكسب الأعداء قبل الأصدقاء.
مرشح المعارضة "اتفاق الملة" إمام أوغلو هو اليوم غير إمام أوغلو الأمس، أثناء الانتخابات الماضية. وهذا هو أكبر مكسب له هذه المرة.
إمام أوغلو الذي لم يكن معروفاً أمام بن علي يلدرم المخضرم رئيس الوزراء ورئيس البرلمان السابق، اليوم إمام اوغلو هو معروف لدى الجميع، وهو رئيس بلدية إسطنبول السابق، وإن كانت فترة رئاسته لم تصل لشهر واحد.
إمام أوغلو اليوم يلعب دور الضحية والمظلوم والمغدور والمعتدى عليه والمهضوم حقه. وهذه معاني لها رصيدها عند الناخب التركي وتشكل مكسبا كبيرا ربما يقلب الطاولة ويكسبه فوزا لم يكن يحلم به
إمام أوغلو اليوم يلعب دور الضحية والمظلوم والمغدور والمعتدى عليه والمهضوم حقه. وهذه معاني لها رصيدها عند الناخب التركي وتشكل مكسبا كبيرا ربما يقلب الطاولة ويكسبه فوزا لم يكن يحلم به.
إمام أوغلو لم يكن بحاجة لتغيير شعاراته ولهجة حملته الانتخابية الأولى لأنه حصد نتائجها ...بل دعّمها هذه المرة بالمظلومية وعدم الاستسلام.
رغم الأخطاء الكبيرة والمغالطات التي وقع بها، وعدم الصدق في مواقف عديدة، وبعض العصبية والاحتقان عند إمام أوغلو لكن غالبية استطلاعات الرأي تشير اليوم بتقدمه هذه المرة بشكل واضح.
ويظل التحدي الأساسي والذي سيقلب الكفة هو قدرة العدالة والتنمية على إقناع الشريحة التي لم تصوت له بالمرة الأولى وهم ناخبوه الذين قاطعوا الانتخابات احتجاجاً على بعض تصرفات حالة الترهل بالحزب، والأكراد الذين أغضبهم لغة التجييش بالحملة الانتخابية، والأصوات القومية التي لم تخلص لاتفاق الجمهور بالقدر الكافي بالمرة الأولى.
تحديات كبيرة أمام العدالة والتنمية هذه المرة.. ويظل نضج وحدس الناخب التركي وموقفه هو الفيصل والحكم في كل الانتخابات المصيرية.