يمكن للسوريين، ولغير السوريين، أن يسخروا كثيراً من مشهد بشار الأسد وهو يحاضر في أعضاء اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي، حول إصلاح وتفعيل الحزب، واعتماد آليات الانتخاب بدلاً من طريقة التعيين، فالحزب الذي يقرر مصيره شخص واحد، ويمكنه حلّه وتغيير اسمه، وبرامجه وكل مرتكزاته ليس حزباً، إنه ببساطة شديدة مجرد "دكانة" مملوكة، يمكن لمالكها التصرف فيها بيعاً، أو تأجيراً، أو إغلاقاً، ولا ينطبق هذا على حزب البعث وحده، بل على كل الأحزاب السياسية التي تعمل في سوريا تحت اسم "الجبهة الوطنية التقدمية"، والفرق الوحيد بينها وبين البعث، هو في حجم "الدكانة" فقط.
منذ أن وصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى موقع السلطة في سوريا بانقلاب عسكري 1963، بدأت مسيرة تحويله من حزب سياسي إلى مجرد أداة سلطة، وراحت قياداته العسكرية والسياسية تضع خططها وبرامجها، بدلالة البقاء في السلطة، وليس بدلالة المجتمع وحاجاته وسبل تطويره، ورغم أن هذا التحويل لم يكن متعمداً منذ البداية، لكن هدف الاستمرار في السلطة فرض الذهاب إلى هذا الخيار، وكان فريق من قيادة الحزب في تلك الفترة يعتقد أن هذه الإجراءات ستكون مؤقتة، ريثما يتمكّن الحزب من إحكام سيطرته، وسيعود بعدها لدوره كحزب سياسي يقود المجتمع والدولة على غرار الأحزاب الشيوعية التي كانت تحكم دولاً كثيرة في العالم حينها، في طرف مقابل كان فريق آخر يرى السلطة وحدها هي مشروعه، وشهدت السنوات السبع التي سبقت وصول حافظ الأسد إلى السلطة صراعات داخل الحزب وانشقاقات كبيرة في صفوفه، وحتى انقلابات عسكرية وتصفيات واغتيالات، ورغم أن كل هذه الأفعال تمّت في سياق الصراع على السلطة، إلا أن هذا لا ينفي وجود تباين في رؤية هذه الأطراف لدور الحزب في الدولة والمجتمع.
منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في سوريا، بدأت مسيرة تحويله من حزب سياسي إلى مجرد أداة سلطة.
بوصول حافظ الأسد إلى السلطة عبر انقلابه العسكري 1970م، حُسِم الأمر نهائياً، فتمت تصفية من كانوا يعتقدون أن للحزب دوراً سياسياً قيادياً، سواء بالقتل أو الاعتقال أو الإبعاد، وبقي في الحزب من يريدون الحزب واجهة لسلطتهم، وبغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع من خرجوا أو اعتقلوا أو هجروا، إلا أنهم وبسبب تغييبهم عن الفعل فقد تمكّن حافظ الأسد من تنفيذ خطته الرامية إلى تحويل الحزب إلى مجرد واجهة لشرعية مفترضة، ومن السيطرة على البلاد أمنياً وعسكرياً، أي بقوة القمع والنار، وهذا ما تسبب في إنهاء أي دور للسياسة، وكان حزب البعث أول ضحايا حافظ الأسد في إفراغ الأحزاب السياسية من وظيفتها ودورها في حماية المجتمع وتطويره.
بعد سنوات من حكم حافظ الأسد، أصبح حزب البعث أبعد ما يكون عن بنية الحزب السياسي، واختفت أي منهجية تتبناها الأحزاب في حياتها الداخلية، وأصبح مجرد أداة من أدوات سيطرة الطغمة الحاكمة على الدولة والمجتمع، فنخره الفساد، والمحسوبيات، وصار دوره الأمني كوسيلة لقمع السوريين هو الأبرز إن لم يكن الوحيد، ويعرف السوريون جيداً أن العضوية فيه كانت ممراً إجبارياً لهم، إن أرادوا الحصول على حقوقهم الأساسية.
منذ أيام كشفت محتويات ووثائق مقرّات حزب البعث التي أغلقها المتظاهرون في السويداء عن الدور الحقيقي لهذا الحزب، وعن بنيته وآليات عمله، وعن المهام التي يقوم به أعضاؤه، فهم مجرد أعداد تعمل كمخبرين، تراقب المجتمع، وتنهمك في معرفة من يؤيد رأس النظام ومن يعارضه، لا بل وتقترح طرق معاقبة المختلفين مع الحزب بالرأي، وتنسق مع الأجهزة الأمنية ليس بوصفها أجزاء من حزب سياسي، بل بوصفها قوات رديفة لسلطات القمع.
يمكن لأي بحث عميق ورصين يتناول تأثير حزب البعث كحزب سياسي "يقود" سوريا خلال حكم عائلة الأسد أن يتوصل إلى حقيقة واضحة، وهي أنه لا شيء سيختلف لو أن هذا الحزب لم يكن موجوداً في سوريا أو تم حله في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأن غيابه بعد إحكام سيطرة حافظ الأسد على الجيش والأمن لن يغير شيئاً من مجريات الحدث السوري، وأكاد أجزم أن حافظ الأسد كان قادراً على أن يدفع كامل أعضاء هذا الحزب للخروج منه إلى حزب جديد يؤسسه، أو أن يوافق 99،9% من أعضاء الحزب نفسه على اقتراح بحل الحزب لو اقترح الأسد ذلك، باختصار لم يعد للبعث أي دور سياسي، ولا أي فاعلية، وانحصر دوره في خدمة ما يريده حافظ الأسد، ومن بعده عائلته.
يمكن لأي بحث عميق ورصين يتناول تأثير حزب البعث كحزب سياسي "يقود" سوريا خلال حكم عائلة الأسد أن يتوصل إلى حقيقة واضحة، وهي أنه لا شيء سيختلف لو أن هذا الحزب لم يكن موجوداً في سوريا أو تم حله في منتصف سبعينيات القرن الماضي.
اليوم يتوهم بشار الأسد أن اللعبة التي لعبها والده داخل حزب البعث في سبعينيات القرن الماضي، يمكن أن تكون ذات جدوى اليوم، وأن محاولة نفخ الحياة في جثة البعث المتفسخة، وإعادة بعض الاعتبار له، يُمكنها أن تشكل بوابة خروجه وعائلته من المأزق العميق الذي وصلوا إليه، وأوصلوا سوريا إليه، متجاهلاً كل المتغيرات التي عصفت بسوريا، ومتجاهلاً بصفاقة بالغة حقيقة أنه ووالده هم من أنهوا دور الحزب، وحولوه إلى مجرد واجهة بلا أي مضمون.
لا يمكن لمجموعة من المجرمين، الفاسدين المفلسين والذين يحاولون تسويق مقتنياتهم التالفة، أن يجدوا من يشتري منهم وهم القدرة على إحياء حزب البعث، ليس حزب البعث وحده، بل ومعه كل التركيبة المسماة "الجبهة الوطنية التقدمية"، فهذه البنى الصدئة أصبحت خارج التاريخ ولم يبق لها أي دور، ووجودها، هو خير شاهد على عمق المأزق الذي تعيشه سوريا اليوم.
سوريا الغارقة في وضع بالغ الصعوبة والتعقيد، لا يمكن إخراجها منه بأدوات صدئة عفا عليها الزمن، بل تحتاج إلى مسؤولية، وتبصّر، واعتراف وجرأة، وأول ما يفرضه استحقاق إنقاذ سوريا، هو كنس حزب البعث مع قياداته الفاسدة، وإنهاء وجودهم في حياة السوريين، ولا يحتاج كنس البعث من سوريا إلى قوانين وإجراءات كثيرة ومعقدة، فأي حياة سياسية حقيقية في سوريا، سوف تكشف بوضوح أن هذا الحزب الذي كان واجهة حكم آل الأسد لسوريا لمدة تزيد عن نصف قرن، ليس أكثر من جثة هامدة عفنة.