في مساء 11 من كانون الثاني عام 2011، تردد بهمسٍ هتافُ ارحل في ساحة "البسَّاج" في العاصمة التونسية، سرعان ما تحول لهتاف علني بين عشرات الشبان ممن تجمهروا على بعد أمتار من وزارة الداخلية التي كانت مَهدَ زين العابدين بن علي للوصول إلى السلطة بعد انقلابه على بورقيبة عندما كان وزيراً للداخلية عام 1987، وبالانتقال لاحقاً إلى قلب عاصمة أخرى هناك في دمشق وعلى بعد خطوات من وزير داخلية النظام نادى المتظاهرون الغاضبون: (الشعب السوري ما بينذل... الشعب السوري ما بينذل) بعد اعتداء أحد أفراد الشرطة على مواطن في سوق الحريقة للقماش ما دفع الوزير المتفاجئ بالرد عليهم: (عيب... هي اسمها مظاهرة)!! فاستجاب الشعب السوري لندائه بأن نشروا المظاهرات في كل أرجاء الوطن.
أبطال الثورة الفرنسية والأميركية في دمشق!
ما يجمع كِلا الحراكين وباقي ثورات الربيع العربي، ليس الماضي التراكمي من انعدام الحريات والأنظمة المستبدة التي شوهت البنية الاجتماعية والقانونية والسياسية في تلك البلاد فقط، بل أيضاً الشريحة الشبابية التي خرجت في تلك المظاهرات والتي لم تكن تملك رصيداً في مقارعة الاستبداد أو خبرة سياسية في أحزاب معارضة أو حتى ذاكرة تاريخية مُلِمَة بالتفاصيل المخيفة لمجازر تلك الأنظمة، بل شباب خرجوا بمطلبهم الموحّد المتمثل بالحرية والانعتاق من حكم العسكر وعسكرة المجتمع واستبداد الأجهزة الأمنية والقمع أو التخلص من "عنترة" كما وصفه الشاعر نزار قباني في أبيات قصيدته "هذه البلاد شقة مفروشة يملكها شخص يسمى عنترة...".
ومع امتداد أمل التغيير في نفوس الشعوب العربية، سارعت الأنظمة المسيطرة على الدول إلى إطلاق وسائلها الإعلامية التي اعتبرت كل هذا الحراك العظيم هو مؤامرة للنيل من استقرار البلاد أو هو عبارة عن حركات غوغائية إرهابية لا تمت بصلة للثورات التاريخية وهدفها النيل من استقرار تلك البلاد والأنظمة "الممانعة" التي تحكمها، فها هو التاريخ يشهد على وضوح الثورة الفرنسية (1789) وظهور نخبها وشعبيتها، مع أنه لو كان "كامي دومان " الذي أشعل الثورة الفرنسية بخطابه موجوداً في سوريا لكان مصيره القتل كما حدث للناشطين السلميين يحيى الشربجي وغياث مطر اللذين تم اعتقالهما وقُتِلا تحت التعذيب لأنهما وزعا الورد على جيش الأسد، أو كان مصير "فولتير" القتل حرقاً و"فيكتور هوغو" التغييب قسرًا في سجن صيدنايا، ولقطعت أصابع الرسام "جاك لوي دافيد " لأنه سَخِر من الفساد في البلاد، ولتعرض"توماس جيفرسون" كاتب الدستور الأميركي (1776) للاختفاء، ثم تظهر صورته بين تسريبات قيصر، ولأضحى"جان جاك روسو" تائهاً في شوارع دمشق فاقداً لعقله بعد أن ضُرِب بعصا حديدية إثر رفضه السجود لصورة الأسد.
"نُخَبٌ" على هوامش الثورات
من العسير على المستبد أو الديكتاتور أن يهاجم أفكاراً مجردة يتبناها معظم أفراد الشعب ويقضي عليها، وعليه سيلجأ إلى تشويه تلك الأفكار من خلال شخصيات، لاحقاً تعرِّي القضية المئات من تلك الشخصيات وتسقطهم عند المنعطفات الثورية، لعجزهم عن اتخاذ قرارات وطنية بسبب عدم فهمهم لحراك الشعب أو تتلاشى عنهم الصورة الهلامية التي أنشؤوها حول شخصياتهم بسبب تاريخهم من الاعتقال أو الحراك السياسي التقليدي الذي خاضوه، وتبقى أسماء تلك الشخصيات أو الكيانات تتردد على هوامش الحكايات الثورية كنموذج عن السذاجة أو الخيانة أو استغلال دماء الشعوب.
وتلك الهوامش ومن عليها لا يشوهون صورة القضية وحسب!، بل يصنعون معارك وهمية يحاولون فيها استجلاب الماضي بمصائبه وأخطائه ليصارع بعضهم بعضاً، ويكون الوقود الأكبر لهذه الصراعات هم الشباب المصطفون خلف أطرافٍ تملك معارك ممتدة لما قبل أن يولد هؤلاء الشباب، فتنعكس كل تلك الفوضى على المئات من أبناء الثورة وتُبعدهم عن جوهر الحراك الذي خرجوا من أجله وتحولهم لحالة من اليأس واللاجدوى من التغيير، وأن القضية التي خرجوا من أجلها هي قضيةٌ محقةٌ مقدسةٌ ولكنها سُرقت منهم عبر مسارات سياسية أو فصائل عسكرية أو مشاريع "شبابية تنموية هادفة" أو مؤسسات "مدنية" توازي بين المجرم والثائر.
لاتُهزم ثورة شعب
دائما ما يبدأ الحراك الثوري من أجل التغيير بمجموعة آمنت بضرورة هدم الواقع الحالي الذي يفرضه المستبد، حتى لو كانت أفكار الحراك فردية في البداية ولكن تحويلها إلى واقع بحاجة إلى تكاتف مؤمنين يصنعون أدواتاً لإقناع الجماهير بالأفكار المجردة، لذلك أقوى أدوات المستبد هو أن يُحيط الثائر بواقع مشتت وتشويش مُصطَنَع، ليُمسي صوتُ الثائرَ بلا صدى ويتحول صوته إلى صمت عميق مهما ارتفع ذلك الصوت أو نادى في المجتمع، فيكون الثائر هنا أمام مفترق أفكار، إما اعتزال الواقع والغرق في فكره النظري الذي لا يغير واقعا بل يرَّيِحُ ضميره الثوري الذي اعتاد على العمل، أو أن يجد أشباهه ويصنعون إطاراً ثقافياً يشبه وضع العلماء البيزنطيين عندما كان محمد الفاتح على أسوار القسطنيطينة وهم كانوا منشغلين ومختلفين حول جنس الملائكة هل هم ذكور أم إناث، ففُتحت القسطنطينية وبقيت أفكارهم الخشبية عبر التاريخ في مقولة "جدل بيزنطي" كدلالةٍ على الأفكار التي تهدِرُ الوقت وتقتُل الأفكار وتضيِّع الدماء والأوطان.
لن تستمر ثورةٌ عبر التاريخ دون أن تكون أفكارها تُختبر في الواقع ونُخَبها تُصنع في الميادين وتشتبك مع القضايا، فالأفكار الثورية الحقيقية تلك التي يَعِيها يافِعٌ في بداية دراسته والكَهلُ الذي شَابَ رأسه من كثرة الاستبداد والظلم، والتي يبقى الشعب مؤمناً بها ويُنتج أدوات جديدة تواجه كل محاولات قمع حراكه أو سلخ ذاكرته المُثقلة بالشهداء والذكريات وأسماءِ الطغاة والمستبدين وعبيدهم.