"إن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" - ابن خلدون.
شهد التاريخ الإنساني منذ نشأته وبمختلف مراحله الزمنية اختلافاً بين المجتمعات، بل حتى داخل المجتمع الواحد في نظرته إلى الجمال والتعبير عنه. وقد اختلفت الأذواق وتنوعت، وتجلّى هذا التنوع في مساحات عديدة من أهمها ما يختص بـ "الأزياء"، نظراً لكون الزي هو الواجهة التي يظهر بها الإنسان وبها يعبر عن ذوقه الجمالي الخاص ويعكس هويته الشخصية. وذلك لارتباط الزي بالقيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية.
إلا أن العصر الحديث بحملاته وغزواته الثقافية حمل للإنسان مفاجآت جديدة ليجد نفسه أمام موجة من الهيمنة الثقافية والتي تُقاد من ثقافات مختلفة وترسم للعالم معايير موحدة للجمال وتشكل مزاجهُ الثقافي، بل وتصطدم في أغلب الأحيان بقيمه الأخلاقية والاجتماعية في ظل عملية تنميط الجمال التي استخدمت فيها آليات مختلفة لتطفو على السطح ظاهرة "الموضة" التي طالت مجالات عديدة في حياتنا.
نشأة الأزياء وتطورها التاريخي
لا شيء مرتبط بحياة الإنسان وخصائصه وثقافته كـ "البدلة" أو الزي الذي يظهر فيه أمام الجميع، والذي نشأ مع الإنسان البدائي كوسيلة لحمايتهُ من تأثيرات البيئة الخارجية. وتغيرت ثقافة الأزياء عبر التاريخ لتصبح انعكاساً للتغييرات في المثل والقيم الجمالية والذوق العام.
ففي العصور القديمة (في مصر وبلاد ما بين النهرين وعند اليونان والرومان)، كان الزي مرتبط بالطبقية والحالة الاجتماعية، فكانت أنماط أزياء الأغنياء مختلفة عن أزياء الفقراء من حيث نوع القماش ولونه وحياكته، ففي أغلب الأحيان كان زي الفقراء من الطبقة العامة والحرفيين عبارة عن مئزر (صدرية) أو قميص طويل حتى الركبة.
أما عند الرومان فكان القميص بدون أزرار أمامية حيث يبقى مفتوحاً من الأمام، على عكس الأغنياء فقد كانت معايير أزيائهم تدل على الترف والبذخ في تزيين أقمشتهم الثمينة بالمجوهرات والحلى النادرة، ولم يقتصر هذا التنميط فقط في العصور القديمة وإنما امتد حتى عصور النهضة عند جميع المجتمعات، وحتى يومنا هذا في بعض المجتمعات.
أما في وقت لاحق في عصر النهضة شهدت نمطية الألبسة والأزياء أوج مراحلها، فقد غلبت هذه الفترة كل المراحل التي سبقتها عند المجتمعات القديمة، فكانت الباروكة والقبعات الطويلة والعصا والساعة وغيرها من الإكسسوارات، هي العلامة الفارقة بين الفقير والغني من الطبقة الأرستقراطية، حيث كان الأغنياء يهتمون كل الاهتمام بالبريستيج النمطي والتي كانوا يواكبونها باستمرار.
يقول جيل ليبوفتسكى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي في كتابه "مملكة الموضة": "إن مجتمعات الأسلاف قد فرضت قاعدة الثبات في كل مكان، وتكرارية النماذج الموروثة من الماضي والمحافظة عليها في الكيفية التي يكون عليها الأفراد وكيف يكون مظهرهم"، وأكد ليبوفتسكى أيضاً في كتابه أن الموضة لم تكن مصاحبة لكل العصور، وإنما جاءت كظاهرة استثنائية مصاحبة لميلاد العالم الغربي الحديث وتطوره، وذلك حينما أصبح التجديد في الشكل قيمة حضارية وقاعدة ولم يعد استثناء كما كان في السابق، ومن هنا ولدت الموضة بتحولاتها وتغيراتها وشطحاتها التي لا تتوقف أو بالأحرى التي تقوم على التجديد المستمر.
وهذا ما نشهدهُ في وقتنا الحالي مع التطور الاجتماعي الذي نعيشه على جميع الأصعدة، حيث يسعنا القول بأن نمطية الموضة التي تمحورت حولها الأزياء ما زالت حتى وقتنا هذا ولكن بصور ونمطية مختلفة عمّا سبق، والحرية المطلقة للشخص في اختيار ما يريدهُ ما دام يملك القدرة المالية، وفي بعض الأحيان حتى وإن لم يمتلك القدرة المالية الكافية فهو يستطيع أن ينفق راتب شهر من العمل على أن يكون راضياً نفسياً على ما يرتديه، فاليوم أغلب الناس يريد أن يكون فريدًا أو شبيهاً لأحد من المشاهير بنمط لباسه، مما أعطى تطوراً للموضة من كونها استجابة للتغيرات الثقافية إلى كونها انعكاسًا لفردية الشخص، حيث لم يعد "التشكل" الاجتماعي هدف الموضة، ففي وقت سابق كانت الأزياء محصورة على أفراد العائلة المالكة أو التجار والنبلاء، واليوم أضحت الشغل الشاغل للمشاهير والشركات الكبرى والعلامات التجارية، كما دخلت أذواق وآراء عامة الناس أيضًا في مواكبة الموضة، الذين تقود أذواقهم سوق الموضة.
فلسفة الموضة المعاصرة
"حب التغيير والتأثر بالمعاصرين". انطلاقاً من هذه العبارة حكمت الموضة في وقتنا الحالي، وفي ظل تضخيم كل ما هو غريب ومختلف للفت الانتباه. حيث تتلخص فلسفة الموضة في جوهرها كطريقة للتعبير عن حقيقة أو اعتقاد داخلي حول فكرة ما، والتوجه بها للعالم من خلال الملابس.
يسعى الكثيرون من محدودي الدخل لشراء الأزياء الثمينة لإشباع متعة الرؤية أمام المجتمع وعلى أن يكونوا محل أنظار الجميع لعلهم بذلك يحققون شيئاً من ذاتيتهم الضائعة
نشأ مع هذا النمط أو كما ورد في العبارة السالفة "حب التغيير والتأثر بالمعاصرين" عصر يتسم بالولع بكل ما هو حديث انطلاقاً من ولعه بالغرب والتقليد المفرط بما هو جديد، وفي هذا الإطار نجد أن الموضة أنشأت وضعية لم تكن مسبوقة في العصور السابقة، إذ أن في العصور السابقة التي تحدثنا عنها وعن البذخ الذي واكبتهُ، كانت الموضة هي التغيير في المظهر الخارجي بما معناه: "عبارة عن متغير يضاف إلى مستقر"، أي أنه قائم على مبدأ احترام السياق العام للملبس المعروف بوساطة العادات والتقاليد، حيث كانت تضاف الإضافات التزينية، البسيطة منها أو المبالغ فيها، إلا إنها كانت في إطار لا يخرج عن العرف والثقافة المجتمعية. أما مع الموضة الحالية، فلم تعد هناك لمسات تضاف إلى المستقر، بل بات الأمر قائماً على الاختراع، أي إعادة تعريف أشكال الملبس بالكامل في التفاصيل والخطوط الرئيسة أيضاً، إذ أن الموضة الحالية يحكمها منطق الاستعراضية وهي لا تنفصل عن المبالغة والإفراط والجرأة.
ومن هذا المتغير الجريء والمستمر بسرعة يمكن القول بأنهُ أدى إلى اصطدام الموضة والأزياء الحالية بالمعايير الجمالية والأخلاقية والدينية للمجتمعات، فقد شهد عصرنا كثيراً من النقد والاستنكار العنيف من قبل الأساقفة في الكنيسة ورجال الدين الإسلامي ضد قلة الاحتشام المبالغ فيها تحت مسمى "مواكبة الموضة"، حيث كانت ملابس النساء في السابق محتشمة بصرف النظر عمّا إذا كانت أوروبية أو شرقية.
أما ما نشهدهُ مع مواكبة الموضة العصرية في الأزياء هو الإعلاء من هذه الممارسات المهووسة والتي لا يمكن أن تكون إلا بسبب تجلي معايير جديدة تشوه التقديس للأخلاق، وترفع الرغبة الشخصية في التمييز والانفراد بالذات، وبالتالي تتقوقع هذه الرغبة ولا تنفصل عن ضياع الشعور التدريجي بالقيم البطولية، فإعلاء الموضة وتفردها في حياة الإنسان يعنى انتصار التمتع الشخصي وانتصار ذوق الغواية على المجد، فالتقديس الحديث للموضة ينبع من الانتقاص السائد للقيم الإنسانية ومن هنا تتشوه قيم الجمال بجوهرها الأخلاقي في مقابل إعلاء قيم الغواية.
الموضة وتنميطها للمزاج العالمي
يعد تاريخ الموضة تاريخاً غربياً بامتياز فلفظة "موضة" هي ترجمة لكلمة Mode الفرنسية، وترجمتها fashion بالإنجليزية، وفي هذا السياق يقول عالم الاجتماع جورج سيميل مفرقا بين لفظة fashion وcostume، بأن الأولى، أي الموضة "تشير إلى المجتمع الأوروبي المثقف، بينما الثانية والتي تعنى (الزي) تستخدم للإشارة إلى المجتمعات الأخرى حيث الأزياء المحلية التقليدية. وهذه الرؤية الغربية ترسم الغرب في صورة المتقدم المتحضر حيث تتواجد الموضة في إشارة للجديد والمعاصر، أما المجتمعات الأخرى (غير الغربية) فما زالت تعيش على القديم والموروث في إشارة إلى أن القديم رمزا للتخلف".
وما نشهده من هذه المفارقة الغربية غير المبررة والتي سادت وهيمنت لتصبح مشرعاً لهيمنة الذوق الغربي على العالم كلهُ، أن الغرب جعل من ذوقه الخاص وثقافته معنى التحضر والتقدم الاجتماعي والاقتصادي أيضاً، كما أنهُ من خلال متابعة صفحات الموضة والأزياء يمكننا ملاحظة الطبقية في العرض، ما بين أزياء الطبقات العليا أو الأرستقراطية وأزياء الطبقات الدنيا أو العامة. وهذا بلا شك يغري النفس الإنسانية بحب التمييز أو التقليد، فيسعى الكثيرون من محدودي الدخل لشراء الأزياء الثمينة لإشباع متعة الرؤية أمام المجتمع وعلى أن يكونوا محل أنظار الجميع، لعلهم بذلك يحققون شيئاً من ذاتيتهم الضائعة، وبهذا تكون الموضة قد حولت المجتمعات إلى مسارح استعراضية.
وفي هذا الصدد يذكر الدكتور مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور" أن الكثير من التصرفات الاستعراضية التي تشيع في البلدان النامية تهدف بالتحديد إلى التستر على عقدة عار التخلف خصوصا بالاستعراض الاستهلاكي، وبأن إنسان العالم المتخلف هو أسير المظاهر مهما كانت سطحيتها مادامت تخدم غرض التستر على عاره الذاتي.
المراجع:
د. مصطفى حجازى، التخلف الإجتماعى: سيكولوجية الإنسان المقهور، 2005.
جيل ليبوفتسكي، مملكة الموضة زوال متجدد: الموضة ومصيرها في المجتمعات الغربية،
Dress, body and self: research in the social psychology of dress - اللباس والجسد والذات: بحث في علم النفس الاجتماعي للباس
https://fashionandtextiles.springeropen.com/articles/10.1186/s40691-014-0020-7