ربما تكون الثقافة العربية من الثقافات النادرة في عدم توفرها على تراتبية زمنية وتاريخية في التكوين. فالثقافة العربية من بين أكثر الثقافات التي تعرضت سيرورتها للقطع وإعادة اللصق، بسبب هيمنة المتخيل السياسي أو ظروف وملابسات إنتاجه، منذ بداية تأسيس الدولة في العهد الأموي، مروراً بالدول التي تولدت خلال مراحل تطور شكل ونظام الدولة التي أعقبت مرحلة التأسيس تلك.
تاريخياً، وفي عصر ما قبل الإسلام، أنتج الفعل الثقافي العربي، بناه ونتائجه التطورية، بوتيرة واحدة، قد تكون كسلة وهشة نعم، ولكنها تأتي كنتيجة للتطور العقلي والرؤيوي، أي من دون متخيل سياسي موجه، وهذا ما يظهره بجلاء تطور شكل ومضمون القصيدة العربية القديمة، باعتبار أنها كانت وسيلة التعبير الثقافي الوحيدة آنذاك.
وبالتحليل، نستطيع أن نعيد أسباب هذا الوضع إلى خلو حياة الجزيرة العربية (موطن العرب) من شكل الدولة وبناها السياسية، أي إن مصادر ومفاعيل العملية الثقافية لم تكن تخضع لأي شكل من أشكال المتخيل السياسي وتوجيهاته. وفي الفترات والبقع التي توفر فيها الشكل البسيط للدولة، فهو أيضاً لم يأت مصحوباً بمتخيل سياسي وأيديولوجي، إنما اقتصر على هيئة بناء دارة الحاكم أو الملك ومن يحيطون به من أذرع تنفيذ شكل هيبته.
المتخيل السياسي رافق ظهور دولة الإسلام في حياة العرب، وتطور إلى فاعل ثقافي موجه مع بروز الدولة الأموية وظهورها كفاعل سياسي في المحيط الذي قامت فيه ومارست فيه سلطتها. وهذا يعني أن ما يمكن أن نسميه بالبنى الثقافية العربية، التي مثلت بدايات المشروع الثقافي العربي، قد نشأت وترعرعت تحت هيمنة المتخيل السياسي ومقاصده ولم يأت كعملية تطورية لنضوج عقل حر تمام الحرية.
أما ما يمكن أن ندعوه بالفضول المعرفي المؤسس للحراك للثقافي، فقد جاء كنتيجة لتوسع رقعة الفتوحات الإسلامية والتلاقح الثقافي الذي أفرزه احتكاك العرب بأقوام البلاد التي فتحوها، ولم يأت كنتيجة تطورية لنضوج (مملكة العقل العربي).
وكما يقول الجزائري، محمد أراكون، (فإن العقل لا يمارس دوره بشكل مستقل، بل يمارس دوره وفعله على علاقة بالخيال والمتخيل)، وهذا يعني أن البنى الثقافية العربية ظلت حبيسة أفق المتخيل السياسي حتى عام 142 هجرية، أي حتى تأسيس الدولة العباسية وبداية عهد التدوين والترجمة من الثقافات الأخرى.
وتاريخ عهد التدوين والترجمة هذا لا يعني تحرر العقل العربي من المتخيل السياسي، لأن عملية الانفتاح هذه سرعان ما قوبلت بردات فعل متطرفة من الفقهاء الذين انبرى معظمهم لتحريم الفلسفة والفنون، كالغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه المعروف (تهافت الفلاسفة)، وكذلك فعل ابن خلدون من بعده في مقدمته الشهيرة التي تحتوي على فصل بعنوان: (في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها)، وفيه يقول بالحرف الواحد: وضررها في الدين كثير، فوجب أن يُصدع الحق بشأنها ويُكشف عن المعتقد الحق فيها.
وهكذا استمر الحال، حتى بعد سقوط بغداد على يد المغول ووصولاً إلى عقد الخمسينيات من القرن الماضي، عقد التحرر من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وعقد سيطرة الأنظمة التي أطلقت على نفسها تسمية ثورية، التي فرضت أحزابها المؤدلجة متخيلاً سياسياً أكثر فظاظة وأعمق رقابة على مفاعيل العمليات الثقافية، تحت فكرة شديدة الشبه بفكرة اللاهوت القائلة بوجوب الإيمان الذي يجب أن يسبق التفكير لينتج التفكير السليم والمتعقل. وطبعاً الإيمان الذي طالبت به تلك الأنظمة هو الإيمان بأيديولوجيات أحزابها ورؤاها السياسية لا غير، مع شرط التخلي عن التحليل والتشريح الفكريين.
وآثار هذه المرحلة الانفعالية مازالت مستمرة وفاعلة إلى يومنا هذا (في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا على الأقل)، وهي كانت بمثابة عملية قطع جائرة لطريق السيرورة التاريخية لبناء أي مشروع ثقافي، لأنها حاربت كل ما سبقها من مرتكزات ثقافية ناشئة، بحجة محاربة الإقطاع (الرجعية الفكرية)، الذي خلطت تحت يافطته البرجوازية الاجتماعية (وهي كانت تجارية – ثقافية وليست رأسمالية كحالها في أوروبا)، تلك الطبقة المتعلمة التي كانت بالفعل قد بدأت بإرساء بنى مشروع ثقافي مدني مستقل.
مشكلة المتخيل السياسي متأتية من معاداته وصدامه مع المعرفة. فالطبقات السياسية العربية جميعها، وبغض النظر عن خلفياتها وتوجهاتها الأيديولوجية، تخاف المعرفة أكثر من خوفها رصاص البنادق، لأنها تعرف أن المعارف المفتوحة تقود إلى إرساء البنى الثقافية المتنورة والمتمردة على كل أشكال الجمود والتقليد.
ولأن الطبقات السياسية العربية مصرة على التمسك بثقافتها السياسية الضحلة وداومت على سحق أي (برجوازية ثقافية) ومنعتها من النمو والتمظهر، ظلت البنى الثقافية (معظمها نتاج فردي ولا يحتويه التنظيم المؤسساتي/الجمعي المستقل) تدور في الحقل المفاهيمي العسير على التطبيق، لعدم تبنيها من قبل مؤسسات الدولة، بل ولتسفيه مؤسسات الدولة لطروحاتها، بحجج الطوباوية وغربتها عن (ثقافة المجتمع).
المتخيل السياسي العربي لا يكتفي بتسويق رؤيته هذه، كمشروع ثقافي، بل يعادي أي طرح مغاير ومختلف معها، وخاصة إذا ما كان الطرح المختلف حداثوياً ويدعو أو يتمرد على تاريخ التقليد
مشكلة المتخيل السياسي العربي هي أنه يجعل مقولاته والعقل الذي ينتجها هي المعيار. وطبعاً تخلع على الحاكم الذي أنتجه نوعاً من القدسية (بل هي في معظم الأحيان قداسة أشد ضراوة من قداسة اللاهوتي)، وعليه فإنه يرتقي – المتخيل - إلى مرتبة المقدس الذي لا يجب أن يمس، وأن يكافح من يجرؤ على الاقتراب منه أو مسه بالسجن أو القتل.
ومن نافلة القول أن نذكر هنا، أن قداسة الحاكم ومقولته هي موجهة ضد (اجتماعية) المعرفة، لأن إيمان مجتمع ما بسلطة معرفية ما إنما يعني تحويلها إلى رؤية ونسق ثقافيين. والمتخيل السياسي الثابت يقول إن أي رؤية أو مشروع ثقافي ينتج من خارج قصر السلطة (الدولة) إنما هو يستهدف سلطة الحاكم ويهدف إلى سحب كرسي الحكم من تحته، في عقل الحاكم وحاشيته، وتخريب بناء ووحدة المجتمع وعقائده وتراثه، في وسائل الاعلام.
والمتخيل السياسي العربي لا يكتفي بتسويق رؤيته هذه، كمشروع ثقافي، بل يعادي أي طرح مغاير ومختلف معها، وخاصة إذا ما كان الطرح المختلف حداثوياً ويدعو أو يتمرد على تاريخ التقليد، ويدعو إلى الخروج إلى تاريخ العقل والحداثة المستقلين، بحجة معارضته وتشويهه للوحدة والثقافة المجتمعية. وهو بهذا لا يدفع باتجاه التماثل مع رؤيته، بل يسهر على أن تتماهى جميع الأصوات في صوته كي يكسبه درجة اليقين والتقديس والتأبد في السلطة طبعاً، وهذه هي الغاية الكبرى التي ولد من أجلها المتخيل السياسي.
وهذا الفهم القائم على الخوف هو الذي وقف خلف فكرة رفض التجاور الفكري والثقافي بين الرؤى والطروحات، (ومنذ العقود الأولى لتأسيس شكل الدولة العربية)، مع معظم مشاريع التنوير والتحديث التي تنتجها العقول المستقلة، من خارج دائرة المتخيل السياسي.
ومن هذا نخلص إلى أن المشروع الثقافي العربي قد خضع، ومنذ بداياته، لشواغل المتخيل السياسي والأيديولوجي الظرفي، وهذا ما جعله، على مستوى الإنتاج، رهنا لعملية اجترار وإعادة إنتاج لذات القوالب والمحددات ودون إرساء لقواعد ثابتة (محركات الفعل الثقافي) تؤسس لمشروع يبلور وجها (تمظهر) ثقافيا محددا، يعكس بنى وعي المجتمعات العربية وتوجهاتها الحقيقية.