يمتعنا الكاتب والشاعر السوري حسام الدين الفرا على مدى 27 نصّاً حكائياً، نتيجة قدرته على إثارة مختلف ما يجيش داخل القارئ من عواطف وانفعالات، تتراوح بين الدهشة والذهول والابتسامة والحزن والخيبة... وصولاً إلى ذرف الدموع سواء مع القهقهة أو البكاء المُر!
نعم، هي هكذا مجموعته التي اختار لها عنواناً يحمل من الاختلاف والتنوّع ما لا يخطر على بال كاتب: "المادية العشائرية وصديقي القرباطي". فيحار القارئ في إطلاق توصيفٍ أدبي يليق بتلك النصوص التي سمّاها الفرّا "سرديات"، لتشكّل العمل الأدبي الثالث للكاتب بعد مجموعتيه الشعريتين: "معزوفات من مقام العشق"- 1991، و"مرايا الروح"- 2002، وعمله "السردي" الأول.
المجموعة التي جاءت في 136 صفحة من القطع الوسط، وصدرت حديثاً عن دار "الدراويش" للنشر والترجمة في كاوفبويرن– ألمانيا؛ وردت بعض نصوصها الـ27 على هيئة قصص ساخرة تحمل بين طيّاتها تجارب عايشها الكاتب ابن محافظة الرقّة لتذكّرنا بسرديات عبد السلام العجيلي وأحمد فرحان الناصر وغيرهما من رموز الرقة الأدبية، وكأن هذا النوع من الفنون خُصّص فقط لأبناء "درّة الفرات" التي أريدَ لها أن تشهد الدمار تلو الدمار عبر صفحات تاريخها.
لم تقتصر حالات الدمار التي مرّت على المنطقة على الجانب العمراني أو الحضاري فحسب، كما حصل بعد انتزاعها من سيطرة نظام الأسد بسبب ما تلقته من تفجيرات وقصف مدفعي وغارات جوية متكررة من قبل الأخير، وكذلك في ظل سيطرة "تنظيم الدولة" و"قسد" مع داعميها من قوات التحالف الذين أكملوا ما بدأه النظام من دمار؛ بل تناولت السرديات جوانب الدمار الإنساني والنفسي والأخلاقي منذ ما قبل 2011، كحال بقية المدن السورية الأخرى.
فمجمل النصوص التي طرحها الكاتب جاءت لتعالج مواضيع مختلفة، كحالة دولة القمع والاستبداد الأمنية (كما ورد في قصتي: "زمن الخوف وجاسم أندورف"، و"صديق عن صديق يختلف")، وحالة المواطن مسلوب الإرادة والحقوق (كما في قصة "مواطن درجة عاشرة")، وحالة هجرة وتغريب السوريين بهدف العمل في دول الخليج العربي (كما في قصة: "صديقي الذي لم يفهم الفولة").
استطاع حسام الدين الفرّا تمرير سردياته للقارئ بمنتهى البساطة والسلاسة وبمزيج ساحر بين الكوميدي والتراجيدي
وعرجت النصوص لتسلّط الضوء على سيطرة "تنظيم الدولة" وما رافق تلك السيطرة من تغيّرات وتحوّلات جراء الإجراءات المتشددة التي فرضت على أبناء الرقة، ما دفع غالبيتهم إلى المخاطرة بحيواتهم والهروب من ذلك الواقع الدخيل والمرير كما جاء في قصة "مواقف لا تخص النفري".
"يتابع صديقي: كأن هذا العنصر المتشدد أصبح يتعمّد المرور في شارعنا، لأنه بعد بضعة أيام، وأنا واقفٌ أمام البيت، ناداني وبنبرة صوتٍ فيها تقريع قال: ألمْ أنبهْكَ حول اللحية، وعدم الحلاقة؟ وتابع: ما رأيك الآن أن آخذك إلى الحسبة؟
وسألني: أتعرف ماذا يُصبح الأسد، إذا حُلق شَعرُه ولِبْدتُه؟ قلت له، وأنا أكتم ضحكةً مُجلجلةً، بسبب الخوف: يصبح حينها لبوة. قال: هذه آخر مرة أراك حليق الذقن. وفعلاً كانت آخر مرة، فبعد كلامه بأيامٍ غادرتُ تهريباً المدينة، تحت جنح الليل، إلى مكانٍ آخر" (ص 17).
ولم تنس المجموعة أن تتناول أيضاً حالة العصبوية العشائرية والمناطقية المنتشرة في غالبية المحافظات السورية، وبصورة خاصة في محافظات شرقي وشمال شرقي سوريا (الرقة ودير الزور والحسكة)، كما ورد في قصة "المادية العشائرية وصديقي القرباطي" التي حملت نفس عنوان المجموعة.
".. ويرى صديقي بأن اللايكات والقلوب الحمراء، في عالم الفيس الافتراضي لها نفَس عشائري وقبلي، فابن القبيلة والعشيرة الكبيرة سيحظى بها أكثر، وإن كان ما يكتبه لا يعدو أن يكون مجرّد سفاسفَ وترهات. تتدخل العشيرة وأحكامها حتى في الانتخابات في المدن ذات التركيبة العشائرية، سواء أكانت لمجلس الشعب، أو انتخابات الحزب القائد العتيد، أو الأحزاب الأخرى التي تُقاد في المجتمع.."(ص 38)
كل تلك المواضيع، استطاع الفرّا تمريرها للقارئ بمنتهى البساطة والسلاسة، وبمزيج ساحر بين الكوميدي والتراجيدي.
من سرديات الفرا: "صديقي الرَّقيب الأوّل"
"كأنّ الرُّتب في الجيش كلما تدنَتْ وانخفضتْ وخاصةً المُتطوّعين، كان صاحبها أكثر فظاظةً، في تعامله مع الآخرين.
يقول صديقي ويتابع: أثناء خدمتي العسكرية الإجبارية في دمشقَ، برتبة رقيب أوّل (قد الدنيا). تُزيّنُ يدي اليسرى بين المرفق والكتف ثلاث ثمانيات، لا شكّ أنها تثير الشفقة في نفوس العناصر الذين لا يحملون أية رتبةٍ، وتثير الحقد والغضب، في نفوس مَن يحملون الرتبة الأعلى مباشرةً (المساعد).
مع أننا أنهينا دراستنا الجامعية، ولكن لسوء القدَر، وحظنا العاثر لم نُعاملْ، كما عُوملَ زملاؤنا الخرّيجون، من قبل، فقد صدر قرارٌ سامٍ، من الباب العسكريّ العالي، بألا تشمل رتبة الملازم سوى فئةٍ قليلةٍ من الخريجين، وما تبقّى هم صف ضباط .
يقول صديقي : وبذلك حرمونا من وضع النجمة فوق أكتافنا، والتي تُضفي على حاملها الوقار والهيبة، حتى إن بعضهم كان يلبس بِزّته العسكرية آناء الليل، وأطراف النهار، وإذا كان خاطباً يتباهى بارتدائها إلى بيت خطيبته، لتقول الخطيبة لأخواتها وصديقاتها معجبة أيما إعجابٍ بهذا الخطيب الذي يلبس الزِّيّ العسكريّ:
)ييي على البدلة شو عاملتو مهيوب، ولا على النجمة اللي على كتفه ما أحلاها).
وكأن النجمة ساهمت فعلاً في قبول الأهل به خطيباً لابنتهم.
يتابع صديقي : تخيّلْ لو أنّ أحد الرقباء ذهب إلى أهل خطيبته، وتُزينه ثلاث ثمانيات مُتهدّلات إلى الأسفل، (ليشبع مشأعة، وسخرية، هذا إذا ما بطلوا الخطبة، وزتوا له الذهبات والأغراض بوجهه).
ومما يبعث الحزن والأسى، في النفوس أنّ المسؤولين عنا هم المساعدون الذين تفنّنوا، في إخراج عقدِهم من الرُّتب الأعلى، ومن فشلهم في الدراسة.
فلم أدرِ وزملائي سرّ حقدهم الدفين علينا، فلسنا نحن واللهِ مَن أنزلَ الثلاث نجمات، من أعلى أكتافهم لتصبح أدناها.
كان هؤلاء المساعدون عصب العمل في المكان الذي خدمتُ فيه، ومن ضغط العمل، ومن إحساس بعضهم بالدونية، كان يُفرّغ غضبه بالمساكين الرقباء الذين هم تحت أمرته مباشرةً.
يتابع صديقي: أمضيتُ مدّة خدمتي، وبيني وبينهم ما صنع الحدّاد، والفرّان، والجزّار أيضاً.
لم أكنْ لأحتملَ تسلّطهم، ومعاملتهم السيئة، ولم أداهنهم، ولم أدفعْ لهم رشىً، كما فعل بعض زملائي.
في الديوان المركزي مساعد أول مرتشٍ، كان لا يُدخل طلبات الإجازة للعناصر لتوقيعها، من قبل اللواء، إلا بعد أن يقبض المعلوم، من مالٍ، أو من طعام، فكان الذاهب إلى حلب يأتي له بالزعتر الحلبي والصابون، ومَن ييمّم شطر إدلب يجلب معه الزيت والزيتون، ومِن المنطقة الشرقية كان مساعدنا العتيد يتذوّق الجبنة والسمن العربي.
لم ينلْ هذا المساعد مني شيئاً، لذلك حنق علي وحاربني لكيلا أحصل على إجازة، وكنت أتعمّد أن أُسمعه دائماً، أثناء مزاحي مع زملائي الآخرين، بأنه مُرتشٍ، حيث أقول لهم: (واجبنا وزيتوننا(، وكنت ألفظ كلمة واجبنا بطريقةٍ، كأني أقول (جبنة) بوجود حرف العطف قبلها.
يقول صديقي: أخذتُ أتقدّم من أجل الحصول على إجازة، عندما يكون ذلك المساعد غائباً، ويُوافق عليها، ليعلم بها، بعد ذلك، ويزداد غضبه مني .
وذات يوم تقدمت لإجازة، في غيابه، فلم يُدخلوها للتوقيع مع البريد، فسألت عن السبب، فقالوا لي إن المساعد الأول طلب منهم ذلك، لأني أستغل غيابه، وأتقدم بها.
أمّا المساعد الذي كان لي شرفُ أن أعمل تحت أمرته، بشكلٍ مباشر، فكثيراً ما وصلت بنا الأمور، ليشكوني إلى اللواء، لأُستدعَى، وأُهدد بالسجن.
كان هذا المساعد طويلاً، ويبدو أنّ له من اسمه نصيباً وافراً، فاسمه (مدّ الله)، وفعلاً مدّ الله في طوله، ولكن لم يمدّ في سعة أفقه وحلمه، فهو نَزِقٌ، ولا يحتمل أيّ نقاشٍ، ولا يقبل كلامي، إذا قلتُ له: نعمل بهذه الطريقة أسهل، وأوفر وقتاً، فلا يقتنع، ويأمر أن أنفذ دون كلام، وغالباً ما تحتدم الأمور بيننا، حتى إنه قال للواء مرةً بأني أحرّض زملائي، على التمرد وعدم طاعة المساعدين.
يقول صديقي: أعتقد أنه يوم تسريحي فرحَ المساعدون الأوّلون الأشاوس أكثر مني، لأنهم تخلّصوا من رقيب أول أتعبَهم، ولم يهادنْهم يوماً، لذلك عندما قلت لهم: هزلتْ سنصبح زملاءَ، فقد رُفّعتُ إلى رتبة مساعد مثلكم قابلوا كلامي الأخير بابتسامةٍ، وعدم تجهم وغضب".