تتمسك واشنطن بمواقفها حيال الملف السوري رافضة أي تقارب أو انفتاح على النظام في دمشق. كل ما تتساهل فيه هو ”التأكيد للشركاء الإقليميين الذين يتحاورون مع النظام، أن تحسين الوضع الإنساني والأمني للسوريين يجب أن يكون على رأس أولويات التواصل مع دمشق”. "أسمع كلامك يعجبني أنظر إلى أفعالك أتعجب!"
الرد التركي على سياسة واشنطن السورية جاء مرة أخرى وقبل يومين فقط على لسان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو وفي أعقاب لقائه بنظيره المصري سامح شكري في أنقرة قائلا: ”لم يرق لأميركا تواصلنا مع النظام في دمشق. هي تَعتبر ذلك تهديدا لحزب العمال ووحدات الحماية الكردية. روزنامتكم هي فقط دعم هذه المجموعات بهدف تقسيم سوريا”. قد يرى البعض في موقف جاويش أوغلو خطوة باتجاه تفجير أزمة سياسية مع واشنطن. لكنه في الأساس بمثابة إعلان لتخلي تركيا عن السيناريو – الحلم باتجاه تركيب الطاولة الثلاثية التي تجمعها مع واشنطن وموسكو حول الملف السوري. وعن قرار البحث عن البديل عن روسيا وإيران وبعض العواصم العربية والأوروبية.
السلاح القوي للرد حسب واشنطن هو تحريك الورقة الكردية لتفجير علاقات دول الجوار السوري والنافذين الإقليميين هناك
ما سيسرع إضافة كرسي جديد لطاولة موسكو الرباعية هو سياسة واشنطن الجديدة على خط "روجافا – سنجار – السليمانية". القيادات العسكرية الأميركية العليا لم تعد تكتفي بزياراتها التفقدية لهذا المثلث والدفاع عن ”قسد” وشركائها هناك، بل تريد تسهيل انتقال هذه المجموعات تحت حمايتها في هذه البقعة الجغرافية المهمة بالنسبة لواشنطن بهدف موازنة النفوذ الروسي والتركي والإيراني. السلاح القوي للرد حسب واشنطن هو تحريك الورقة الكردية لتفجير علاقات دول الجوار السوري والنافذين الإقليميين هناك. ربما هذا هو السبب الذي يدفع أنقرة للقول إنه علينا العمل معا من أجل خريطة طريق جديدة في سوريا على أساس القرار 2254 لأنه لم يعد هناك خيار آخر. ”إذا كان هناك دول عربية في الخليج إلى جانب مصر وعواصم أوروبية تريد التنسيق فنحن على استعداد للتعاون” كما يردد وزير الخارجية التركي.. فمن الذي سيلتحق بالطاولة الرباعية وهل تبقى المنصة في موسكو أم تتجول بحسب الدول المساهمة فيها؟
القناعة هي أن القاهرة والرياض وأبو ظبي وبكين بين العواصم الأقرب للمشاركة، ولكن بعد تبدد غيوم المشهد حول نتائج اجتماعات القمة العربية والخروج من أجواء الانتخابات التركية. واشنطن لن تتمكن هنا من عرقلة مسار إقليمي جديد في سوريا لأنها تتحمل مسؤولية إهدار أكثر من فرصة سانحة لتسريع المرحلة الانتقالية هناك ولأنها اليوم بين المسؤولين عن الانسداد الحاصل في المشهد السوري.
ما تستطيع أميركا فعله بعد الآن هو إما محاولة تعقيد المشهد أكثر من ذلك للحؤول دون تحقيق أي تقدم أمام طاولة موسكو، عبر تفجير الساحة عسكريا في شرق الفرات، وهو ما لا توفره لها لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة بعد التفريط بالفرصة التي كانت تمتلكها في العام 2011 وما لن يصب في مصلحتها سورياً وإقليمياً. وإما أن تبقى في موقع المتفرج وتكتفي بحماية مصالحها عبر ”قسد” في شمال شرق سوريا. أو أن تبحث عن فرصة لحوار مع موسكو يسرع التفاهمات الثنائية بينهما حول الملف السوري على حساب التحرك الإقليمي الواسع. رهان واشنطن على بناء معادلة جديدة في إطار جغرافيا تهدف لدمج شرق سوريا بشمال العراق سياسيا وأمنيا تحت ذريعة محاربة داعش ولعب الورقة الكردية هناك سيكون أخطر وأفشل السيناريوهات الممكنة نتيجة الاصطفافات الإقليمية الواسعة ضد المشروع، وبعد تجربة أربيل في الاستفتاء عام 2017 وموقف واشنطن نفسها حيال تلك المغامرة.
يقول مولود جاويش أوغلو ”إن بلاده لن تقبل الانسحاب من سوريا في ظل استمرار سيطرة تنظيم ”بي كي كي/ واي بي جي الإرهابي على أراضي شمال شرقي سوريا”. لكن الوزير التركي يبقي أبواب الحوار مفتوحة مع دمشق وهو يردد أن اللقاء الوزاري الرباعي سيكون في مطلع الشهر المقبل ويتوقف عند ”ضرورة الانخراط بالعمل مع نظام الأسد لضمان عودة آمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم”.
قليل هو عدد الذين يراهنون على اختراق سياسي حقيقي تحققه المنصة الرباعية الجديدة التي تقودها روسيا بمشاركة تركيا وإيران والنظام في دمشق، رغم رسائل التفاؤل الروسي التي عبر عنها الوزير سيرغي لافروف ”لا يجب أن تكون هناك شروط مسبقة لاجتماع وزراء الخارجية الرباعي المرتقب والتحضيرات مستمرة لناحية الموعد والمكان والمعايير الواجب وضعها للحوار”.
سبب صعوبة توقع مفاجآت في موسكو هو ليس تصلب أنقرة والنظام في دمشق بمواقفهما ومطالبهما التي تتعارض وتتضارب وتعيق أي تقدم حقيقي في الحوار الثنائي والرباعي في العاصمة الروسية. بل انتظار ما ستسفر عنه المباحثات العربية في جدة ومعرفة كيف سيكون شكل الحوار بين جامعة الدول العربية وبشار الأسد في المرحلة المقبلة أولا. وانجلاء الغموض المتعمد في الموقف الأميركي حيال سيناريوهات المسارات الجديدة المحتملة في ملف الأزمة السورية وسبل تجاوز العقبة الأميركية ثانيا.
يهم أطراف الطاولة الرباعية في موسكو أن تحدث تطورات وتغيرات جذرية في المواقف العربية وطريقة التعامل مع الملف السوري. وقد تكون هي الفرصة الثمينة لصناعة تفاهمات إقليمية جديدة وربما للالتفاف على العرقلة الأميركية. احتمال حدوث اختراق حقيقي بهذا الاتجاه كبير جدا. كما أن تقدما حقيقيا على خط أنقرة – دمشق سيقوي كلا الحراكين ويمنح روسيا فرصة توحيد الفاعلين أمام طاولة أوسع تتجاوز آليات ومنصات أستانة وسوتشي. العديد من اللاعبين يعول على المتغيرات الحاصلة في التعامل مع الملفات الإقليمية والمصالحات والتطبيع والتهدئة والمتطلبات الجديدة لحماية المصالح.
هل سنرى مقاعد إضافية تنضم إلى الطاولة الرباعية في موسكو أم أن الهدف هو نقل الطاولة بأكملها إلى جامعة الدول العربية؟
تدعم أنقرة عودة عربية واسعة إلى المشهد السوري. روسيا أيضا لن تعارض للخروج من حالة الانسداد ولتوسيع رقعة علاقاتها مع العواصم العربية. طهران قد تلتزم بالفرص التي منحت لها عربيا أيضا. بالمقابل هناك تحرك مصري واسع في الآونة الأخيرة على خط أكثر من عاصمة عربية وإقليمية يحظى الملف السوري بالحصة الكبرى فيه. وزير الخارجية المصري، سامح شكري يبلغ المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، بعد أيام من لقائه بوزير خارجية النظام، فيصل المقداد في القاهرة “دعم بلاده الكامل لجهود المبعوث الأممي للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة تتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254″. الإمارات أيضا كانت السباقة في فتح أبواب التواصل مع دمشق ومناقشة الملف مع العديد من العواصم العربية والإقليمية. هل سنرى مقاعد إضافية تنضم إلى الطاولة الرباعية في موسكو أم أن الهدف هو نقل الطاولة بأكملها إلى جامعة الدول العربية؟ وهل من الممكن الرهان على حراك سعودي واسع باتجاه التسوية السياسية في سوريا على طريقة قمة الطائف اللبنانية في العام 1989 التي تذكر بمعادلة ”لا غالب ولا مغلوب” التاريخية والكلاسيكية في النزاعات الأهلية هناك؟ في الحل اللبناني بقي كل لاعب محلي في مكانه تقريبا. لم تتغير التوازنات الحزبية والسياسية كثيرا رغم تغيرها في نظام المحاصصة البرلمانية. في الطرح السوري هناك عراقيل وعقبات كثيرة أبرزها القرارات الأممية الواجب التعامل معها وهي التي تتحدث عن المرحلة الانتقالية في سوريا.
للحديث تتمة طبعا حول خيارات وفرص قوى المعارضة السورية حيال كل هذا الحراك.