الجولاني على لائحة الأولويات أيضا

2024.10.13 | 06:08 دمشق

أبو محمد الجولاني - إنترنت
+A
حجم الخط
-A

طالما أن الحديث يدور بشكل مكثف حول تحولات سياسية وأمنية وديمغرافية واسعة في الإقليم وفي إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، فلا بد أن يكون لسوريا، التي تشهد منذ العام 2011 ثورة على نظامها، حصتها في ذلك أيضًا.
أكثر من لاعب محلي وإقليمي يرصد عن قرب تطورات المشهد في الساحة السورية وما ستحمله معها من تغييرات وتقلبات وسط سيناريوهات إعادة رسم الخرائط وإعادة بناء التحالفات والاصطفافات، وخروج قوى لصالح توغل قوى أخرى.
عادي أن تذكر "هيئة تحرير الشام" نفسها أو أن تعرض خدماتها في هذه المرحلة الصعبة، فليس أمام الهيئة، التي نجحت في العقد الأخير بتبديل لباسها وتموضعها وتحالفاتها المحلية أكثر من مرة، والتي تمكنت من الوقوف على قدميها رغم كل الخضات الأمنية والسياسية المحيطة بها في إدلب وجوارها، سوى أن تقلق وسط سيناريوهات متقلبة فيها كثير من الغموض حول ما ينتظرها. ما الذي سيفعله أبو محمد الجولاني لحماية حصونه الفكرية والعقائدية في بقعة جغرافية صعبة ينتظرها خلط أوراق محلية وإقليمية منفتحة على التفاهم والتفجير معًا، وهو يعرف جيدًا أنه في كلا الحالتين سيخرج متضررًا بسبب أوراقه المحترقة من قبل كل الأطراف؟
ردد بعضهم في الآونة الأخيرة أن الجولاني يستعد لمهاجمة قوات النظام والتمدد باتجاه حلب ومحاولة استردادها، بعد التزامه بهدنة طويلة فرضتها عليه التفاهمات التركية الروسية، وبعد تركيزه على توسيع نفوذه في الجغرافيا المحلية الواقعة تحت سيطرته من دون إغضاب اللاعبين الكبار هناك.
ركائز هذا السيناريو تقوم على أن الجولاني سيشعل هذه الجبهة مع قوات النظام مستفيدًا من الأجواء العسكرية والأمنية التي تساعد على ذلك: طهران منشغلة بهاجس الحرب مع إسرائيل، وهناك أيضًا انسحابات لقوات حزب الله من الجبهات السورية، وانشغال الميليشيات العراقية بما سيجري في الجولان، وورطة روسيا في مستنقع القرم الأوكراني، وتركيز أنقرة على ملف شرقي الفرات.

 

"الوقائع على الأرض، خصوصًا بشقها الإقليمي، تقول إن الوضع لم يعد لصالح الهيئة ولن يمكنها من مواصلة إدارتها لهذه المناطق بالطريقة التي تعتمدها اليوم."


هل بمقدور الهيئة أن تقدم على خطوة بهذا الاتجاه من دون ضوء أخضر تركي؟ ولماذا تقدم أنقرة للجولاني مثل هذه الهدية وهي تفاوض موسكو على مفاوضة النظام في دمشق بعيدًا عن خيارات الحسم العسكري؟ وهل ستترك روسيا الجولاني، الذي تطالب أنقرة منذ سنوات بإسقاط ورقته، أن يتحرك باتجاه عملية عسكرية واسعة من هذا النوع تنسف التوازنات الحساسة القائمة منذ آذار 2020 وحتى اليوم؟ وهل تسمح أنقرة للجولاني بتفجير ساحة حذرة قد تنقلب عليها ميدانيًا من خلال تحريك ورقة اللجوء باتجاه أراضيها من جديد عند اشتعال الجبهات؟
عملية عسكرية سريعة وحاسمة باتجاه شمال شرقي سوريا ومناطق نفوذ قسد هي ما تدعو إليه كثير من الأقلام والأصوات اليوم في الداخل التركي، فلماذا يحرك بعضهم سيناريو إشعال الجولاني لجبهة جديدة مع النظام في المنطقة؟ إما أن تكون تركيا هي من تلوح بورقة الجولاني للضغط على النظام في دمشق لقبول ما تعرضه عليه، أو أن الجولاني يعلن استعداده لمعركة شرقي الفرات وقوفًا بجانب أنقرة إذا ما قررت إعلان ساعة الصفر بشأنها، وهي التي تتحدث يوميًا عن "أرض الميعاد" الإسرائيلية باتجاه الفرات.
أو أن الأخير شعر باقتراب النهاية فقرر البحث عن فرصة تركية – روسية توفر له الخروج بأقل الخسائر والأضرار عند اقتراب السيف الأميركي الذي يطارده في إطار لوائح الإرهاب.
بنت تركيا بالتنسيق مع روسيا قبل 4 سنوات منظومة تفاهمات في إطار خفض التصعيد، والتزم الجولاني بها من دون أن يكون طرفًا فيها. فلماذا يقرر اليوم إشعال جبهات قتالية وهو يتابع الحراك التركي الروسي على خط دمشق، ويعرف أن أولوية أنقرة هي انتظار المتغيرات بشقها الإيراني وحسم موضوع جبهة شمال شرقي سوريا؟
فبركة سيناريو أن الهيئة ستهاجم قوات النظام في شمال غربي سوريا هي محاولة لتلميع صورتها وإبقائها في المشهد السياسي والميداني. هي تعرف جيدًا أن أولويات أنقرة اليوم هي رصد تطورات المشهد في أماكن أخرى، وما سيواكبها من متغيرات عسكرية وسياسية في إطار مخطط تسهيل المشروع الانفصالي لقسد برعاية أميركية ودعم إسرائيلي. لن يتقدم سيناريو أن تبحث أنقرة عن تفاهمات مع روسيا والنظام استعدادًا لمواجهة هذا المخطط، ووسط هذه الظروف، على سيناريو أن تسمح للجولاني بمحاولة قيادة الأمور باتجاه مغاير، إلا إذا كان عثر هو على بدائل مطمئنة وخشبة خلاص في مكان آخر.
راهن الجولاني على عامل الوقت والفرص الأمنية والسياسية التي منحته المزيد من التمدد والنفوذ بسبب الانشقاقات والتفكك السياسي الذي تعيشه فصائل المعارضة السورية في الشمال السوري. وقد تكون أنقرة لا تريد فرض خياراتها ومواقفها على شركائها في سوريا، لكنها لن تسمح بعرقلة تحركها المرتبط بوضع أمني ميداني اقتصادي سياسي يستدعي خطة جديدة بديلة في التعامل مع مسار الملف السوري ككل.
الوقائع على الأرض، خصوصًا بشقها الإقليمي، تقول إن الوضع لم يعد لصالح الهيئة ولن يمكنها من مواصلة إدارتها لهذه المناطق بالطريقة التي تعتمدها اليوم.

تحدثت قيادة الهيئة في أيار العام المنصرم، خلال لقاءات سرمدا، عن خارطة طريق جديدة بعيدًا عن سياسات الأمر الواقع، وفيها خطوات الاعتدال والانفتاح. وتوقف الجولاني أكثر من مرة عند سياسة جديدة على مستوى الخطاب والبنية والسلوك، من أجل تغيير الانطباعات واكتساب الشرعية وطي صفحات الماضي.
هناك محاولات تضميد جراح تقوم بها الهيئة. كما أن رهانها كان باتجاه أن أي تصعيد شعبي ضدها سيتحول إلى مواجهة مكلفة لسكان المنطقة وللاعب التركي الحذر في موضوع اللجوء. لكن المتغيرات الحاصلة تقول إنها ملزمة بتقديم أكثر من ذلك، تنازلات حقيقية تتعلق بفكرها وأيديولوجيتها وطريقتها في الإدارة والحكم.
فكيف ستتركها أنقرة تناور من جديد على خط سيناريو من هذا النوع، يحمل معه كثيرا من الخطورة على سياسة تركيا السورية المعتمدة في العامين الأخيرين، إذ يطالب كثير من الأتراك بتسريع عملية شرقي الفرات لقطع الطريق على كثير من السيناريوهات الإسرائيلية الأميركية؟
المعادلة باختصار تقول إن إسقاط ورقة الجولاني في شمال غربي سوريا من يد من توحدت مصالحهم هناك، سيفتح الطريق أمام إسقاط ورقة أخرى لا تقل أهمية بيد واشنطن وتل أبيب في شرقي الفرات.
قد يكون الجولاني على قناعة بأن لا نوايا تركية للدخول في أي مواجهة حسم مع قواته، لكن الذي يقلقه هو احتمال حدوث تفاهمات باتجاه تبادل مواقع في شمالي سوريا تنهي وجوده ونفوذه هناك.
الجولاني يعرف أكثر من غيره أنه هو الذي سيدفع الثمن، لأن المتغيرات القادمة لا تمنحه المزيد من الثقل والفرص، إلى جانب استحالة القبول الإقليمي والدولي به على ما هو عليه اليوم. هو يحتاج إلى لباس جديد مغاير تمامًا، كما ستحاول العديد من القوى المحلية في سوريا ولبنان والعراق فعله. فهل يملك الوقت الكافي لذلك؟