في أعقاب الأحداث العنصرية الأخيرة التي تعرض لها اللاجئون السوريون في تركيا، وفي ذكرى مجزرة الكيماوي سادت جدالات واسعة وتقييمات لأخطاء الثورة السورية وقدرتها على تأمين جبهتها الداخلية، وصيانة حقوق اللاجئين السوريين ووضع حد لتردي أوضاعهم.
في ظل حكم الأسد الأب والابن سادت الأوساط حالة من الإعراض عن تقييم العمل السياسي، كذلك سادت حالة من الانكفاء عن تقييم أخطاء النظام، وذلك لغياب الحياة الديمقراطية وانتشار القمع والاستبداد، بعد بدء الثورة استمر الأمر على نحو ما في أوساط المعارضة، واتسمت شخصياتها السياسية والإعلامية بحالة من عدم مواجهة الأخطاء التي وقعت بها، ومالت الأوساط كلها لتحميل جماعات الإسلام السياسي جل المسؤولية عن الإخفاقات السياسية المتكررة، لعدة أسباب يقف على رأسها سعي جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة على المجلس الوطني السوري.
صفوف المعارضة من كل التيارات عانت خلال عملها السياسي من ميراث الثقافة السياسية السائدة في سوريا لما يزيد عن نصف القرن
نتيجة لغياب المراجعات النقدية السليمة والخالية من الانحيازات والتنكر للمسؤوليات في أوساط المعارضة كافة، وبسبب الجنوح لتحميل طرف المسؤولية وتوجيه الاتهامات كلها له، عوضاً عن المراجعات النقدية التي تنطلق من تجاوز الأخطاء وتبادل الاتهامات لرسم الاستراتيجيات التي تعتمد على التعلم من الأخطاء في الممارسة السياسية، غاب عن تلك الأطراف أهمية العمل السياسي المشترك في وسط سوري يتسم بالتنوع الديني والطائفي والفكري.
المراقب لتلك الجدالات وتراشق الاتهامات، يستطيع أن يصل لاستنتاج مفاده أن صفوف المعارضة من كل التيارات عانت خلال عملها السياسي من ميراث الثقافة السياسية السائدة في سوريا لما يزيد عن نصف القرن، تلك البيئة السياسية التي لا تراجع أخطاء القائد السياسي الذي صورته الثقافة السياسية على أنه لا يخطئ، وبأن انتقاده يعني نيلاً شخصياً منه، بالإضافة لتشكيل نتائج مشاركة الإخوان المسلمين وانخراطهم في العمل السياسي مصدر صدمة لأوساط كثيرة حيث حسب الثقافة السياسية الشعبية فإن تلك الشخصيات الإسلاموية لا تخطئ وأنهم مصدر تشريع أخلاقي وديني وبذلك يتم استثنائهم من التقييمات والمراجعات النقدية.
هذه الحالة تجاوزت جماعة الإخوان المسلمين واتسمت بها تيارات سياسية مختلفة أي أنها حالة سياسية عامة تعبر عن ميراث ثقافي سياسي لا يمكن التخلص منه دون وعي بخطورة تفشيه في صفوف المعارضة، ودون وعي بعدم قدرة المعارضة على تحقيق أهدافها الثورية وهي تسيطر عليها الثقافة السياسية نفسها التي لا تحترم ضرورة العمل البيني المشترك بين السوريين المختلفين من كل الأطياف.
أيضاً المعارض السوري هو عامل متأثر بالخراب الكبير الذي يشهده وطنه، وانتشار أنماط النزاع المختلفة وشيوع الخلافات بين المعارضة على أسس نبذتها الثورة السورية مثل الأسس العقائدية والدينية والطائفية والمناطقية، أمر أحبط جزءا كبيرا من مجهودات المعارضة، فعندما غاب الالتزام بمبادئ العمل الوطني والشراكة السياسية واحترام القيم الإنسانية الجمعية لكل الأطراف السورية، حلت محلها الولاءات الضيقة للحزب والجماعة والعشيرة، وهذه معضلة عانت منها كل التيارات السياسية السورية على اختلاف مشاربها الفكرية والعقائدية، هذه الأزمة التي عانت منها التيارات السياسية المعارضة انعكست على سلوكها السياسي حيث فقدت غالبا المبادرة لتقديم الحلول السياسية وأحالت الأمر للقوى العسكرية التي هي تعاني من أزمة التجاذبات الإقليمية التي وظفتها في مناسبات كثيرة لصالح حسم صراعاتها في حين حافظت على إدارة الصراع السوري دون أن تقدم حلول جدية لإنهائه.
المعارضة السورية مطلوب منها خطاب وطني جامع لا يقصي أحداً ويخاطب الموالاة كما يخاطب صفوف المعارضة
من جملة ما تحتاج إليه تيارات المعارضة السورية إدراك ضرورة توجيه خطاب للسوريين الذين يعيشون تحت سيطرة النظام الديكتاتوري، فهؤلاء الذين اختاروا صف النظام لتفضيلهم حفظ الأمن العام على العدالة والكرامة السورية خسروا الأمرين معاً في مناطق النظام، فهم يعيشون اضطهاداً مزدوجاً، اضطهاد تمارسه عليهم أجهزة الدولة الديكتاتورية العميقة، واضطهاد أنفسهم لأنفسهم، ولا يوجد أدل على ذلك ممن خرجوا للحديث عن سوء الأوضاع في مناطق النظام ثم عادوا للاعتذار والتراجع عن ذلك، والمعارضة السورية مطلوب منها خطاب وطني جامع لا يقصي أحداً ويخاطب الموالاة كما يخاطب صفوف المعارضة، خاصة أن سوء الأوضاع الداخلية في مناطق النظام، سيكون عاملا مساعد في تحقيق خطاب الثورة لأهدافه، وعدم حدوث قطيعة بين المعارضة والشعب السوري في كل أماكن وجوده.
انطلاق المعارضة السورية من بدهية أن مواجهة النظام الديكتاتوري تحتاج لتشكيل تيار سياسي معارض موحد وقوي وجامع للكل السوري، هو ما سيضمن نجاح مجهودات المعارضة وتوحيدها كلمتها السياسية في مواجهة المجتمع الدولي الذي تلعب أطرافه التي استضافت الحوار السوري السوري على حبل التناقضات السورية الداخلية في داخل المعارضة نفسها، فمواجهة الإحباطات الداخلية والخارجية التي تعترض عمل المعارضة وتشتت مجهوداتها، يكون عبر إعطاء الأولوية للحقوق المدنية ونبذ الانقسامات والتركيز على المشتركات السياسية وتغييب عوامل الانقسام الديني والطائفي والمناطقي.
خلال السنوات الماضية أثبتت المعارضة السورية مرونة عالية في الجلوس مع دول الخارج على طاولة الحوار، تلك الدول التي ساهمت في تعميق مأساة السوريين، وإدارة الصراع الداخلي وإعاقة الحلول التي تحسم الصراع لصالح السوريين وحقوقهم وثورتهم، وتلك المرونة التي تقابل بها تيارات المعارضة الأطراف الخارجية منفردة، في حال سيطرت على حوارات المعارضة السورية الداخلية البينية فإنها ستذلل كثيرا من التناقضات والخلافات البينية، وستحولها لقوة سياسية تستطيع أن تملي شروطها على المجتمع الدولي وتحقق نوعا من توازن القوى المعقول في جولات المفاوضات والحوار السوري.
بعد كل ما عاناه ويعانيه اللاجئ السوري في أماكن وجوده، أصبح هنالك سؤال ملح عن ضرورة وجود جسم سوري موحد يعالج مشكلاتهم ويكون قادرا على تحريك مؤسسات المجتمع الدولي من أجل تقديم الحلول العادلة لهم في أماكن وجودهم، ويكون قادراً أيضاً على دعمهم في مجتمعاتهم، ومساعدتهم في تحصيلهم حقوقهم الإنسانية والمدنية، وهذا أمرٌ يلح في سبيل إنهاء السباقات التنافسية على السلطة والزعامات، وتحقيق أهداف الثورة السورية بتحرير سوريا من عبث اللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين لإنهاء محنة صناعة لاجئين جدد.