"تضايقني في الأفلام العربية السّخرية المبتذلة من العوانس والبدينين، يُظهرون العانس امرأة تعوي طولَ اليوم من أجل الرجال، والبدين خنزيرٌ لا يكفّ عن الأكل. مشاعرُ المرأة مقدّسة لا يجبُ أن تُعرَض بهذه الفجاجة، وليتهم جرّبوا عذاب البدين العاجز عن فقدان الوزن لحظة، الباقي أن يسخروا من واحد محروق أو مبتور القدم" (الأديب الرّاحل أحمد خالد توفيق).
-
تحرير المفاهيم
الكاريكاتير "Caricature" هو فنٌّ ساخر من فنون الرسم، يقوم من خلالها الفنّان برسمِ صورةٍ يبالغُ فيها بتحريف الملامح الطّبيعية لشخصٍ أو جسمٍ ما وإظهار ميّزاته النّفسيّة والفكريّة وإبرازها من خلال الرّسم.
وهو من أقوى أسلحة السّخرية والنقد بمختلف مجالاته الاجتماعي والسياسي والفنّي، وقدرته على النّقد وإيصال الرّسائل العميقة تفوق المقالات الطّوال في أحيان كثيرة.
أمّا البورتريه "بالفرنسية: Portrait": فكلمة فرنسية، تعني فنّ رسم الأشخاص مع إظهار المشاعر في ملامح الوجه وتعبيراته، وذلك من وجهة نظر الرّسام.
ويعدُّ فن البورتريه أحد أنواع الرسم التي ينظر إليها الفنّانون على أنّها معقّدة؛ لاعتمادها على تقديم الشّخصية عبر ملامح الوجه.
وهذه الفنون تعدّ من أكثر الفنون السّاخرة انتشارًا فلا تكاد تخلو منها صحيفةٌ أو موقع إعلاميّ، كما تزخر بها وسائل التّواصل الاجتماعيّ.
-
الانتقاد اللّاذع البريء والمداعبة السّاخرة
قد تُستخدم هذه الرّسومات في إطار الانتقاد اللّاذع أو المداعبة أو الملاطفة أو المماحكة البريئة دون أن يُقصَد منها التّحطيم والاغتيال المعنوي أو الافتراء المهين أو الإذلال أو الذّمّ.
وذلك من خلال تقديم فواصل مضحكة أو صور بورتريه أو لوحة كاريكاتير أو غير ذلك من العبارات السّاخرة التي يراد منها إيصال رسالة ناقدة لكنها لا تصل إلى حدّ الإساءة وقد يكون الهدف منها المداعبة السّاخرة أو انتقاده بطريقة لاذعة ليس إلّا.
وهذا المقصد يؤثّر بلا شكّ في حكم هذه الرّسومات فيخرجها من دائرة السّخرية المذمومة إلى دائرة الانتقاد المأذون فيه والتّصوير المشروع.
وقد أفتى العلّامة مصطفى الزّرقا رحمه الله تعالى بجواز هذه الصّورة فقال:
"لا شكّ أن التصوير الكاريكاتوريّ الشائع في الجرائد والمجلات، وفي الصّحافة بوجه عام هو فنٌّ خاص ليس مُرادفًا للسّخرية، ولو أنّ بعض الصّحفيين يُسمِّيه الصّحافةَ السّاخِرة.
ذلك أن فنَّ الرّسم الكاريكاتوري يقوم على أساس تَضخيم بعض الخَصائص في خِلقة الشّخص وهيئته للدّلالة على شخصه بصورة فيها شيء من الهَزل.
وربَّما لا يقصد بها معنى الإيذاء، بل مجرّد تعبير هزلي ـ والهَزْل غير السُّخْرية ـ فإنّ السُّخْرية تُوحي بالذَّمِّ بينما الهزل لا يُوحي بأي ذمِّ، ولكن يُراد به الفُكاهة في التّعبير، مثل المِزاح بين الأصدقاء. فالكاريكاتور التصويريّ يُستعمل في حالات التعبير بوجه عام للدلالة على الشّخص بالصورة التي تُجَسِّم بعض خصائص هيئته وطبيعته.
فلا يأخذ الكاريكاتور حكم السُّخرية، ولا سيّما إذا أصبح مألوفًا في الصّحافة كما عليه حاله اليوم في التّصوير التّعبيري، لكن قد يكون الكاريكاتور في بعض الحالات والقرائن دالّاً على معنى السُّخْرية والطَّعن والذَّمِّ فيأخذ عندئذٍ حكمَها".
-
كيفَ نضبطُ هذا الحكم؟
ولأنّ هذه القضيّة من الحساسيّة بمكان فكان لا بدّ من ضبطها بضابط شرعيّ واضح، حتّى لا يقع الرسّام في الشّطط أو التّجاوز، وقد بيّنه العلّامة الزّرقا رحمه الله تعالى:
"نخلُص من ذلك إلى أن السُّخْرية الحقيقيّة هي دائمًا أسلوب مَمقوت بالنظر الشرعيّ الإسلاميّ لا ينبغي للمُسلم أن يَلجأ إليه في سلوكه التّعبيري.
أما الكاريكاتور التّصويري الهازِل فلا بأسَ به بحسب المَقصود به كما أوضحت، إذا لم تدُلّ القرائنُ على أن المُراد به السخرية والاستهزاء، وإنما هو مُجرّد تعبير هزلي للفُكاهة لا غير".
-
خلاصة الحكم الشّرعيّ
فخلاصة ما تقدّم من حكم الرّسوم السّاخرة وضابطها هو:
أولًا: الكاريكاتير والبورتريه والرّسوم السّاخرة جائزة ما لم يكن القصد فيها السّخرية والذّم والتحطيم النّفسي والاغتيال المعنويّ بل كان القصد الانتقاد اللّاذع دون إيذاء أو المداعبة والملاطفة السّاخرة.
ثانيًا: الكاريكاتير والبورتريه والرّسوم السّاخرة جائزةٌ إذا كانت بقصد السّخرية والتّحطيم النّفسيّ لعدّو واضح صريحٍ محتلّ أو طاغيةٍ مستبدّ أو أعوانهم.
ثالثًا: الكاريكاتير والبورتريه والرّسوم السّاخرة محرّمةٌ إذا كان القصد منها التّحطيم النّفسيّ أو الاغتيال المعنويّ لأيّ شخصٍ أو كيان لا يعدّ عدوًّا صريحًا فلا هو محتلّ ولا طاغيةٌ مستبدّ ولا هو من أعوانهم.
رابعًا: الكاريكاتير والبورتريه والرّسوم السّاخرة محرّمةٌ إذا كانت سخريةً من الشّكل والجسم سواءٌ في ذلك كون المسخور منه عدوًّا صريحًا أم غير ذلك من سائر النّاس والكيانات.
فلا بدّ من تحقق هذه الضّوابط حتّى لا تكون هذه الفنون سببًا في إحداث شروخٍ مجتمعيّةٍ، ولتحقيق الرّساليّة المرجوّة من ريشة الفنّان في هذا الزّمن الذي نحتاج فيه كلّ قلمٍ وريشةٍ وخيالٍ جامح لخدمة الإنسان وتطلّعاته إلى الحريّة والعدالة والكرامة.