قدمت فرقة "كون" عرضها المسرحي الذي يحمل عنوان "الأشجار ترقص أحياناً" بالنص التالي: "عرض أدائي موقعي، يشارك فيه موسيقيون/يات مؤدون/يات، يحملون أشجارهم على ظهورهم، لتصبح الشجرة الغرض البديل عن الهوية، برمزيتها الجذور، الخلق، لنشكل جوقة، تمشي في شوارع مدن التهمها الموت/ الحروب/ لننبش في ذواكرها لنوثقها ونكشف عنها، ولنحكي عن الإنسان الذي يعيشها. مشروعنا يهدف إلى استعادة مساحتنا العامة في الشارع، لمواجهة واقع سياسي قاسٍ وعنيف ويبدو غير قابل للتغير".
المدينة والذاكرة والخراب في مشاهد مسرحية
تتعدد المفاهيم التي تشكل محاور سردية في العرض المسرحي "الأشجار ترقص أحيانا" ومنها البيئة والمدينة والذاكرة وحرية التعبير والقمع.
وتتنوع الوسائط الفنية المستعملة في العرض من الأداء الحركي، إلى الأداء الموسيقي والغنائي، إلى التمثيل المسرحي. أما على مستوى النص المسرحي فهو يتضمن أنواع القصيدة، المونولوج، المشهد المسرحي، والأغاني.
تشكل الشجرة، بأبعادها من الغابة إلى النبتة وصولاً إلى البيئة، عنصراً أساسياً ومحورياً في انطلاق الأفكار التأليفية في العرض المسرحي. علاقة الأشجار بالحكايات، علاقة الأشجار بالمدن، وكذلك علاقة الأشجار بالذاكرة، وأخيراً علاقتها بالحركة والرقص والتعبير، وهو المضمون الذي يحمله عنوان العرض (الأشجار ترقص أيضاً).
يكتب أعضاء الفرقة: "سنمشي بالأشجار في الشوارع، سنصعد السيارات، سنرسم بظلال الأشجار على جدران الباطون المسلح، سنجعل الظل أكبر من الحائط. سنشعل الأشجار بالنار ونرقص بها، طالما أقدامنا في الطين والماء لن نحترق، سنرقص والدخان فوق رؤوسنا، لن نركض، بل سنضحك، ونتحرك ببطء، بعد احتراق الأشجار سنحول جذوعها إلى رماح، وسنطعن بعضنا البعض، كأننا ثور وفارس، نحن القاتل والقتيل، أحذية الموتى تائهة في مدن الموت، الموتى لا يلبسون الأحذية، فلا حاجة لهم للهروب". وستشكل الأحذية غرضاً أساسياً في السردية المسرحية للمشهد الثاني.
المعرفة وعدم المعرفة واستلاب الجماهير
في المشهد الأول تضج خشبة المسرح بالأداء الاستعراضي، ويتحول الحدث إلى ما يشبه عروض السيرك، حيث الساحر (تمثيل مكسيم أبو دياب) يبهر أعضاء الفرقة المرافقين/ات له، وكذلك الجمهور المتلقي بأداءات لعبية يجريها على تفاحة، فبين طرف المسرح والآخر يستطيع الساحر أن يخفي التفاحة أو يعيدها، وكذلك أن يقسمها إلى أقسام ويعيد تركيبها. كل ذلك يبهر أعضاء الفرقة المسرحية المرافقة له، والذين واللواتي سيتحولون/ن إلى أتباع مستلبين إلى قواه السحرية.
المدخل السردي الأول يجمع بين مرجعيات السحر في العروض المسرحية والاستعراضية، ومرجعيات القوى السحرية في الأدب حيث الاستلاب الذي سيتحول موضوعة أساسية في العرض الذي سيفتح احتمالاته السردية على العلاقة بين السلطة والفرد. فالسلطة تتشكل حين يأمر الساحر أعضاء الفرقة المسرحية بارتداء الملابس البيضاء الموحدة، في إشارة إلى ملابس العزل للأطقم الطبية في أثناء فترة الحجر الصحي في "أزمة كورونا" ليصبحوا قوة قمع يمارس الساحر من خلالها سلطته على المقول، المُغنى، المٌلقى، وحتى على الحدث على الخشبة المسرحية.
جدليات أساسية سيشكلها المشهد الثاني لتصبح كبنية أساسية تتكرر في المشاهد الأخرى في المسرحية. يروي المشهد حكاية امرأة (تمثيل آبيغيل كارول) تعتني بأصص الزهر وتضعها في حذائها لتدور في المكان المسرحي وتغني أغنية من التراث المكسيكي Des Coloros تتغنى بالألوان والأزهار. لكن الفرقة ما تلبث أن تلتف حول الإمرأة وتحاول رويداً رويداً أن تمنعها من الغناء، تضع الأحذية على كامل جسدها لتمنعها من الحركة، ومن توضع الأحذية في فمها حين تصر على مواصلة الغناء، ومع بلوغ المشهد ذروته في حركة جدلية بين محاولة التعبير في الغناء للألوان والزهور، وفي قمع التعبير بالأحذية والإسكات، تستبدل المجموعة الموسومة باللباس الأبيض وبالسلطة، حذاء الامرأة بالحذاء البسطار العسكري، وتضع بجلاً من الزهور نباتاً من الصبار يتمركز فوق جسد المرأة في التعبير عن سحق إرادتها. إنه التحول بين الحذاء الفردي الخاص المليء بالزهور والألوان، والحذاء العسكري البسطار المنصوب بداخله نبات الصبار، يحمل المعنى في جدليات عدة يناقشها المشهد: البيئة الألوان والهزور والصبار، محاولة التعبير الغناء-قمع الغناء، وجدلية السلطة والفرد حيث الجماعة المستلبة لسلطة الساحر تقمع الفردية التي تحمل أبعاداً نسوية، حين تنطلق الشخصية الامرأة بمونولوجها إلى الجمهور. تشتم الشخصية النظام البطريركي، والقمع الذكوري الممارس على المرأة، في حياتها الخاصة، في جسدها، في خياراتها، لكنها تتابع تالياً لتربط الأمر بالواقع السياسي، وخصوصاً في لبنان، حيث تتحدث عن انفجار مرفأ بيروت، بينما تغرق السلطة في التضييق على حقوق المرأة.
ذاكرة العنف والخراب تمتد بين تواريخ المدن:
هذا الربط بين الحكاية المسرحية والواقع السياسي أو الاجتماعي يتحقق مجدداً مع المشهد الثالث. تقف امرأة (تمثيل رومي ملحم) في وسط المسرح وذلك لتلقي أجزءاً من قصيدة (العمى، للشاعر الياباني شنكيشي توغي) التي كتبها في رثاء مدينة هيروشيما اليابانية بعد تعرضها لانفجار القنبلة النووية. لتبرز المدينة كتيمة أساسية تتشكل من خلال العرض. تكتب الفرقة في النص التعريفي بالعرض: "نحن شهود على تحول مدننا، وكأن دمشق وبيروت أصبحن هيروشيما، إما بانفجار يأكل نصف مدينة، أو بقنابل تسقط من السماء، أو بخنقها بكتل إسمنتية، المدينة أصبحت جثة ونحن من نغسلها وننظفها". وكما هي بنية الحدث المسرحي في المشهد السابق، فإن محاولة التعبير وإلقاء القصيدة التي تقوم بها الشخصية المرأة تتعرض للقمع، وبينما تدعي المجموعة محاولة مساعدتها في الألقاء، لإيصال صوتها إلى الجمهور، فإذا بهم يقمعون قدرتها على النطق والكلام، يرشون على جسدها المعقمات، يخنقون فمها بالأغراض، ويمنعون صوتها رويداً رويداً من الاستمرار. وبناءً على الإسقاطات الواقعة بين هيروشيما وبيروت ودمشق، يمكن قراءة التقاطعات المختارة من قصيدة العمى اليابانية:
"من تحت الأنقاض
من مستشفى التوليد المنهار على ضفاف النهر
الرجال الذين كانوا يساعدون زوجاتهم
الآن يجرّون أذرعهم, أرجلهم
ويجتمعون حول البارجة عند الحائط الحجري
البارجة على الشاطئ
مطلية بالشرارات
في عتمة الزجاج الذي يهاجم الصدور والوجوه
والعميان، الهاربين من الحرارة
يتلمّسون طريقهم نزولاً إلى مجرى النهر
وبتلمّسهم أرجل
يفقدون توازنهم في الوحل
هيروشيما تحترق مقفرة
تحترق وتنهار
عند ارتفاع المد المسائي"
يختار الشاعر الياباني “TŌGE Sankichi” بقصيدته "العمى" (Blindess) لحظة انفجار قنبلة هوروشيما، أن يصف التحول الذي يحدث على المدينة والبشر، وكأنه يمسك كاميرا ويروي لنا مايراه ولكن ببطء شديد، يجعلنا نركز بتمعن وشاعرية على قباحة العنف وهشاشة الإنسان، وهذا ما كرره ضحايا مدن أخرى كما هو الحال في دمشق وبيروت:
"المد يقترب من مجرى النهر
ويصل إلى الامتلاء
الأذرع غارقة، والأرجل غارقة
ومياه البحر تتسرب إلى جروح لا يحصى لها
للّذين لا يتحركون
في ظلام الوعي المتردد
أعصاب تلتمس لأشياء قد فُقِدت
تتصادم مع الستار المتفجر لذلك الانهيار
ومرة أخرى
تحترق حتّى الانطفاء
الغرائز التي مرت عبر ذلك الانهيار الهائل
تتمزق إلى أشلاء مع طفو الأذرع والأرجل
وفي العارضات المتفحمة التي تتساقط في النهر
خفق الما بعد من صور الحياة".
الزمن والذاكرة بين المدن والمنافي
تجمع قصيدة الأديب الألماني (بروتولد بريخت) بعنوان (تأملات حول مدة المنفى) مجموعة من العناصر التي تتقاطع مع العناصر الأساسية في العرض المسرحي مما يجعلها ركيزة سردية في المشهد الرابع. يظهر الشخصية الشاب-الرجل (تمثيل حسام دلال) مع حقيبة سفر في منتصف المسرح. تتركز في الغرض المسرحي، الحقيبة، موضوعة العلاقة مع المكان، سواءً تلك العلاقة الزمنية المرتبطة مع المكان في قصيدة وتجربة المنفى، أو تلك العلاقة الفيزيائية حيث تنحصر حدود الشخصية في المشهد المسرحي بمساحة الحقيبة، وتؤدي الشخصية مونولوجها وكل أفعالها وهي داخل الحقيبة. ويرمز المشهد إلى علاقة النازحين، اللاجئين، والمنفيين مع المكان:
"لاتدق مسماراً في الجدار
اكتف بإلقاء معطفك فوق الكرسي
لماذا تجهِّز لأربعة أيام
غداً ستعود إلى الوطن
دع الشجيرة دون ري
لماذا تزرع شجرةً الآن؟
قبل أن تبلغ ارتفاع العتبة
سترحل من هنا مبتهجاً
اجذب قلنسوتك فوق عينيك حين يمر الناس
ما فائدة التقليب في صفحات قواعد لغة أجنبية؟
الرسالة التي تستدعيك إلى الوطن
مكتوبة بلغةٍ معروفة".
وبذلك يشكل المشهد الرابع استمرارية مع موضوعات المدينة والذاكرة، تغيير المكان والزمن. فيتوقف المشهد عن العلاقة بين المدينة والزمن، في تجربة المنفى، على أمل العودة إلى الوطن، وبينما يتحرك الوقت والزمن في القصيدة يستمر المنفي في حال الثبات في العلاقة مع الذاكرة وأمكنة الماضي. تصرح الفرقة: "ثيمة التحول والزمن والعنف الذي يمارس علينا ومدننا، هو ما نريد أن نقف عنده ونحلله". بينما تتابع قصيدة بريخت:
"كما يتساقط الجير من السقف
(لاتفعل شيئاً لتوقفه!)
سيتهاوى حاجز العنف
المقام على الحدود
ليمنع العدالة
أنظر إلى المسمار الذي دققته في الجدار:
متى تظنك ستعود؟
أتود معرفة ماتقوله أعمق أعماقك
يوماً بعد يوم
تجلس في غرفتك، وتكتب
أتود معرفة رأيك في عملك
أنظر إلى شجيرة القسطل في ركن الفناء
اليوم حملت إليها دلوَ ماء كامل".
ابتكارات الفنون والنضال في تاريخ القمع
تنطوي المشاهد الثلاثة الأساسية التي تشكل متن العرض المسرحي، على محاولة تعبير من الفرد ومساعي للقمع من الجماعة. لكن دراماتورجيا العرض، تصر على أن يكون هناك حالة من النضال من قبل الشخصيات المسرحية إزاء القمع الممارس عليها، فالشخصية المرأة في الحكاية الأولى تستمر في الغناء رغم محاولات إسكاتها وتطلق مونولوجها في نهاية المشهد، والشخصية المرأة في الحكاية الثانية تصر على أن تلقي قصيدتها وأن توجه رسالتها إلى الجمهور، والشخصية الرجل في الحكاية الثالثة يناضل حى اللحظات الأخيرة للحفاظ على قدرته في المقاومة ومتابعة المشهد حتى لحظاته الأخيرة حيث ينتفض قبل الموت بلحظات، ويؤدي فعل تمرد أخير، قبل أن يرحل من المشهد. يوضح المخرج (أسامة حلال) الفكرة: "إن تحقيق عروض مسرحية هو نضال، وكتابة الأغاني والموسيقا هي كلها أفعال نضالية تقوم بها الشخصيات المسرحية، ونقوم بها نحن في الحياة الواقعية".