تقيم ابنتي في أوروبا منذ عام 2011، خلال هذه المدة تنقلت بين عدة مدن أوروبية، كان مقياس جمال المدينة عندها هو عدد المطاعم السورية، كلما ازداد عدد المطاعم والمحال التي تقدم وتبيع المأكولات والحلويات السورية، ازدادت محبتها للمدينة؛ نحن عائلة نحب الطعام ونحب (مشاوير) المطاعم ونحب تذوق الأطعمة الجديدة كي نتمكن من القول بكل صدق: إن المائدة السورية لا يعلى عليها، وإن المطبخ السوري به من التنوع ما يجعله في مقدمة المطابخ العالمية، نقول هذا ونحن واثقون ونتحدث بفخر عن المطاعم السورية التي كنا نعرفها في دمشق وحلب، المدينتان المتنافستان دائما علي جودة ونوعية وتنوع وطعم الأكل فيهما، واللتان تقسمان السوريين بين عاشق للمطبخ الحلبي وآخر مغرم بالمطبخ الشامي (الدمشقي)، بينما قلة هم الذين ينتبهون إلى الطعام في باقي الجغرافيا السورية، حيث للمطبخ في تلك المناطق خصوصية البيئة وسماحة الامتداد نحو الدول المجاورة، إذ تمتد مائدة البادية والجزيرة باتجاه العراق، ويكاد مطبخ سهل حوران وجبل العرب أن يلامس مثيله في الأردن وفلسطين، أما مطبخ الساحل السوري ووسط سوريا فيقترب كثيرا من لبنان حتى يبدو المطبخان كأنهما توأمان، كذلك إدلب وريفها مع تركيا. هذا التنوع الاستثنائي والنادر كان يمكن اكتشافه كاملا في مطاعم قليلة في دمشق، لكنها كانت مطاعم خاصة بالنخبة التي لم تكن تهتم بالفاتورة النهائية بعد وجبة غداء أو عشاء فاخرة. أما نحن، من لا ننتمي إلى تلك النخب، فكنا نكتشفها في بيوت بعضنا البعض، حيث لا فواتير تدفع سوى فاتورة المحبة والونس والصحبة التي لطالما كان عزائم البيوت دليلا عليها.
إنني أؤمن أن محبتك لمكان ما تبدأ حين تحب ثقافته، والطعام جزء أساسي من ثقافة أي مجتمع
ها أنا أبدأ النص بالحديث عن ابنتي ثم أنساها وأنا أتفاخر بطعامنا السوري. لكن ذكري لها ليس عبثا، فهو في صلب الحديث عن الطعام والمطبخ السوري؛ في العام الماضي أتيح لابنتي أن تزور مصر، حيث أقيم منذ عام 2012، لأول مرة في حياتها، كانت مثل كثير من السوريين والعرب متوجسة من الطعام المصري الذي لا يشبه السوري بشيء، لكن ذلك التوجس بدده إدراكها أنني سوف أطبخ لها يوميا ما تشتهي، كما أنها كانت قد سمعت عن كثرة المطاعم السورية في أرض الكنانة. لا سيما المطاعم التي تقدم الأكل الحلبي وتلك التي تقدم الشاورما والمشويات. لكن ابنتي التي تحب من السياحة تلك التي تتعلق بالطعام، قررت أن تكتشف بنفسها لماذا لا يحظى الطعام المصري بسمعة جيدة على غرار السوري، فكنت دليلتها الأولى إلى اكتشاف الطعام المصري، اصطحبتها إلى مطاعم مصرية أعرفها وأثق بنوعيتها (هي ليست مطاعم فاخرة بالمناسبة) وبدأت بتذوق نكهات من الأطعمة لم تعتد عليها، وانتبهت أنها أبدت إعجابها بما أكلت؛ سررت بالنتيجة، أعترف لكم، ذلك أنني أؤمن أن محبتك لمكان ما تبدأ حين تحب ثقافته، والطعام جزء أساسي من ثقافة أي مجتمع، وكنت أريد لابنتي أن تحب مصر كما أحبها أنا؛ لكن ابنتي سبقتني بأشواط فما احتجته إلى سنوات لاكتشافه في ثقافة المطبخ المصري استطاعت هي اكتشافه خلال أشهر قليلة، عرفت خلالها مطاعم وسط البلد القديمة، تلك التي يعود تاريخ وجودها إلى ما قبل عام 1900، ومستمرة عبر أجيال العائلة المؤسسة؛ اكتشفت أيضا تنوعا لم أعرفه أنا، واكتشفت أسباب الفروقات بين المطبخين المصري والسوري، أو المصري والشامي (نسبة إلى بلاد الشام)، وكانت تسجل علي صفحتها على الفيسبوك يومياتها مع الطعام المصري، حتى كتبت يوما منشورا فيه مديح عظيم بهذا الطعام معتبرة إياه لا يقل أهمية ولا (طيابة) عن المطبخ السوري، وهو ما أثار حفيظة كثير من السوريين ممن أظهروا دهشتهم من تلك المقارنة أو ممن أظهروا غضبا شديدا منها، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى إرسال شتائم لها ولي ولكل سلالتنا على صندوق بريد الفيسبوك، كما لو أنها، وأنا معها، ارتكبنا إثما عظيما في حق سوريا والسوريين.
أكثر ما برع به السوريون في تغريبتهم الحالية في بلاد اللجوء والمجتمعات الجديدة هو الطبخ، ففي أي مكان حل به سوريون يمكنك أن تجد مطعما سوريا أو محل سمانة سورية تبيع منتجات سورية لا تتوافر عادة في تلك المجتمعات، وغالبا ما تكون تلك المطاعم والمحال ذات مستوى من الوسط إلى الجيد والممتاز، نادرا ما أسس السوريون مطعما فاشلا في أوطانهم الجديدة، وغالبا ما تستقطب مطاعمهم ومحالهم سكان البلد من مختلف جنسياتهم وليس السوريين أو العرب فقط، ما جعل الطعام السوري مشهورا على مستوى العالم حقا؛ وحده الطعام دون غيره من مفردات الثقافة المجتمعية السورية، لم تقض عليه حرب العقد الماضي، ووحده لم يختلف عليه السوريون، ووحده لم يكن حوله مؤيدون ومعارضون؛ تحول الطعام السوري إلى هوية موحدة وجامعة لكل السوريين في الوقت الذي يعاني فيه السوريون من تشتت هوياتي وفقد للانتماء الواحد لصالح التشرذم والتفرقة والانقسام والتحزب والاستقطاب؛ تحول الطعام السوري خلال السنوات العشر الماضية إلي وطن في الوقت الذي لم يعد هناك وطن يلم السوريين، وتحول إلى قضية في الوقت الذي اختفت فيه القضية التي توحد السوريين. لهذا سوف تثور ثائرة السوريين إذا ما مس أحد الرابط الوحيد المتبقي بينهم، سوف يعتبرون المساس به بمنزلة الاعتداء، الاعتداء على كينونة لم تبق الحرب من حيثياتها أي شيء سوى ثقافة الطعام، وهي بكل حال ثقافة قديمة ولطالما شهد لها زوار سوريا قبل 2011، لكنها لم تكن هوية موحدة، ولم تكن مقارنتها بأخرى تثير حفيظة أحد من السوريين الذين كانوا يبدعون في الطبخ دون أي شوفينية تخصه، ذلك أن السوري لم يكن جائعا يوما، كان من القلة يصنع الأطايب طالما هو في مكانه وبيته وبلده، ولم يكن يرى في المطابخ الأخرى منافسا لمطبخه، ليس لأنه كان يراه الأفضل بل لأنه كان بين يديه، متاحا وكريما ومستديما ومتجددا.
برع السوريون في إعادة إنتاج ثقافتهم في الطعام وتعميمها لتكون منتجا ينافسون به لكسب عيشهم
شرد النظام السوري السوريين بعد الثورة، وشردتهم الحرب العبثية، وتفرقت طرقهم وتفرقت معها روائح مطابخهم، عاشوا في مجتمعات تأكل ما لا يأكلون وتنتج ما لا يعرفون، وعاشوا في منازل لا تتسع مطابخها لأدوات الطبخ الكبيرة التي اعتادوا على استعمالها، كانوا يحتاجون وقتا كافيا كي يستوعبوا ما حدث، كي تتسع أرواحهم لكل الفقدانات التي أصابتهم، كانوا يحتاجون إلى (مرآة) كي يعيدوا رؤية أنفسهم من خلالها، الطعام كان هو تلك المرآة، الطعام بعاداته وبمعتقداته القيمية وبمعناه الأصيل كموروث حضاري يكشف سلوك أجيال متعاقبة من المجتمع، ويؤكد على حلول كينونتهم في أماكنهم الجديدة. برع السوريون في إعادة إنتاج ثقافتهم في الطعام وتعميمها لتكون منتجا ينافسون به لكسب عيشهم، لكن لتكون أولا هويتهم المفقودة، شخصيتهم وكينونتهم الجامعة وهم مفرقين في أنحاء الأرض. لهذا باتوا يغضبون عند مقارنة المطبخ السوري بغيره، يخشون أن لا تكون المقارنة لصالح مطبخهم فيفقدون هوية جديدة تجمعهم.
" نحن ما نأكله" قد تنطبق هذه العبارة على السوريين حاليا أكثر من غيرهم، فلم يعد الأكل أو الطعام لهم من أجل العيش أو المتعة فقط، بل صار لاستعادة ذواتهم، لإثباتها، لتأكيدها في الوقت الذي يريد الجميع للذات السورية أن تختفي.