في الأسبوع الأول من أغسطس/ آب الجاري، وفي زيارة هي الأولى من نوعها، وصل الشيخ أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري، على رأس وفد من المجلس إلى الشمال السوري المحرر. لا تعد هذه الزيارة حدثا استثنائيا لكون الشيخ أسامة رئيس المجلس، وحسب، بل لكونه أحد أهم رموز المشيخة الشامية والأكثر اعتبارًا في الوسط المشيخي التقليدي، لا سيما المهجر من غوطة دمشق إلى الشمال السوري عام 2018، والذي عاود منذ ذلك الوقت نشاطه الديني والاجتماعي من جديد بأدوات وآليات العمل الديني الدمشقي التاريخية.
فبعد ما يقارب 6 سنوات من تأسيس المجلس الإسلامي السوري في إسطنبول وبتسهيلات وتنسيق مع الجبهة الشامية العاملة ضمن الفيلق الثالث في الجيش الوطني السوري – المدعوم تركيا -، زار رئيس المجلس الإسلامي السوري وشيخ جماعة زيد بن ثابت أسامة الرفاعي الشمال السوري لأول مرة منذ خروجه من سوريا، وسط احتفاء اجتماعي وديني كبير لهذه الزيارة المنتظرة منذ زمٍن بعيد.
اللافت أن زيارات ولقاءات الرفاعي في الشمال لم تقتصر على الفاعلين الدينيين التابعين للمجلس الإسلامي أو للتلاميذ والمريدين، بل تجاوزت ذلك إلى الشخصيات الفاعلة سياسيا وعسكريا، إذ التقى وزير الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة وممثلي وقادة الفصائل في الجيش الوطني، وحضر اجتماعاً في مقر وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة بمدينة اعزاز، ضم قادة معظم الفصائل العاملة في الجيش الوطني السوري، والجبهة الوطنية للتحرير، وقادة الشرطة العسكرية والمدنية، واجتمع مع قادة حركة أحرار الشام الإسلامية بشكل منفصل، كما زار الثانوية الشرعية في قرية تركمان بارح، وجامعة حلب الحرة، وعدداً من العلماء والدعاة الكرد في مدينة عفرين، بما يعكس الأهمية الضمنية للمجلس، والدور الذي يتوقع أن يلعبه في المجال الديني المتشظي في الشمال المحرر، ما بين إدلب ومناطق الفصائل المدعومة تركيا من جهة، والتشظي الداخلي في مناطق السيطرة التركية من ناحية أخرى.
الشمال السوري بين التشظي والتنافس
لم يكن التنافس على السيطرة على المجال الديني في الشمال السوري بأقل حدة من المجالات الإدارية والعسكرية؛ فبعد عملية درع الفرات عام 2016 بادر المجلس الشرعي في حلب وريفها، وأحد مكونات المجلس الإسلامي السوري، بافتتاح ثانويات شرعية أبرزها ثانوية تركمان بارح – التي زارها الرفاعي – ووجّه كتاباً رسمياً إلى المجلس الإسلامي السوري للتواصل مع السلطات لإدارة المجال الديني في المنطقة. ولكن، كانت الحسابات التركية مختلفة كما يبدو، إذ أوكلت الملف الديني للمجالس المحلية؛ حيث أنشأت كل بلدة رئيسية إدارة الأوقاف والإفتاء والشؤون الدينية، وبذلك تكون المديريات المحلية مسؤولة عن إدارة الأوقاف، وتعيين العاملين في المساجد والمفتين، وتنظيم دروس تحفيظ القرآن، ومراقبة خطب الجمعة في مناطقهم، تحت إشراف عام ودعم من وقف الديانة التركي.
بالمقابل؛ خلق المجلس الإسلامي والمجلس الشرعي لأنفسهم هامشًا جديدًا للمناورة حيث شجعوا الحكومة السورية المؤقتة - الذراع التنفيذي للائتلاف الوطني السوري - على إنشاء جسم خاص بالحكومة يحاكي بهيكليته ووظيفته وزارة الأوقاف السورية، فأنشأت الحكومة السورية المؤقتة "هيئة الأوقاف والشؤون الدينية" برئاسة رفاعة عبد الفتاح، العضو المؤسس في المجلس الإسلامي السوري، الذي يتولى دور المرجعية الشرعية بينما تتولى هيئة الأوقاف المهمة الإدارية والتنفيذية.
وبذلك يكون المشهد الديني في مناطق الوجود التركي (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام) متشظيًّا إلى مرجعيتين دينيتين هما وقف الديانة التركي والمجلس الإسلامي السوري المتفقان مذهبيًّا والمتقاربان في آلية العمل، بينما على جانب آخر وبقدرة أقل على التأثير يقف جيش الإسلام بمرجعياته وحاضنته الشعبية التي هُجرت من الغوطة يحاولون إيجاد منافذ قوّة اجتماعية واقتصادية للعودة إلى المشهد الديني من جديد.
وعلى حيّزٍ جغرافيٍّ مجاورٍ وتحديدًا في مدينة إدلب تسعى هيئة تحرير الشام إلى فرض نفسها على المشهد الديني، بمرجعية دينية للمنطقة هي المجلس الأعلى للإفتاء، المتقاطع مباشرة مع هيئة تحرير الشام، القوة الفعلية الحاكمة للمنطقة والذي تم إنشاؤه في 2019، وبإدارة و"إشراف وزارة الأوقاف والدعوة والإرشاد" التابعة لحكومة الإنقاذ.
ونظرًا لامتلاك الهيئة مركزية القرار الديني وعدم وجود منافس محلي لها فرضت هيمنتها الإدارية على المنطقة من خلال فرض شروط صارمة لتعيينات وفصل خطباء وأئمة المساجد بعد استبدال أعضاء من الهيئة أو من الشخصيات ذات الولاء لها بالعديد من الخطباء والأئمة، ولكن، على الرغم من ذلك ما زالت هيمنة الهيئة على المشهد الديني في إدلب مقيدة بالتوجه الديني للفاعلين المحليين الدينيين وغير الدينيين الذي يميل إلى الصوفية أكثر من السلفية التي تعد جوهر أيديولوجية هيئة تحرير الشام، وهو أمر تحاول الهيئة مراعاته رغم ما يسبب لها من خلافات داخلية.
عند مقارنة المشهد ما بين إدلب ومناطق الوجود التركي تظهر أهمية زيارة الشيخ أسامة الرفاعي ووضع حجر الأساس للمجلس الإسلامي السوري هناك ففي حين أن المشهد الديني في إدلب عالي المركزية والتنظيم تحت إدارة موحدة سلطوية متمثلة فعليا في هيئة تحرير الشام وتحت حكومة الإنقاذ، تبدو مناطق السيطرة التركية أكثر تشظيًّا ولا مركزية في مرجعياتها الدينية، وبالتالي يمثل وجود "المجلس الإسلامي السوري"، بثقله الشرعي والديني ومكانته الاجتماعية الاعتبارية، خطوة قد تساعد على التفاف الأجسام الدينية والفاعلين حوله لتحقيق مزيد من التنظيم وتوحيد المرجعية، في وجه مرجعية "هيئة تحرير الشام" الدينية وسياسات حكمها.
الأولويات والخطاب: المجتمع قبل السياسة
بينما كان النظام يقصف مناطقَ في مدينة إدلب، وكانت درعا ترزح تحت حصار النظام لها وتهديده أهلها، وصل الشيخ الرفاعي إلى مسجد اعزاز الكبير لأداء "خطبة الجمعة"، ليؤدي خطبته الأولى في الشمال المحرر، بكل ما يحمله الحدث من رمزية وأهمية. وبشكل مثير للإحباط، فقد آثر الشيخ الرفاعي أن يبرئ ذمته -حسب تعبيره- ويخطب عن مشكلةٍ يجدها شديدة التهديد للسوريين في المناطق المحررة، قد يتوقع المستمع أن تكون القصف اليومي الروسي أو اقتتال الفصائل وفسادها أو حتى مخيمات النزوح التي تملأ الشمال المحرر.
إلا أن الشيخ قرر أن يخطب عن أمر مختلف تماما، ألا وهو تهاون الرجال في تربية أهل بيته ويقصد بهم النساء والأطفال، مستطردًا في الحديث عن الآثار التي تخلفها الأفكار الداعية إلى حرية وحقوق المرأة وما يتبعه من خروج المرأة عن طاعة زوجها أو رب أسرتها سواء كان أبًا أم أخًا وغير ذلك مما تحاول ترسيخه بعض المنظمات الغربية في أفكار نساء الشمال السوري من خلال الدورات، حسبما وضّح أسامة الرفاعي في خطبته.
في نهاية الخطبة أشار الرفاعي بطريقة عابرة إلى ما حدث بدمشق عام 2006 حين تعاون النظام السوري مع منظمة الأمم المتحدة في مجال تحديد النسل، وهو ما دفع الشيخ، حينذاك، لتخصيص 6 خطب بعنوان "قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية"، كجزء من 59 خطبة تحت عنوان "الدفاع عن المرأة المسلمة"، لتبدو خطبة اعزاز الجزء السابع من سلسلة 2006، وكأن الزمان والمكان والجمهور لم يطرأ عليهم سوى تغير مكان المنبر.
من حيث المضمون فقد تكون الخطبة مفاجأة بالنسبة لغير المتابع، ولكن يظهر للمتابع أن الخطبة حول هذا الموضوع أكثر منطقيةً واتساقًا وفي سياقها؛ حيث إنها لم تخرج عن سياق المطالب التاريخية للتيار الصوفي التقليدي في سوريا وهي التركيز على الإصلاح الديني الاجتماعي وتقديمه على الإصلاح السياسي، وتحقيق مطالب فئوية تتمثل بتعزيز دور العلماء كأوصياء على المجتمع وحفظ مكانتهم لدى المجتمع والدولة.
ولكن بالمقابل، قد يكون من المفاجئ والمحبط كذلك أن الخطاب (لا المضمون) الديني للشيخ الرفاعي ما زال يستخدم نفس المحاججات والأدوات التي كان عليها منذ 15 سنة، مثل القصة المتخيلة عن طرد الشاب في الغرب بعد عمر 18 سنة؛ وهي قصة إن صدقها الناس عام 2006، فمن المحال اليوم تصديقها بعد وصول ملايين السوريين للغرب واحتكاك ملايين أخرى مع مجتمعات مغايرة لهم، وحتى من بقي، فقد بات يستطيع إجراء بحث صغير على النت – الذي هدد الشيخ من مخاطره – ليتحقق من القصة. وممَّا يعزز الإحباط العام من الخطبة تعاملها مع المرأة على أنها - كما الطفل - مصدرَ قلقٍ دائمٍ لرب أسرتها تحتاج رعاية وتربية وإلا فستكون فريسة سهلة المنال للأفكار المنادية بحقوق وتمكين المرأة؛ وكأنها لا تملك أية فاعلية وقدرة على اتخاذ القرار.
بالمحصلة، تحمل زيارة الشيخ أسامة الرفاعي إلى الشمال ووضعه حجر الأساس للمجلس الإسلامي السوري هناك كثيرا من التوقعات المستقبلية، وقد تكون بالفعل خطوة تغير المشهد الديني، خصوصا في مناطق السيطرة التركية، وأداة ذات تأثير بوجه "هيئة تحرير الشام" وخطابها. بالمقابل، لا يبدو أن عقدا كاملا من الثورة، بكل ما حمله من تغيرات جذرية، قد غيّر الأفكار والأولويات لدى الشيخ أسامة، والمشيخة العلمائية التقليدية من ورائها، مما يحتاج أيضا، كما يبدو، لوضع حجر أساس للخطاب والأفكار قد يكون أكثر أهمية.