هل هناك أكثر من شعبوية، أم أن للشعبوية تحولات تفرز تنويعات تبعا للظروف التي تظهر خلالها؟ مهما كانت، فهي تتمثل في الخروج عن اللعبة الديمقراطية، وانتقادها والتحريض على الارتداد عنها، بل والتجييش ضدها.
بالعودة إلى المفكر عزمي بشارة في كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟" ما يفسر لنا الخطاب الشعبوي المتجلي في عصرنا في بلدان الديمقراطيات، وهو قيام سياسيين باحتكار التكلم باسم الشعب، ولو أنهم لا يمثلون الشعب ولا الأكثرية، ونشر الدعوات المتطرفة. هذا الخطاب أحرز تقدما في العقود الأخيرة، بما يسرته له وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، بمخاطبة جمهور واسع بشكل مباشر، أو غير مباشر عبارة عن جمهور افتراضي لكنه حقيقي، عشرات الآلاف من البشر، قد يصبح بالملايين، مثلما حدث في القرن الماضي، خلال الحالة النازية والفاشية، التي كانت أفضل تمثيل لانتصارات الشعبوية وهزائمها. ما يعيد إلى الأذهان فكرة الزعيم الكاريزمي يخطب في الساحات العامة أمام الجماهير المحتشدة. فالزعامات الجديدة تتبنى هذه الأساليب، التي أصبحت خطرا يتوسع باستمرار، بعد تنامي شعبية الحركات الشعبوية اليمينية الأوروبية في فرنسا وإيطاليا وهولندا، وفنلندا والسويد والدنمارك والنمسا. باتت تمثل جائحة تهدد الديمقراطية في عقر القارة الأوروبية.
يركز عزمي بشارة في كتابه على الشعبوية كخطاب سياسي، فإذا كانت له شرعية فهي مستمدة من نظام الحكم في بلدان الديمقراطيات الليبرالية، وكأن الديمقراطية تحمل عناصر فنائها، باستثمار مفردات الديمقراطية نفسها التي تمنحها الحرية في التعبير عن التناقضات الاقتصادية والسياسية والثقافية. باستغلال التوتر بين مكوني الديمقراطية والليبرالية، وبين المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وغير المنتخبة، والأهم بين المواطن والمؤسسات الوسيطة التي تفصله عن عملية صناعة القرار. ويحذر بشارة من انه في حالات متطرفة قد يتحول خطابها الـى أيديولوجيا، ما يشكل مأزقا للديمقراطية، خاصة في استثمار غضب فئات اجتماعية متضررة من التطور السريع، تخشى أن يؤدي إلى تهميشها.
تستفيد الشعبوية من التشكيك في آلية النظام الديمقراطي بحجة منع سوء استخدام السلطة، لكن بوسع الديمقراطيات الراسخة تجاوز هذا الادعاء، وهذا عائد لاستقرار مبادئ الحريات والحقوق المدنية، بل والاستفادة من التشكيك بها، ما يحض على أن تصبح دافعا محركا لتطويرها، لكنه يشكل خطرا حقيقيا على الديمقراطيات الوليدة الناشئة عن الانتقال من نظام سلطوي، والتي لم تعتد بعد على ممارسة الحريات، بالتالي يسهل انقيادها خلف شعارات براقة من المشاركة السياسية من دون احترام للحقوق والحريات.
تلعب التوترات الاجتماعية، في ازدهار الخطاب الشعبوي، مثل عدم استقرار الطبقة الوسطى، والتأثيرات المتعددة السلبية للعولمة، باعتبارها خطرا على الثقافة القومية، ونشوء حالة اغتراب في النخبة السياسية، كذلك نقد النخب غير المنتخبة، والمؤسسات التمثيلية التي تحد من المشاركة الشعبية، ومعاداة حماية البيئة، ومنع القضاة من التدخل في قرارات الأغلبية بحجة أنها غير دستورية.
تستفيد الشعبوية من التشكيك في آلية النظام الديمقراطي بحجة منع سوء استخدام السلطة، لكن بوسع الديمقراطيات الراسخة تجاوز هذا الادعاء، وهذا عائد لاستقرار مبادئ الحريات والحقوق المدنية
هذه التوترات وغيرها، تشكل مصدرا دائما للأزمات، أي هناك أرضية من الحقائق وأنصاف الحقائق يجرى التهويل والتلاعب بها. وهو ما يضطر الديمقراطيات إلى التعامل معها بجدية واهتمام، ما يمنع الخطاب الشعبوي من استخدامها في معاركه، خاصة قضايا الثقافة والهوية، ومعالجة هموم الفئات المتضررة من العولمة والنيوليبرالية.
إن واحدة من أكثر القضايا التي يركز عليها السياسيون الشعبويون في الانتخابات بهدف التأثير على الناخبين هو موضوع الهجرة، بحجة أن تدفق اللاجئين، يهدد مستوى معيشة الشعب ونمط حياته، ويقلل من حصته من عائدات البلاد. ما يرفع شعارات المطالبة بطردهم باعتبارهم ضيوفا غير مرغوب بهم. تحت زعم مناشدة توسيع دولة الرفاهية، التي لا يمكن تحقيقها بوجود الآخر الغريب، بالتركيز على حرمان المهاجرين غير الشرعيين من الحصول على إعانات حكومية، مع أن الهجرة من أهم عناصر النمو في البلدان المستقبلة لها.
كما أصبح من المألوف والمتفق عليه بين مختلف الشعبويات الأوروبية، في مجال الهجرة، ومعاداة المهاجرين، استخدام الإسلاموفوبيا التي باتت فزاعة للغرب، ما أدى إلى نشأة موجة من الشعبويين الجدد عقب حدث 11 من سبتمبر 2001، يمكن التعريف بهم على أنهم سياسيون قوميون كارهون للإسلام.
تنشأ الشعبوية على هامش الديمقراطية، ولقد تمكن النظام الديمقراطي الليبرالي عبر تاريخه من احتوائها في مؤسساته، فغيّرها وتغيّر معها، إلى حد أنه في المرحلة المعاصرة اندمجت في النظام القائم، ومع الوقت قد تتهمش تلك الحركات التي لا تحترم الإنجازات المتحققة في الحقوق والحريات، وحتى في حال تمكنت الديمقراطيات الليبرالية المستقرة من احتواء هذه الظواهر، فقد يكون ثمن ذلك أن تصبح الديمقراطية نفسها أقل انفتاحا تحت ضغط الانتقادات.
كذلك حسب عزمي بشارة، لا فرق بين الشعبويين من اليسار أو اليمين، فالحدود بينهما مطموسة، وكما نرى اليوم، يجمع بينهم الإعجاب بالثنائي؛ الروسي والسوري. فاليسار لم يدن بوتين علـى السطو على جزيرة القرم والحرب الكارثية الحالية في أوكرانيا، ودفاعه عن النظام السوري على الرغم مما خلفه طوال أكثر من عشر سنوات من مئات آلاف الضحايا والمعتقلين وتهجير الملايين، وتبرئته من الجرائم المرتكبة، إلى حد اعتبار الحراك الشعبي في سوريا نوعا فريدا من المؤامرة، وإذا كانت كونية حسب النظام السوري، فلا ريب أن الإمبريالية العالمية كانت على رأسها، مع أن اتهامهم هذا للثورة السورية، كان قبل صعود الحركات الإسلامية المتطرفة.
وفي تأييد اليسار هذه الادعاءات التي يرتاح إليها، يسجل تراجعا إضافيا، قد يحوله في العالم إلى حركات شعبوية، فاليسار الذي حمل من قبل شعلة العدالة والحرية، أضاع هذه البوصلة التي لا بديل لها.