ليس غريباً أن تعيد الثورة -أي ثورة- المجتمع للسياسة، وأن تعيد السياسة للمجتمع، إذ يمكننا أن نقرأ الثورات ضمن هذا السياق على أنها إحدى أكثر أشكال العمل السياسي تجلّياً، فهي تسعى للتغيير الجذري في طبيعة النظام السياسي، وبالتالي نمط الاقتصاد وشكل العلاقات الاجتماعية السائدة، ما قبل الثورة، حيث أصبح النقاش والتداول بالشأن العام بكل جوانبه السياسية والثقافية، نقاشاً يومياً مفتوحاً بين السوريين، نتيجة ارتباط الحدث والمتغيرات السياسية المتعلقة بسوريا بواقع حياة ومعيشة كل فرد سوري بشكل مباشر ومصيري، منذ انطلاقة الثورة آذار 2011.
لكن التداول ومتابعة الحدث السياسي ومحاولات فهمه واستيعابه شيء -وهو شيء مهم للغاية-، والانخراط الفعّال بالعمل السياسي الذي يتسم بالمنهجية والانضباط والتنظيم شيء آخر، حيث لا تزال أوساط الفئة الشابة، التي كانت بشكل طبيعي إحدى المحركات المهمة للحراك بوجه السلطة، منكفئةً عن المشاركة في صناعة القرار السياسي ضمن أطر منظمة، الأمر الذي كان له دور كبير في إنتاج كيانات سياسية "هرمة" على الصعيد البنيوي والفكري، جعلها غير قادرة على التفاعل الإيجابي بالحيوية المطلوبة مع الحدث السوري بصفة عامة.
أي طموح سياسي ذاك الذي قد ينمو في ظل غياب كامل لحرية التعبير، التي تعتبر المدخل الرئيسي لممارسة أي نشاط سياسي
لكن الانكفاء عن ممارسة النشاط السياسي كان سمة المجتمع السوري كله منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة منذ أكثر من نصف قرن، وليس حكراً على شريحة الشباب منهم فحسب، فممارسة النشاط السياسي وخصوصاً بالنسبة للشريحة الشابة في ظل نظام الأسد، يعني بالذهنيّة السورية مغامرةً مميتةً، قد ترتد بعواقب وخيمة تمتد لتطول الأهل والمقرّبين، وغالباً لن تكون مجديةً، في ظل احتكار النظام للفضاء السياسي والثقافي بشكل كامل، الأمر الذي أدى وعلى مدار عقود طويلة لغياب "الطموح السياسي" حيث انحصرت مشاركة السوريين جميعاً في مجال العمل السياسي والثقافي بشكل عام في سوريا ضمن محددات السلطة، وتحت عباءتها، أو في منتديات وتجمعات سرية محدودة للغاية، لا تكاد تهم بأي نشاط يحتك بالمجتمع حتى تتعرض لبطش السلطة.
وأي طموح سياسي ذاك الذي قد ينمو في ظل غياب كامل لحرية التعبير، التي تعتبر المدخل الرئيسي لممارسة أي نشاط سياسي، الأمر الذي أدى لغياب تراكم الخبرة والتقاليد في هذا المجال خارج عباءة السلطة.
حتى بالنسبة لمنتسبي حزب البعث -وهم غالبية الشعب السوري- ممن انضموا لصفوف هذا الحزب طمعاً في امتيازات مختلفة، أو ربما عن قناعة بالتوجهات القومية للحزب، أو ممن تم تنسيبهم منذ الصغر في منظمات الحزب الذي ترافق كل سوري بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الفكري منذ سنته الدراسية الأولى في المرحلة الابتدائية وحتى آخر سنة دراسية في الجامعة.
هؤلاء أنفسهم لم يمارسوا نشاطاً سياسياً بالمعنى الحزبي، لغياب أي شكل من أشكال المعارضة التي قد تنافس على السلطة وبالتالي تدفعهم للمنافسة ومحاولة تطوير أدواتهم وأدبيّاتهم ونشاطهم الثقافي والاجتماعي والسياسي، وإنما اقتصر نشاط هؤلاء البعثيين على ممارسة أدوار وظيفية ميكانيكية مرسومة مسبقاً من قبل السلطة التي اتخذت من الشعارات القومية والاشتراكية أقنعةً لتخفي وجهها الطائفي والمافيوي.
أيضاً فإنه قد تراكم لدى السوريين عموماً والشباب تحديداً وعي وموقف سلبي ومشوه تجاه "السياسة"، التي باتت ترمز لكل أشكال الفساد واستغلال المنصب والسعي للسلطة كأداة للاستبداد والقهر، ذلك الفهم الذي أسّست له السلطة من خلال ممارسات مؤسساتها الحكومية والحزبية، والتي كانت تشكل نموذجاً وحيداً ماثلاً أمام السوريين لنمط العمل السياسي، بالإضافة لأحزاب الجبهة الوطنيّة التقدميّة، التي كانت تشكّل نسخاً أكثر تشوّهاً عن حزب البعث.
جاءت الثورة لتقدم للسوريين فرصة تاريخية لممارسة قناعاتهم السياسية، ولكن ورغم أن الساحات والشوارع التي اكتظت بالشعارات المطالبة بالتغيير السياسي، إلا أن غالبية السوريين -وتحديداً فئة الشباب منهم- لم يعرّفوا نشاطهم على أنه نشاطٌ سياسيٌ بحاجةٍ لمزيدٍ من التنظيم والتأطير وإيجاد أسس ومحددات مشتركة، تحمي ذلك الحراك من التشظي وتوجه قواه باتجاه تحقيق مطالب التغيير المنشود في الحرية والكرامة والمواطنة والتغيير الديمقراطي، وإنما كانوا وتحديداً فئة الشباب منهم، يعرّفون أنفسهم على أنهم "ثوار" غير طامحين للسلطة "لا للسلطة ولا للجاه"، كون أنّ السطلة بالنسبة لهم كانت تجسد كل أشكال الاستبداد والقهر، وإنما يهدفون فقط للإطاحة بالنظام دون الاكتراث لشكل البديل القادم، أو بالأحرى كانت أولوية إسقاط النظام تعتبر بالنسبة للشباب السوري الثائر الهدف النهائي للثورة بالحقيقة.
حاولت النخبة السياسية المنهكة، والمبعدة منذ عقود عن الاحتكاك بالشارع، والتي تفتقر بدورها للخبرة في ميدان العمل السياسي العلني بذهنية غير إيديولوجية، أن تشكل تعبيرات سياسية تهدف لوضع مبادئ وأهداف مشتركة لقوى الحراك تلك، وقد منحها بالفعل الشارع السوري الغافل عن السياسة ثقته، مع تشكيل المجلس الوطني وقبله هيئة التنسيق الوطني ولاحقاً الائتلاف الوطني السوري، بحضور رمزي -تجميلي- لممثلي قوى الحراك الشبابية، لكنها لم تعمل على زيادة حجم تمثيل ودور الشباب في صناعة القرار السياسي على مستوى قوى الثورة والمعارضة، -على اعتبار أن الشباب لا يمتلكون خبرة الممارسة السياسية التي يمتلكها رجالات المعارضة التقليدية-، بالعكس كان الإهمال لتلك الشريحة متعمداً بطريقة من الطرق، وسرعان ما تحولت تلك الكيانات بفعل تناقضاتها الإيديولوجية والشخصية، إلى دوائر فساد مالي وإداري صماء، وإلى منصات لشخصيات المعارضة التقليدية تحاول من خلالها إعادة إنتاج وتصدير ذواتها وقواها التقليدية المنقرضة من خلال احتكار العمل السياسي، دون التخلي عن العباءات الإيديولوجية التي يحملونها، لتضيف قوى المعارضة برداءة أدائها، و بارتهانها الكبير لقوى أجنبية مختلفة، إحباطاً كبيراً لدى أوساط السوريين عموماً والشباب على وجه التحديد، وعدم ثقة بنجاعة أي نشاط على الصعيد السياسي.
لكن ولنكون منصفين أكثر، ربما كان العامل الموضوعي المتجسد بتعاظم الصراع المسلح، وتنامي حجم الكارثة الإنسانية بشكل يومي، وحملات التصفية والاعتقال والتهجير المستمر منذ عشر سنوات وحتى الآن دون أي توقف من مختلف أطراف الصراع وفي مقدمتها النظام، بالإضافة لتعاظم التيار الإسلامي المتطرف وهيمنته على معظم قوى الحراك السوري، لا بل على ما تبقى من المجتمع السوري خارج مناطق سيطرة النظام، الدور الأكثر أهمية في عدم إعطاء الفرصة لأن تستجمع قوى الحراك المدني والسلمي قواها وتطوير بناها وأدواتها، حيث كان الانشغال بالجانب الإنساني والمعاشي أولوية ملحّة، على مدار السنوات الماضية، ليصبح العمل السياسي بالنسبة لغالبية السوريين "رفاهية" غير مبررة تجاه ما يتوجب عليهم القيام به للحد من الكارثة الإنسانية المتنامية التي يعيشونها بشكل يومي.
ولكن رغم ذلك كله، فإن الحراك الشعبي -أي حراك شعبي- هو حراك متوالد، يفرز بوعي الضرورة وبفعل الضرورة ذاتها، تعبيراته واستجاباته التي تحاكي واقع وإشكاليات ذلك الحراك في كل مرحلة من مراحل حركته، ولذلك وفي ضوء الحديث عن أبرز معوقات المشاركة الشبابية في صناعة القرار السياسي، ومعوقات العمل السياسي بشكل أعم، لا بد لنا أن نتلمّس ما يمكن الارتكاز عليه في نضالنا ضد هذا النظام الوحشي وحلفائه.
بارقة أملٍ أخرى تمتلك كل مقومات أن تكون نواةً فعًالة في تطوير أداء سياسي قادر على إعادة فرض نفسه في معادلة الصراع في سوريا، هم السوريون المقيمون في أوروبا ودول العالم الغربي
من نقاط الارتكاز تلك لا بد من الإشارة إلى منظمات المجتمع المدني السوري التي تشكل شريحة الشباب قوامها الأساسي، والتي استطاعت بالفعل، أن تشق طريقها بقدر معقول إلى المجتمع والشارع السوري، وساهمت ولا تزال في تغطية جزء كبير من المهام التي كان يفترض أن توكل بها "الدولة"، في مجالات الخدمات والتنمية والتعليم وغيرها، لا بل بات لها دور مهم في العمل السياسي على كل الأصعدة، تجلّت بحضور معقول في اللجنة الدستورية، كما ولا تزال تلعب دوراً مهما في المجال الحقوقي والقانوني.
كما يمكن -بمزيد من التفاؤل- القول إن بارقة أملٍ أخرى تمتلك كل مقومات أن تكون نواةً فعالة في تطوير أداء سياسي قادر على إعادة فرض نفسه في معادلة الصراع في سوريا، هم السوريون المقيمون في أوروبا ودول العالم الغربي وتحديداً فئة الشباب منهم، والذين باتوا يمتلكون قدراً معقولاً من الاستقرار المادي والاجتماعي، وقدراً عالياً من حرية التحرك والتعبير والتواصل والتأثير في أوساط دولية مختلفة بعيداً عن الضغوط السياسية والاجتماعية الهائلة التي يتعرض لها الناشطين داخل سوريا وفي دول الجوار، ما يخوّلهم أكثر من إعادة إنتاج قوى سياسية تمتد جذورها للداخل السوري.
والأهم من ذلك فإن ما أسميه -إن صح التعبير- "الوعي بالضرورة" الذي أنتجته -ولا تزال- التجربة السياسية السورية الحديثة رغم قصر عمرها -منذ 2011- ، قياساً بحجم التغيير الاستراتيجي الحاصل بسوريا والشرق الأوسط عموماً، ليس فقط على مستوى الشريحة الشابة وإنما على المستوى الشعبي، نتيجة ارتباط أحداثها اليومية بشكل وثيق بمصير السوريين ومستقبلهم، هو نقطة ارتكاز مهمّة لا بد من البناء عليها في مهمة إنضاج حراك سياسي أكثر وعياً لما يريد، وأكثر قدرة على تحقيق ما يريد.