في "زنجان" وهي قرية قديمة ذكرها ياقوت الحموي في كتابه الشهير "معجم البلدان"، معظم سكانها من الكُرد، تقع في الشمال الغربي لإيران، ولد "السهروردي- يحيى بن حبش بن أميرك، وكنيته أبو الفتوح" في تاريخ 1155ومات مقتولاً بتهم عديدة، منها الزندقة عام 1191 في محافظة حلب السورية.
كان السهروردي نابغة في بداية يفاعته، وطفرة مميزة عن أترابه والسابقين من العلماء الذين يسعون إلى القبض على ناصية العلوم؛ لكنه تفرّد كما يرى باحثون ومؤرخون بجوانب عديدة، منها التبصّر والبحث والاطلاع بشكل مكثّف على العلوم اليونانية، ونهل من مذاهب فلاسفة يونانيين كثر أمثال " أنباذوقليس 495 – 435 ق م، الذي ابتدع نظرية الإدراك الحسّي، والتي تقول إن "الشبيه يدرك الشبيه"، كما أن للنباتات عقلٌ وإبداع، وذكاء. إضافة إلى أن العناصر الأساسية التي تتكوّن منها الأشياء في العالم هي -الماء، التراب، الهواء، النار- ما يجمعها هو الحبّ وما يفصلها هو الكره.
وأيضاً كما قال السهروردي آنذاك لأترابه إن أحد أساتذته هو، بزرجمهر بختكان، الوزير الذي حكم بين عامي 531-578" في عهد "خسرو الأول وابنه كسرى الثاني. ويعدّ السهروردي فيلسوفاً وعالماً وكاتباً عاش في الإمبراطورية الساسانية، وجاء اسمه في "كتاب الشاهنامه-كتاب الملوك أو ملحمة الملوك" لمؤلفه الشاعر الفارسي "أبو قاسم الفردوسي ". وكما ذُكر أنه استقى بعضاً من علومه من سقراط، وأفلاطون، وأرسطو. وكان للسهروردي حصة كبيرة في الأسفار بين تركيا وأصفهان وآسيا الصغرى وبلاد الشام. أما في مدينة مراغة الإيرانية، كما قيل من قبل بعض المؤرخين إنه اتصل فيها بأستاذه الأول، الذي كوّن من خلاله ملامحه العلمية والدينية الجدلية والصوفية، وهو الشيخ مجد الدين الجيلي، المشرف الرئيس على تأديب السهروردي في الفقه وأصوله، حيث إنه كان أستاذاً -أي الجيلي، لفخر الدين الرازي، العالم الموسوعي الشهير. وعن لقاءات السهروردي بالعلماء المعروفين، أو تلامذتهم، كان له فرصة في أصفهان بلقاء تلامذة ابن سينا، وأيضاً في تركيا اتصل بالشيخ فخر الدين المارديني، والأخير أثّر عليه بالفلسفة والحكمة والعلوم الطبية والرياضية؛ وللمارديني كتابٌ مهم وهو "شرح قصيدة الشيخ الرئيس ابن سينا".
الصوفيّة السياسية ونهاية السهروردي
كان للسهروردي حظٌ غير محمود في صراعات سياسية أفضت إلى مأساة ونهاية كارثية أودت بحياته في حلب، إبان الدولة الأيوبية، تصادم السهروردي مع ثلة من الفقهاء والعلماء، الذين أحاطوا بالملك الظاهر، ابن صلاح الدين الأيوبي، حيث كان الأخير يخشى من الزنكيين في الموصل، ومن السلاجقة في الأناضول، الذين ما انفكوا يسعون وقتها إلى عرقلة سياسة الأيوبيين، ويختلقون صراعات تؤثر على استراتيجيات وضعها الأيوبيون.
كان السهروردي نابغة في بداية يفاعته، وطفرة مميزة عن أترابه والسابقين من العلماء الذين يسعون إلى القبض على ناصية العلوم
لم يكن آنذاك في حلب من يتبنى الفلسفة الفكرية في الصوفية، التي كان يراها السهروردي نبراساً لدربه، ومنطلقاً لما يصبو إليه في وصول فكره للآخرين، هذا فضلا عن حماسه المفرط، واعتزازه بنفسه، وشجاعته في الطرح؛ حينذاك، تجادل كثيراً مع فقهاء حلب وعلمائها، وخاصةً فريقاً من الأشاعرة، الذين ينصبون العداء الشديد للحرية الفكرية، والمذهب الإشراقي «معرفة الله عن طريق الكشف أو نتيجة لانبعاث نور من العالم غير المحسوس إلى الذهن»، ويخشون من منهج المعتزلة، وعودتهِ بشكل كبير؛ وفي آرائهم أن الصوفية هي حركة باطنية، قريبة إلى التشيّع، وما يحمله السهروردي من فكر فلسفي أيضاً، هو خطر على مجتمع "سني"، لم يعهد الخوض في حياض الفلسفة، التي كما وصفوها بأنها تزرع الشقاق بين عامة الناس، وتؤلب على الخاصة، مما دفعهم إلى مناظرتهِ بأمرٍ من الملك الظاهر بسبب اشتداد الخلاف بينهم. لم تكن المناظرة وقتها تفضي إلى قناعة أو تؤثر بالعلماء والفقهاء في حلب، بل عارضوا كل ما طرحه السهروردي، وبحسب ما هم عليه من قناعة، رموه بالزندقة، وسيّروا كتاباً إلى صلاح الدين الأيوبي، يحمل في طياته مكيدة، وقد كفّروه أيضاً فيه، على أن ما يأتي به السهروردي قد يفسد عقيدة المسلمين، ويؤثر على عقيدة ولده الملك الظاهر، فأرسل صلاح الدين إلى ابنه بأن يقتله دون مراجعة، حيث خُيّر السهروردي من قبل الظاهر بنهايته لأنه كان معجباً به، فاختار أن يموت جوعاً، وذلك لصلةٍ له بالصيام والتزهّد، فمنع عن الطعام حتى مات في حلب سنة 586 هـ التي توافق 1191. وقد اختلف كثيرون على تاريخ وطريقة وفاته؛ فمنهم من قال إنه خُنقَ بوترٍ، وقيل أيضاً قد حُرّق في النار حتى مات، وذهبَ العماد الأصفهاني المؤرخ والأديب الشهير الذي عاصر الدولة النورية والأيوبية، وشهد مقتل السهروردي، أنه في سنة 588 هـ، 1193م، قُتِلَ شهاب الدين السهروردي وتلميذه شمس الدِّين بقلعة حَلبَ، وكان فقهاء حلب قد تعصَّبوا عليه.
وكمصير الحلاج، المتصوّف الذي لقي حتفه صلباً بتهمةِ الزندقة والإلحاد، بعد أن دخل في غمار اضطرابات سياسية بين الحنابلة والشيعة، في عهد الخليفة العباسي الثامن المقتدر بالله، وجد فقهاء وعلماء السلطان أن السهروردي كان ثائراً سياسياً، ببطانةِ الدين، وأن مذهبه ينادي إلى إحياء المذهب "الإسماعيلي"، الذي يقول أن أبناء "الإمام علي هم صور التجلي الإلهي"، وهذا أمرٌ ادعوا أنه خطيرٌ على الحُكم، ويهدد بانقلابٍ على النظام، وذكر هذا أيضاً المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون" الباحث في التاريخ والفكر الإسلامي، وأحد أساتذة "طه حسين"، أن السهروردي كان يحمل مشروعاً سياسياً، ويتنقل بين فارس والأناضول تحت زي التصوّف، حتى استقر في حلب، التي كانت نهايته فيها. وطرح شيئاً شبيهاً لما قاله ماسينيون، الفيلسوف والمستشرق الفرنسي هنري كوربان، الذي درس الغنوصية الشيعية، والباطنية، أن السهروردي ذهب إلى الفلسفة والتصوف كحاضنين لمشروعه السياسي، ما أدى ذلك إلى مصرعه.
لا ريب في أن السياسة لها موضعٌ كبير في حياة الناس، وخاصةً النخب، والأهم، أنها ترسٌ رئيس لا تمضي الحياة دونها؛ تؤثر في ثقافة الناس، منها الدينية، وتطوّع أموراً كثيرة، وتقاليدَ، لم تكن لتتغيّر؛ حيث إن ما خلّفته السياسة من مشكلات، أكثر بكثير مما بنتهُ أمم على مدى حقب متتالية.
من أقواله وكتبه:
في كتابه "المشارع والمطارحات"، يقول السهروردي إن ما وضعه يجب أن يُقرأ من حكمة الإشراق، فإذا استحكم الباحث في هذا النمط، ليشرع في الرياضيات المبرقة بحُكم القيم على الإشراق حتى يعاين مبادئه، ليتم له مباني الأمور. وبحسب وصفه، أن الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلهية، وآخره لا نهاية له.
ويضيف في موطنٍ آخر، أن النور الإبداعي الأول فاض عن الأول الذي هو "الله/نور الأنوار"، وتصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية ألا وهي القواهر العالية، وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضية يقول عنها إنها أرباب الأنواع، التي تدير شؤون العالم الحسي.
بعض مؤلفاته: كتاب التلويحات اللوحية والعرشية - كتاب المقاومات - كتاب حكمة الإشراق- قصة الغربة الغربية - الألواح العمادية - قصة الغربة - كتاب المشارع والمطارحات - رسالة في اعتقاد الحكماء - الكلمات الذوقية أو رسالة الأبراج - كلمة التصرف - رسالة أصوات أجنحة جبريل - هياكل النور.
مراجع:
- د. سعيد الديوه جي -مقتل السهروردي _مقال 08/09/2014مجلة الحوار.
- السهروردي: اللمحات في الحقائق، تحقيق وتقديم الدكتور محمد علي أبو ريّان، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988 م.
- تاريخ الفلسفة الإسلامية - هنري كوربان ـ دار عويدات بيروت الطبعة الثانية
- لويس ماسينيون "تاريخ العقائد الفلسفية العربية" (1912-1921) جامعة القاهرة