تشهد الجماعات السلفية الكردية الموجودة في إدلب حالة استقطاب استثنائية بعد أن بدأت الانقسامات بينها تطفو إلى السطح على خلفية حملة الاعتقالات التي نفذتها "هيئة تحرير الشام" بداية شهر حزيران والتي طالت عدداً من قادة "أنصار الإسلام" الجماعة الأكثر تشدداً من بين الجماعات السلفية الكردية في إدلب، وأكثرها قرباً من التنظيمات السلفية المناهضة للهيئة، وتحاول الأخيرة على ما يبدو الاستفادة من ورقة الجماعات السلفية الكردية والاستثمار في حالة الانقسام المفترضة بهدف تطويع الجماعات الخارجة عن سيطرتها ووضعها أمام خيارات محدودة.
السلفيون الأكراد في إدلب
ينقسم السلفيون الأكراد في إدلب إلى أربع جماعات رئيسية جميعها غير تابعة لتنظيم القاعدة، والجماعة الأولى "حركة مهاجري أهل سنة إيران الكردية" وهي الجماعة الوحيدة التي بايعت "تحرير الشام"، ومعظم مقاتليها ينحدرون من مناطق شمال غربي إيران، ومقاتلو الجماعة أشداء ولديهم تدريب عالٍ ولديهم نقاط رباط مهمة في منطقة كبانة وعدد من النقاط في المرتفعات الجبلية بريف اللاذقية الشمالي، وكان لمقاتلي الحركة دور فاعل في المواجهات مع قوات النظام وميليشيات حلفائه خلال السنوات الماضية في منطقة كبانة، ولدى الحركة أيضاً مجموعات قتالية هجومية متنقلة تتناوب على الرباط في بعض نقاط جبل الزاوية جنوبي إدلب.
يتزعم الحركة "أبو صفية الكردي"، الذي ظهر خلال لقاء "أبو محمد الجولاني" بعدد من قادة الجماعات السلفية الكردية في أحد مساجد إدلب منتصف شهر حزيران الحالي، وبعد مضي يومين على اللقاء ظهر "أبو صفية" مجدداً في تسجيل مرئي من إنتاج مؤسسة إعلامية تابعة للحركة تدعى "القادسية"، وتحدث "أبو صفية" في التسجيل عن فضائل القتال والجهاد ضد قوات النظام في إدلب. وهي المرة الأولى التي يتم فيها تداول تسجيلات للحركة في أوساط منظري الهيئة وإعلامها الرديف، ويبدو أن الاحتفاء الذي ما يزال محدوداً بالحركة يتماشى مع مساعي "الجولاني" الهادفة إلى استقطاب باقي الجماعات السلفية الكردية، وفتح قنوات اتصال معها من خلال "حركة مهاجري إيران الكردية"، هذا على الأقل ما رشح من اجتماع "الجولاني" بالقادة الأكراد السلفيين المقربين من الهيئة مؤخراً.
الجماعة الثانية هي "حركة صلاح الدين الكردي" السلفية، وأهم مناطق انتشارها في جبل الأكراد في ريف اللاذقية الشمالي، ولدى الحركة معسكر تدريب، ومصادر دعم خاصة، ويبدو أن عناصرها مدربون بشكل جيد، ومعظم مقاتليها ينحدرون من مناطق شرقي تركيا، وشاركوا بفعالية في المعارك التي شهدت المنطقة والتي بدت أسطورية خلال الحملات العسكرية المتتابعة على مدى الأعوام القليلة الماضية.
مصادر متطابقة قالت لموقع "تلفزيون سوريا" إن "مجموعات السلفيين الأكراد القادمين من مناطق شرقي تركيا قد بدأت العمل الجهادي في سوريا منذ عام 2012، وتركز وجودهم في مناطق الشمال السوري، وفي أيلول من عام 2015 أعلن عن تأسيس حركة صلاح الدين الكردي، وزادت أعداد مقاتليها بعد أن ضمت المزيد إلى صفوفها، من بينهم مقاتلون أكراد سوريون وعراقيون وإيرانيون".
يقول قادة الحركة في تصريحات سابقة إن "أهم أسباب تأسيس الحركة، الحفاظ على حقوق الأكراد ورفع الظلم عنهم والعودة بهم إلى جذورهم فإن الشعب الكردي هو شعب مسلم سني، وبالعودة إلى التاريخ الإسلامي فإنه يوجد صحابي كردي يدعى جابان أبو ميمون الكردي، وإن سيدنا صلاح الدين قد التف حوله الأكراد والعرب والعجم من المسلمين وإننا حملنا اسم صلاح الدين الكردي حتى نقول إننا واحد لترفرف راية التوحيد".
وحول المعارك التي شاركت بها الحركة منذ العام 2012 يقول قادة الحركة "شاركنا في معظم معارك الشمال السوري في البدايات مع تحرير مدينة حلب وبلدة تفتناز ومدينة الرقة وبسنقول حتى معارك تحرير مدينة إدلب ومعارك الساحل وفي حال عدم وجود معارك فإننا نرابط في تشكيلات متخصصة في القنص والعمليات في العمق".
وجه لقادة الحركة أسئلة حول العلاقة مع "تحرير الشام" وهل يتبعون لها، ولم تكن الإجابات صريحة ولم يتم نفي العلاقة مع الهيئة، قالوا "نحن مسلمون قبل أن نكون فصائل وكتائب وحركات وهيئات ونحن أبناء حركة صلاح الدين الكردي جزء من الأمة الإسلامية لذلك يجب ألا نسأل عن استقلال وتبعية فكلنا لنا هدف واحد هو صد العدو الصائل على الساحة الشامية إن كنا مستقلين أو لا". ومن أهداف الحركة خلال الفترة القادمة "الوصول إلى شريحة أوسع من الأكراد السوريين".
الجماعة الثالثة هي "الجبهة الإسلامية الكردية" وهي مجموعة من الكتائب الصغيرة التي شكلت فيما بينها تشكيلاً موحداً انضم لاحقاً إلى صفوف "حركة أحرار الشام الإسلامية" في كانون الأول من العام 2014 إلى جانب "لواء الحق"، والسواد الأعظم من مقاتليها من الأكراد السوريين، وهم أقرب للفصائل المعتدلة ويختلفون عن باقي التشكيلات السلفية الكردية، وحال "الجبهة الإسلامية الكردية" لا يختلف كثيراً عن حال الفصيل الأم "أحرار الشام" الذي يعاني من الانقسام والتفكك.
جماعة أنصار الإسلام
أطلقت "تحرير الشام" سراح اثنين من قادة جماعة "أنصار الإسلام" السلفية بعد اعتقالهم لأكثر من 17 يوماً، وهما أبو عمار الكردي وأبو شهاب الكردي، في حين ما يزال باقي قادة الجماعة معتقلاً حتى الآن في سجون الهيئة، بينهم مغيرة الكردي وعبد المتين الكردي وأبو علي القلموني وأبو عبد الرحمن الشامي، وجميعهم اعتقلتهم الهيئة خلال حملة أمنية نفذتها على مواقع الجماعة في ريف جسر الشغور جنوب غربي إدلب بداية شهر حزيران. وقال مدير مكتب العلاقات الإعلامية في "تحرير الشام"، تقي الدين العمر لموقع "تلفزيون سوريا" إن "التحقيقات في قضية المعتقلين من أنصار الإسلام ما تزال جارية حتى الآن".
ويتركز انتشار مقاتلي جماعة "أنصار الإسلام" في ريف اللاذقية الشمالي ومناطق جنوب غربي إدلب، ويشكل الأكراد العراقيون الغالبية فيها إلى جانب المقاتلين الكرد السوريين والأتراك والإيرانيين، مرت الجماعة بمراحل عديدة منذ تأسيسها وحتى وصولها إلى سوريا، أُسست في عام 2001 شمالي العراق (كردستان العراق) وقاتلت ضد حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة الرئيس العراقي الأسبق، جلال طالباني، قبل الغزو الأميركي للعراق في آذار 2003، ولاحقاً قاتلت "تنظيم الدولة" في العراق والتحق ما تبقى من مقاتليها في صفوف الجماعة التي وصلت إلى سوريا مع بداية الثورة السورية.
وتعتبر الجماعة (أنصار الإسلام) الأكثر تشدداً بين الجماعات السلفية الكردية في إدلب، ومن أهدافها إقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة، وسبق أن انضمت الجماعة منتصف العام 2020 إلى غرفة عمليات "فاثبتوا" بزعامة "أبو مالك التلي" المنشق عن الهيئة، لكن الجماعة اضطرت للانشقاق لاحقاً عن الغرفة لتجنب المواجهة مع الهيئة التي بدأت حينها مرحلة جديدة من الحرب على تنظيم "حراس الدين" التابع للقاعدة والذي كان العمود الفقري للغرفة.
يحاول "حراس الدين" جذب جماعة "أنصار الإسلام" والدفاع عن الجماعة ضد حملة مفترضة سوف تبدأها الهيئة ضد الجماعة، وحول الإفراج الأخير عن بعض قادة الجماعة الذين اعتقلتهم الهيئة، شكك الحراس بنوايا الهيئة، قالوا "بعد افتضاح وتسريب خطة الجولاني للعمل على جماعة أنصار الإسلام وكشفها للعلن وقع الجولاني بحرج كبير أمام المشايخ والفصائل فلجأ إلى تعديل خطة العمل بحيث يتم إخراج بعض المعتقلين من الجماعة لإيهام المشايخ والفصائل بانتهاء الإشكال وحتى يطمئن قادة الجماعة ولا يأخذوا احتياطاتهم الأمنية من أيادي الغدر، بينما يستمر الإعلام الرديف للهيئة بحملة التحريض القوية على الأنصار تهيئة وتمهيدًا لساعة الغدر المرتقبة".
مصادر متطابقة قالت لموقع تلفزيون سوريا إن "الجهاديين المناهضين لتحرير الشام يتوقعون أن يتولى أمن الحدود سابقا وأمير لواء عثمان في تحرير الشام، أسامة الحمصي مهمة القضاء على جماعة أنصار الإسلام، والتهمة الأبرز الموجهة للجماعة تورطها بعمليات استهداف أرتال الجيش التركي في إدلب".
هل ينصاع أنصار الإسلام؟
تتناقل الأوساط الجهادية المناهضة لتحرير الشام في إدلب ما سمّتها بالتسريبات حول أسباب الحملة على جماعة "أنصار الإسلام"، وصنفت التسريبات في ستة بنود، أهمها محاولة ضم الجماعة إلى صفوف الهيئة باعتبارها صاحبة تنظيم وتراتبية عسكرية قل نظيرها بين التشكيلات السلفية في إدلب وتوسعها خارج مظلة الهيئة يشكل خطراً، وبالضغط عليها وتهديدها باعتبارها أكثر الجماعات الكردية قوة سيتم من خلالها إجبار باقي الجماعات السلفية الكردية التي ما تزال خارج سطوة الهيئة على الرضوخ والانصياع.
أما ثاني الدواعي المفترضة، يلمح إلى أن "التضييق على الجماعة وحملة الاعتقالات ضد قادتها قد جاء بأمر من المخابرات التركية التي تريد إنهاء الجماعة غير المنضبطة، وذلك لأن هناك شكوكا حول ضلوعها في تنفيذ عمليات استهداف لأرتال الجيش التركي أو تسهيل العمليات على الأقل، كما أن وجود سلفيين أكراد إيرانيين في صفوف الجماعة يشكل ورقة رابحة بالنسبة للهيئة التي تحاول الاستفادة من وجودهم في دعم ملفات أخرى وفتح باب للمفاوضات مع الإيرانيين".
ما تزال الأجواء متوترة في المناطق التي ينتشر فيها مقاتلو الجماعة وعائلاتهم في ريف إدلب الغربي (منطقة جسر الشغور) وذلك بسبب كثافة الحواجز الأمنية التابعة للهيئة، وخوف الجماعة من استئناف حملة الاعتقالات ضدها والتي بدت كاستفزاز ومحاولة لجر الجماعة لمواجهة مباشرة تتمكن من خلالها الهيئة من تنفيذ المهمة والقضاء على الجماعة. ومن المتوقع أن تنصاع "أنصار الإسلام" لضغوط الهيئة بسبب فارق القوة والانتشار، والدعم المفترض الذي يعِد منظرو التيار الجهادي المناهض للهيئة (حراس الدين والسلفيون المنشقون) بتقديمه من الصعب أن يتحول إلى واقع عملي، وأن يشترك مثلاً مقاتلو "حراس الدين" في المعارك ضد الهيئة في حال بدأت فعلاً بينها وبين جماعة الأنصار، الجماعات السلفية الكردية الأخرى وأبرزها "حركة صلاح الدين الكردي" هي الأخرى ستظهر ولاء أكبر للهيئة خلال الفترة القادمة، وقد يتحقق جزء من مساعي "الجولاني" الهادفة إلى تطويع الجماعات السلفية الكردية في إدلب وإجبارها على تبني مشروع وخطاب الهيئة، وتحديداً فيما يخص العلاقة مع تركيا ووجودها على الأرض.