شكّل اندلاع الثورة السورية في بلد تمتد حدوده المشتركة جنوباً مع تركيا لأكثر من 800 كم، تحدياً غير مسبوق لحكومة مضى على تسلمها السلطة ما يقارب العقد وقتئذٍ، ولا تخفي سعيها الحثيث لزيادة تأثيرها في الساحة الإقليمية والدولية.
رغم مستوى العلاقة المتقدم بين ممثلَيْ السلطة في البلدين حتى حينها -التي نبعت من سياسة "صفر مشاكل" مع الجوار التركي وتوجت بآمال العمل المشترك على مشاريع اقتصادية إقليمية؛ قررت الحكومة التركية أن تنحاز مبكرا لصف الثوار فاستقبلت اللاجئين المدنيين، والمنشقين عن النظام، ثم أصبحت بوابة الدعم والإمداد الشمالية لمجموعات العمل المسلح نحو الحرية.
كان لهذا القرار، وبغض النظر عن البعد الإنساني والأخلاقي، أسباب تستند إلى الواقعية السياسية. فقد بدا واضحا لدول الجوار والعالم أن التيار الشعبي المنتفض، والذي عصف ببلاد العرب، يجري باتجاه حتمي واحد: التغيير. خصوصا بعد عدم استجابة رئيس النظام السوري لمحاولات الأتراك بالضغط عليه ليستوعب الانتفاضة الشعبية بدل قمعها، وتورطه بجرائم وحشية لا رجعة فيها. لذا كان من المنطقي أن تستثمر الدولة التركية بالأطراف التي "ستقود سوريا" في المستقبل.
على مدار عقد من الزمن، تغيرت معطيات الساحة السورية تكراراً، وتغير معها تعاطي اللاعبين الإقليميين والدوليين مع الملف بشكل زاد من تعقيده وجموده، حتى باتت الأراضي السورية أشبه برقعة شطرنج للعبة لا تنتهي.
لم تستثن علاقة تركيا بالملف السوري وارتباطاته من التغييرات، لكن ظلت الأخيرة حليف المعارضة الرئيسي، مما يجعل أهمية فهم منظورها للملف السوري مصيريا.
ستحاول سلسة من المقالات تحت عنوان الساحة السورية من المنظور التركي تقديم قراءة لمنظور الطرف التركي للساحة السورية، وفقاً لمحاور متعددة، من الوضع الداخلي التركي، حتى الدولي، ومرورا بمعطيات وتغيرات الساحة السورية.
عوامل داخلية
لعل تحليل مواقف وخيارات الدول مع اعتبارهم كيانات جامدة موحدة خطأ يقع فيه كثيرون، ومصدره صعوبة الخوض في موازنات الدول الداخلية المعقدة. لكن للعوامل الداخلية من تأثير على سياسة بلدها الخارجية ما يكفي لاعتبار أي قراءة تستثنيها منقوصة.
تأثرت سياسات تركيا في الساحة السورية بعدة عوامل وأحداث داخلية، ولأن السياسة عمل تراكمي ما زال تأثيرها حاضرا في المنظور التركي حتى اليوم. تستعرض العناوين القادمة بعض العوامل الداخلية المعنية في السياق السوري.
1- الهوياتية والحزب الحاكم
يرى "إردم إرين"، الباحث في أكاديمية السياسة الدولية التركية، أن حزب العدالة والتنمية واعتبارا من 2009، تاريخ تسلم أحمد داوود أغلو وزارة الخارجية، اتبع سياسة خارجية مبنية على الهوياتية (أو البنائية المجتمعية)، على حساب سياسته الخارجية ليبرالية المنظور حتى حينها. وتجسد هذا الإطار الهوياتي بما يسميه العديد من الباحثين الأتراك -مثل بهلول أوزكان من جامعة مرمرة- بالهوية "العثمانية الجديدة".
واستمرت سياسة الحزب الخارجية بالتأثر بهذه الهوية كعامل أساسي منذ تاريخ بدأ الثورة السورية وحتى تاريخ ابتعاد أحمد داوود أغلو عن السلطة عام 2016. ولم ينحصر تأثير هذا المنهج "الهوياتي" على خيارات الحلفاء في الساحة السورية فقط – إذ اعتمدت أنقرة على حلفاء سوريين مقربين من الإخوان تنظيميا أو منهجيا على حساب الأطراف الأخرى، بل كانت سببا لإهمال القوة المادية في التأثير على الساحة السورية حسب وجهة نظر الباحث التركي "بوراك أوزبك"، لأن الاعتماد على الهوية لخلق التأثير منهج يركز أساسا على القوة الناعمة على حساب القوة المباشرة.
بعد عام 2016 ستدرك أنقرة متأخرةً نتائج هذه المقاربة، وستنتقل لتبني سياسة أكثر براغماتية وواقعية، وستدفعها الخيارات المحدودة للعمل مقربا مع الروس.
2- القضية الكردية
كان للقضية الداخلية الكردية في تركيا أثر كبير على مقاربة تركيا في الساحة السورية، إذ يمكن القول إن مآلها كان الدافع الرئيسي لتدخل القوات التركية بشكل مباشر في الشمال السوري.
تبنى حزب العدالة والتنمية سياسة متسامحة مع الأكراد منذ السنين المبكرة لتسلمه السلطة، حتى أعلن عن مشروع "أخوة ووحدة الأمة" عام 2009 لتبدأ رسميا جهود السلام التركية الكردية وينتج عنها انفتاح متبادل غير مسبوق.
كان لنجاح هذه الجهود دور في التساهل التركي مع انتشار وحدات حماية الشعب -الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي- في الشمال السوري. بل حين البحث في الأرشيف يمكن الوصول لمقالات رأي تركية نشرت عام 2012 تطالب الحكومة بالتحالف مع الأكراد في الشمال.
وفي عام 2013 التقى مستشارو وزارة الخارجية مع صالح مسلم قائد الوحدات في إسطنبول، وضغط الأتراك وقتها على الأخير ليكون حليفا للجيش السوري الحر، والابتعاد عن حزب العمال الكردستاني والنظام السوري.
سيكون التساهل التركي مع وحدات حماية الشعب -والمتأثرة من جهود السلام مع الأكراد في الداخل التركي- من المسببات الرئيسية لتقوية شوكة الأخيرة في الشمال بحسب "سامي كيراز" الباحث التركي في جامعة "هيتت."
لن تلتزم وحدات حماية الشعب (الكردية) بمطالب الأتراك، وسيرفض الأتراك مطالب تقديم الدعم للقوات المحاصرة في كوباني عام 2014، ما سيفجر موجة من الاحتجاجات في الجنوب الشرقي التركي، تلحقها عودة عمليات حزب العمال الكردستاني الإرهابية في الحدود التركية تحت مطلب "الحكم الذاتي"، ما سيدفع أردوغان لإعلان انتهاء جهود السلام عام 2015، وتبنيه سياسة حاسمة مع المنظمات الإرهابية الكردية في تركيا، وحلفائهم في الشمال السوري.
يعتبر معظم المراقبين أن التطورات الداخلية التركية المرتبطة بالقضية الكردية كانت سببا رئيسيا لتغيير أولويات أنقرة في الساحة السورية، إذ جعلت تفكيك وحدات حماية الشعب في الشمال والمدعومة أميركيا، أولويةً مقدمة على إسقاط النظام، وهو سبب آخر للتقارب مع الروس.
3- الانقلاب الفاشل والبيروقراطية
للانقلاب الفاشل عام 2016 وتبعاته أثر لا يستهان فيه على سياسة أنقرة وخياراتها في الساحة السورية، فتصفيات ما بعد الانقلاب في الجيش أضعفت الجناح البيروقراطي الذي يؤيد الناتو ويرفض التحرك العسكري إلا تحت مظلته، وقوّت الجناح القومي الذي تتجه أنظاره نسبيا للشرق نحو روسيا، كما دفعت بالجيش للبحث عن فرصة لإثبات ولائه للحكومة التركية بعد الضرر الذي لحق بالثقة بين الطرفين.
وفي سؤالنا لأحد مستشاري رئاسة الجمهورية البارزين في الشؤون الخارجية عن أسباب تأخر التدخل العسكري التركي المباشر في سوريا، كان على رأس قائمة الأسباب في رده "عدم ثقة الحكومة في الجيش" في الفترة التي سبقت الانقلاب. ثقة ستعزز بعد الانقلاب بتوافق سياسات الحكومة في سوريا مع البيروقراطية التركية العسكرية والأمنية.
ويؤكد باحث أكاديمي تركي متخصص في الشؤون الاستخباراتية والأمنية في تركيا، فضل عدم ذكر اسمه، أن أطراف البيروقراطية العسكرية والأمنية التركية المختلفة متوافقة بشكل "مثير للاهتمام" مع سياسات الحكومة التركية في سوريا. ما يعني أن سياسة تركيا الأمنية والعسكرية الحالية في سوريا لن تشهد تغييرات جذرية حتى في حال تغير السلطة عام 2023.
ستسلط المقالات القادمة من هذه السلسلة الضوء على عوامل داخلية أخرى أثرت وما زالت تؤثر بالسياسة التركية في الساحة السورية، لا تكفي سطور هذا المقال للخوض فيها، مثل الانتخابات، والتغيير الديموغرافي واللاجئين، والتحالفات السياسية الداخلية، بالإضافة لعوامل خارجية من محور العلاقات الدولية، مثل العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية المختلفة.
كما ستتناول الأجزاء القادمة منظور الأتراك في شؤون سورية محلية مثل المنطقة الآمنة وتقسيم سوريا، وهيئة تحرير الشام وإدلب.