تشهد مدن رئيسية في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي توسعاً عمرانياً عشوائياً، نتيجة الكثافة السكانية العالية وقوة العرض والطلب على العقارات، ما أدى إلى ازدياد البناء المخالف للمخططات التنظيمية، وسط غياب الدور الفعلي للمجالس المحلية في استيعاب حجم التوسعات وفق المخططات التنظيمية التفصيلية.
وباتت قضية التوسع العمراني في المنطقة نقطة جدل بين الأهالي والسلطات، فالحاجة إلى المأوى وسط الحرب أولوية قصوى قد تكون على حساب المظهر الجمالي ورحابة الصدر، والأمتار الممكنة للبناء وثمنها وسوء الوضع المادي على الصعيد العام لا تترك مجالا لما يمكن تصنيفها بالرفاهية. مع وجود رأي مخالف، وثالث وسطي لا يقول إن هذه الحالة صحية للسكان والمنطقة على المدى البعيد، وفي الوقت نفسه يجب أن تفرض السلطات المحلية قوانيناً واقعية على مبدأ "لا إفراط ولا تفريط"، لكن تصريحات المجالس المحلية تقول إن قدراتهم أقل من ذلك بكثير وإن التنظيم العمراني بحاجة لكوادر وتمويل كبير.
بين هذه الجدلية القائمة وتشعّب الآراء يشير خبراء في هذا الحقل سواء متعهدي البناء أو السكان إلى وجود فساد ومحسوبيات لا تدع مجالاً للثقة في القرارات الضابطة للتوسع العمراني.
وبرزت في السنوات الماضية أحياء وتجمعات سكنية أهلية وأخرى استثمارية تجارية بنسب متفاوتة في محيط كل من مدن اعزاز والباب وعفرين ومارع وصوران شمالي حلب، والتي تهدف لاستيعاب ارتفاع أعداد السكان الناتج عن عمليات النزوح والتهجير القسري الذي انتهجه نظام الأسد بحق آلاف السوريين.
إلا أن التجمعات السكنية الناشئة لم يراعى فيها توافر المرافق العامة، والساحات، والمساحات الخضراء، والشوارع، وخدمات الصرف الصحي والمياه والكهرباء، في ظل عجز المجالس المحلية عن تخديمها ما جعلها تفتقر لمخططات التنظيم المعماري الحضري لتوسعة المدن.
تجاوزات في البناء وضيق في الشوارع
لاحظ موقع تلفزيون سوريا في جولة ميدانية بمدن شمالي حلب ضمن الأحياء السكنية المتطرفة، تنامي ظاهرة الأبنية المخالفة للمخططات التنظيمية خلال الأعوام القليلة الماضية، وسط غياب دور المجالس المحلية في افتتاح شوارع جديدة وتخديمها بالمياه والصرف الصحي والكهرباء.
وتنقسم المخالفات التنظيمية إلى قسمين رئيسيين أولهما؛ يكون ناتجا عن افتتاح بعض أصحاب العقارات شوارع في الأراضي الزراعية المحيطة بالمدن، وتحويلها إلى محاضر بهدف بيعها وفي الغالب تكون الشوارع ضيقة بينما تبزر سعة المحضر والبناء العقاري دون التقيد بمعايير المخططات التنظيمي التي تراعي عرض الشوارع والأرصفة.
وتعد تلك المخالفات الأكثر انتشاراً في المدن المذكورة، لا سيما أن النشاط التوسعي للمدن عشوائي كونه مبني على أساس فردي أهلي من أبناء المنطقة والوافدين إليها، وسط مساع حثيثة من قبل أصحاب العقارات والأبنية بهدف تحصيل أكبر قدر من المكاسب.
وقال فايز العبود نازح إلى مدينة اعزاز شمالي حلب لموقع تلفزيون سوريا، إنه اشترى محضر بناء جنوبي المدينة من صاحب الأرض الزراعية، الذي افتتح فيها شارعاً عرضه أربعة أمتار، وقسّمها إلى محاضر بهدف بيعها.
وأضاف: "موقع المحضر بعيد عن الخدمات والمرافق العامة ومحاط بالأراضي الزراعية، والشارع ضيق لا يتجاوز الأربعة أمتار، لكنني مجبر لإيجاد مسكن آمن لعائلتي بعد النزوح". وبنيت غرفتين ومنتفعاتهما في المحضر البالغة مساحته 100 متر، بتكاليف مالية عالية".
وإلى مدينة مارع، بنى محمود كوربلال محضراً كان قد اشتراه قبل عامين، ويطل على شارع يصل عرضه إلى ستة أمتار، افتتحه صاحب الأرض الذي قسمها إلى محاضر بهدف عرضها للبيع وفق مقاسم.
وقال لموقع تلفزيون سوريا: "اضطررت إلى الشراء في التوسعات العمرانية في محيط مارع الشمالي لأن الجهة الغربية من المدينة قريبة على خطوط التماس، ودفعت ثمن المتر المربع قبل بناء المنزل 18 دولاراً أميركياً، وللآن لم تصل الخدمات إلى الشارع".
أما القسم الثاني من المخالفات التنظيمية، ناتج عن توسع المشاريع العمرانية الطابقية في محيط المدن الرئيسية، وهي مشاريع استثمارية يقوم عليها تجار ورؤوس أموال محليين، ورغم توفيرها للخدمات الأساسية من مياه وصرف صحي وكهرباء، إلا أن معظمها غيبت الاهتمام بسعة الشوارع، والمساحات الخضراء، ما جعل الأبنية مشوهة كلياً.
أكد متعهدو بناء من مدن مختلفة، أن البناء والتوسعات السكنية القائمة في المدن الرئيسية لا تراعي المخططات التنظيمية، والأسس المعمارية، ومعظمها قائمة على أساس تجاري بحت، بينما يقتصر دور المجالس المحلية على تقديم تراخيص دون تقديم أية خدمات أخرى لأصحاب العقارات المُرخصة.
ومن بينهم أحمد مواس، متعهد بناء في مدينة عفرين شمالي حلب، قال لموقع تلفزيون سوريا: "إن التوسع السكاني القائم شمالي سوريا، بات يهدد بكارثة سيما أنه لا يراعي المخطط التنظيمي، وسط غياب المخططات التوسعية للمدن مع ارتفاع أعداد السكان".
وأضاف: "كل من المجالس المحلية ولجنة المهندسين تحصل على تراخيص للبناء، لكنها في المقابل لا تقدم أية خدمات على المستوى الطرقي والكهرباء والمياه والصرف الصحي في الأبنية المستحدثة، ما يجعل الترخيص مثل عدمه، لأنه لا يقدم أية فوائد لأصحاب العقارات والمتعهدين وتجار البناء".
وأوضح مواس أن تجار العقارات ومتعهدو البناء وحتى أصحاب الأراضي الزراعية، والأفراد الذين يبنون منازلهم بشكل شخصي، يبحثون عن الربح، ما يدفعهم إلى تضييق الشوارع وتغييب الأرصفة، والمرافق العامة، مما يساهم في التوسع العمراني العشوائي.
وأشار متعهد البناء إلى أن الشوارع الضيقة لا تصلح للأبنية الطابقية، لأنها تساهم في انعدام خصوصية البناء، خاصة الشرفات وفتحات التهوية التي ستكون قريبة جداً من بعضها، لذلك من الضروري مراعاة ارتفاع البناء الطابقي وفقاً لعرض الشارع.
وذلك إذا كان عرض الشارع من 8 حتى 10 متر يجب أن يكون البناء مكون من دور أرضي، وطابقين آخرين، وفي حال كان عرض الشارع، 12 مترا يجب أن يتكون البناء من دور أرضي وثلاثة طوابق، وفي حال كان الشارع 16 مترا، يجب أن يتكون البناء دور أرضي وأربعة طوابق، وتزيد حسب عرض الشارع.
وأوضح مدير قسم المأوى في فريق ملهم التطوعي براء بابولي أنه وفقاً للمعايير الأمثل يجب أن تكون الوجيبة ثلث ارتفاع البناء وبالتالي تتراوح بين 4 و6 أمتار أما البناء الأرضي فيتطلب وجيبة أكثر من ذلك، أما الشوارع الرئيسية فيبلغ عرضها 15 - 20 متراً والداخلية 8 - 12 متراً، إلا أن الواقع يقلص هذه المعايير ويتم العمل وفق متوسط هذه الأرقام.
وأشار بابولي الذي أشرف على تنفيذ عشرات المشاريع السكنية في الفريق إلى أنه يجب الأخذ في عرض الشوارع حساب مصفات السيارات على الجانبين.
مدير قسم المأوى في فريق ملهم التطوعي براء بابولي: يجب أن تكون الوجيبة ثلث ارتفاع البناء
كيف ينعكس على المخططات التنظيمية؟
تقسم مناطق التوزع السكاني إلى أربعة مناطق، من حيث التنظيم، فالمنطقة الأولى؛ المدن والبلدات والقرى المنظمة سابقاً، والمنطقة الثانية؛ المناطق العشوائية الخارجة عن الوحدات الإدارية، والمنطقة الثالثة؛ التجمعات السكنية التي بنيت بشكل عشوائي مؤخراً محيط المدن، والمنطقة الرابعة؛ المخيمات والوحدات السكنية المخصصة للنازحين.
وعلى الرغم من وجود أبنية ذات طابع جميل من حيث العناصر المعمارية، لكنها مشوهة من حيث المنظر الحضري والعمراني بسبب غياب المخطط التنظيمي التفصيلي، والساحات المرافق الخدمية، والشوارع الرئيسية والأرصفة، وسط نشاط ملاك الأراضي وتجار البناء في تقسيم الأراضي إلى مقاسم ومحاضر بشكل يتناسب مع عملية البيع والشراء، وهذا يصب في المصالح الشخصية لا العامة حسب ما أوضح علاء الدين الجابري، مهندس استشاري ومتخصص في تخطيط المدن.
وقال الجابري لموقع تلفزيون سوريا: "أكثر من 35 % من السكان في ريف حلب يعيشون ضمن مناطق التوسع العشوائي، والتي باتت تتمدد بشكل كبير في الآونة الأخيرة، ما أدى إلى تشوه الهوية العمرانية الحضرية".
علاء الدين الجابري، مهندس متخصص في تخطيط المدن: 35 % من السكان في ريف حلب يعيشون ضمن مناطق التوسع العشوائي
وأضاف: "تمتلك المدن مخططاً تنظيمياً عاماً؛ ومخططاً تفصيلياً محدد المقاسم، لكن بعض التوسعات العمرانية العشوائية في محيط المدن يغيب عنها المخطط التفصيلي وهذا من شأنه تحديد الشوارع والمرافق الخدمية وغيرها، مما ضاعف نسبة التجاوزات".
وطرح المهندس الاستشاري مثالاً: أن منطقة جامعة حلب الحرة والمناطق المحيطة بها خارج المخططات التنظيمية ولكن باتت مأهولة بالسكان، وحصل أصحابها على ترخيص من قبل لجنة المهندسين والمجلس المحلي، لكن تحديد عرض الشارع ومكان وقوعه كان من مسؤولية أصحاب المقاسم والعقارات، (طريقة كيفية).
وعن أسباب ظهور البناء العشوائي، أكد الجابري غياب المنظومة الإدارية للمخططات التنظيمية العامة والتفصيلية، التي تدرس المخططات التوسعية وتضع الأسس والآليات العمرانية للتجمعات السكنية الناشئة، وفقاً للمستويين رئيسيين الإقليمي والوطني، لكن غياب تلك المنظومة تسبب في مبادرات شخصية ومجتمعية أدت إلى إيجاد تجمعات سكنية دون أسس معمارية، وسط حالة الطلب والعرض على البناء والعقارات.
موقف المجالس المحلية في توسعة المخططات التنظيمية
تعتبر مدن شمالي حلب مدناً ريفية وأي توسع عمراني كان عشوائياً نتيجة ارتفاع أعداد السكان، وغياب دور المجالس المحلية في وضع مخططات تنظيمية وفقاً لمقتضيات المرحلة التوسعية التي تحتاج إلى خدمات في تأمين مرافق عامة وشبكات مياه وكهرباء وصرف صحي، وشق وتعبيد طرقات جديدة تناسب أعداد السكان في الأبنية المأهولة.
وتواصل موقع تلفزيون سوريا مع عدد من المجالس المحلية شمالي حلب للوقوف على مشكلة المخالفات التنظيمية ودور الحقيقي للمجالس المحلية، في إطار التوسعات العمرانية للوحدات الإدارية.
إلا أن مدير المكتب الخدمي في المجلس المحلي لمدينة اعزاز عبد العزيز حمدوش، رفض الإدلاء بأي تصريحات، بخصوص الموضوع قائلاً: "نعمل على المخططات التنظيمية، وفق طريقتنا الخاصة، ولا نريد التصريح لوسائل الإعلام عنها". على الرغم من أن مدينة اعزاز من أكثر مناطق الشمال السوري التي تشهد توسعاً عمرانياً عشوائياً.
مدير المكتب الخدمي في المجلس المحلي لمدينة اعزاز عبد العزيز حمدوش: نعمل على المخططات التنظيمية، وفق طريقتنا الخاصة، ولا نريد التصريح لوسائل الإعلام عنها
وفي صوران، أوضح مدير المكتب الخدمي في المجلس المحلي للمدينة، المهندس محمد فاتح طالب، أن المجالس المحلية تتحمل مسؤولية توسعة المخططات التنظيمية لأي تجمع سكاني وتضع معايير وقوانين وأنظمة، لكن غياب الدور الفاعل للمهندسين، ووجود أشخاص غير أكفاء وغير قادرين على إدارة المجالس وغياب الدولة المركزية، وتشعب الإدارات المحلية، أحدث خلل حقيقي في المخططات التنظيمية.
وقال خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": أن المجالس المحلية من الناحية الفنية غير قادرة ولا تمتلك مؤهلات وكوادر هندسية، وإجراءات قانونية صارمة لإدارة العمل حسب المخططات التنظيمية، ما أدى إلى هجوم سكني عشوائي هائل في المنطقة ويحتاج إلى ملايين الدولارات في حال الرغبة لإعادته وفق المخططات التنظيمية".
مدير المكتب الخدمي في مجلس صوران المحلي، المهندس محمد فاتح طالب: وجود أشخاص غير أكفاء وغير قادرين على إدارة المجالس وغياب الدولة المركزية، وتشعب الإدارات المحلية، أحدث خلل حقيقي في المخططات التنظيمية
وأضاف: "هندسة المدن مسؤولة عن وضع المخططات التنظيمية، وتضع دراسات من أجل التوسع العمراني والشاقولي، وتأخذ في الاعتبار الزيادة السكانية على مدى عدة سنوات، والبنية التحتية لتحديد مسار التوسع عامودياً أو أفقياً، لكن النزوح والتهجير القسري وارتفاع أعداد السكان، ورغبة الناس في إيجاد سقف يأويهم أدى إلى توسع عشوائي في التجمعات السكنية دون تخطيط وفق تجارة قائمة على الربح، وبأقل المعايير الإنشائية والهندسية".
وإلى مارع، أوضح مدير المكتب الفني في المجلس المحلي للمدينة، أن المجلس لا يوجد له أي دور في التنظيم والتخطيط العمراني، مبرراً أن وضع مخططات تنظيمية لتوسعة المدينة يحتاج إلى تجهيز بنية تحتية متكاملة (تعبيد طرقات، خدمات، كهرباء، صرف صحي، مياه)، وهذا يفوق القدرة المالية للمجلس المحلي.
وقال لموقع تلفزيون سوريا: "المجلس المحلي لا يمتلك أي سلطة على التوسعات العمرانية في المدينة في حال وجود مخالفات، ولا يتخذ أية اجراءات بحق المخالفين للمخططات والشوارع والأرصفة".
وأضاف: "توجد لجان تتابع التجاوزات التي تحصل بحق عقارات الوقف في المدينة"، مشيراً إلى أنهم يبحثون إلى إقرار قانون الترخيص في المدينة، وفقاً للقوانين السابقة بعد تعديلها".
المدن الرئيسية في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي غير مهيئة لاستقبال الكثافة السكانية الحالية، ما دفع إلى توسع عمراني اعتباطي نتج عن انعدام الاستقرار الأمني في المنطقة، وتغييب دور السلطات المحلية في تطوير المخططات التنظيمية العامة والتفصيلية بهدف الحفاظ على التوسع العمراني وفق خطط مدروسة.
وبلغ عدد السكان في مناطق سيطرة المعارضة بشمال غربي سوريا 6,017,052 نسمة، وفقاً لأحدث إحصائية صادرة عن "فريق منسقو الاستجابة"، بينهم مليون و727 ألف نسمة في ريفي حلب الشمالي والشرقي (مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري)، وأظهرت إحصائية التركيبة السكانية أن النازحين في المخيمات وخارجها يشكلون ما نسبته 49,32 في المئة من العدد الكلي للسكان.
وبحسب الإحصائية، بلغ معدل النمو السكاني في شمال غربي سوريا 30.33 بالألف، وهو من المعدلات المرتفعة عالمياً، وهذا مؤشر على أن التوسع العمراني مستمر بوتيرة مطردة.