نعول على الديمقراطية وبها نستظل ونظلل شعاراتنا وبهديها وألقها، نواجه تسلط الفرد والديكتاتوريات المتعاقبة، بغية إزاحة كل استبداد وتفويت الفرصة على غيره، مهما كان نوعه وتنوعت سبل قمعه للحريات المدنية ولحقوق المواطنين المتساوية والمكفولة بالدستور الدائم والقوانين الضرورية المكملة.
منذ رسخ اليونان والرومان قيم ومبادئ أولية للديمقراطية النسبية التي قامت على انتخاب رجال السلطة والمجالس الضرورية وفقاً لمرحلة تطورهم وبنية مجتمعاتهم، غدت الديمقراطية نظاما للحكم الرشيد ثم قام الأوربيون والأميركيون في العصر الحديث بتطويرها فكريا وفي سبل تطبيقها بغية تعميم المساواة بين المواطنين في حق الترشح والانتخاب لإشغال مختلف المناصب وليمارسوا حقوقهم في انتقاد النخب الحاكمة وسحب الثقة منهم واستبدالهم، جزئياً أو كلياً.
وبإعطاء الحق للنساء في المشاركة في الاقتراع أسوة بالرجال، تكاملت الديمقراطية وغدت مناخا للمساواة في الحقوق والواجبات والفرص المتساوية، لكل مواطن بصفته مواطنا في الدولة وله كيانه المستقل عن انتمائه الأولي إلى جماعته القبلية أو الدينية والإثنية أو غير ذلك.
ولكن هذا المسار لم يكتمل بصورته المثالية إلا نسبياً وظل متفاوتاً بين تجربة وأخرى. وواقعياً ظلت هناك فجوات وهنات معندة، يصعب إلغاؤها أو جرى التراخي معها، ومنها ما يوفره الثراء لصاحبه من فرص الوصول إلى المناصب العليا وكذلك ما يلعبه الانتماء لأكثرية إثنية أو دينية أو عشائرية أو غيرها، ولا سيما في بداية العهد بالديمقراطية، وحين يكون المجتمع لم يزل قريب العهد من علاقات ما قبل الدولة، ولما تتبلور فيه قضية المواطن الفرد المستقل عن قطيعه بعد. وحيث يبدو أن الوصول إلى مرحلة المواطنة الناضجة والمكتملة قانونيا وثقافيا وفي السلوك العام، ستظل مرهونة بمدى التطور المجتمعي والتنموي وبنية الدولة، سلبا وإيجابا وستتأثر بقدرة النظام الجديد على جعل الديمقراطية ثقافة وممارسة وسلوكا، يحدد علاقة الفرد بالدولة وبمؤسسات المجتمع المدني المنتج الرئيسي للنخب الحاكمة والقادر على تغييرها حين يستوجب التغيير. وحيث يشير هذا إلى ارتقاء مؤسسات المجتمع المدني إلى قوة موازية أو ربما راجحة على قوة السلطة في الميدان الاجتماعي ومؤثرة بقوة في المجال السياسي من خلال مراقبة أداء السلطة والضغط عليها إلى جانب كونه، هو مصدر السلطة وبداؤلها المتداولة سلمياً وبوساطة صناديق الانتخاب الدورية النزيهة.
البشرية جمعاء، لم تكتشف نظاماً مثالياً يحفظ الحقوق ويؤمن العدالة والمساواة نسبياً أكمل من النظام الديمقراطي حتى الآن.
ومن أجل أن تحافظ على هذا المستوى المتقدم، لا بد للديمقراطية من القيام بالمراجعة والتجريح والتعديل في الفكر والممارسة حتى تصل إلى أفضل صورة ممكنة. ونقول الممكنة لأن الجميع يدرك أن البشرية جمعاء، لم تكتشف نظاماً مثالياً يحفظ الحقوق ويؤمن العدالة والمساواة نسبياً أكمل من النظام الديمقراطي حتى الآن. فلقد أنقذت الديمقراطية النظام الرأسمالي الليبرالي من الكساد العام بعد الحرب العالمية الأولى وتحديدا في أزمة 1929 التي كادت تطيح بذلك النظام، فلجأت دوله إلى إصلاحات الاقتصادي (كينز) وما نصت عليه من التكافل الاجتماعي والتأمين الصحي والتعليمي الشامل، ومكنت الطبقة العاملة من الحصول على حد أعلى من الأجور والامتيازات، بما فيها حق الثقافة وساعات العمل والرفاهية فمكن هذه الأنظمة من التغلب على الكساد في الأسواق وفي الصناعة ونشطت دورة رأس المال وازدهرت الديمقراطية في أوروبا وأميركا، وصارت قدوة للشعوب في القارات الخمس. ثمّ حفل مسارها بتجارب دول وشعوب استقلت بعد الحرب العالمية الثانية وقدمت نماذج متفاوتة بدرجة نجاحها ومدى تقدمها، أهمها تجرية الهند التي تفوقت على الصين بعدد سكانها واستطاعت أن تحمي هذا الكم البشري الهائل من غائلة الجوع ووضعت الهند بين الدول التي تحقق نسب تنمية عالية وتقدما بالناتج العام ـ ولكن سرعان ما عادت تتنازعه قوى عرقية عنصرية، بعد خسارة حزب المؤتمر الهندي الذي دفع مؤسسه المهاتما غاندي حياته غيلة، بسبب حمايته للمسلمين ومناصرته لهم. وهاهم قتلة غاندي الهندوسيون المتطرفون أنفسهم عادوا إلى الاعتداء المتكرر على الأقلية المسلمة والتي تتأمل أن يعود لها الأمن والعدالة والمساواة بعد نجاح القوى الأكثر ديمقراطية في الانتخابات القادمة في هذا العام 2024 ولعلها تتغلب باللعبة الديمقراطية ذاتها على مثل هذه المشكلات والتي تقف خلفها بعض الأيادي الملوثة والمشبوهة من النخبة الحاكمة والقادمة من عصور مغرقة في الظلم.
أما في سوريا وعالمنا العربي عامة، فلم تزل الديمقراطية محل جدل ومرفوضة من بعض النخب الليبرالية الطفيلية الفاسدة وجماعات إسلامية سلفية وجهادية مسلحة كالجولاني وأمثاله، وذلك لأن الديمقراطية تجردهم من تسلطهم وابتزازهم وخداعهم الذي بات مكشوفاً، بدلالة صيحات المواطنين الخاضعين لهيئته (تحرير الشام) والمعبرة عن رفضهم للجولاني وعملهم على تحرير أنفسهم والمواطنين المستضعفين من سيطرة سلطته واستبداده وفساده.
وفي ظل هذا التشتت السوري وسيطرة سلطات الأمر الواقع المرتهنة لهؤلاء وأمثالهم، سيظل خيار الحرية ملتبسا وستظل الديمقراطية في حالة دفاع عن النفس عبر دفاعها عن الحقوق والواجبات والعدالة والمساواة وتحقيق الانتقال السياسي وإعادة توحيد البلاد بالخلاص من نظام القهر والجريمة واستبداد كل المتحكمين والفاسدين في كل أنحاء البلاد.
حين نطالب بالحرية والمواطنة المتساوية والعدالة، يعني أننا ننتصر لقيم الحياة الحرة الكريمة ونرفض الاستبداد العاري والمقنع بكل أشكاله.
ذلك هو الشرط الأساسي والأولي الذي يبدأ بتحرير المواطن وتثقيفه بحقوقه المستندة إلى شرعة حقوق الإنسان العالمية الموقعة من سوريا ومعظم الدول العربية. وحين نطالب بالحرية والمواطنة المتساوية والعدالة، يعني أننا ننتصر لقيم الحياة الحرة الكريمة ونرفض الاستبداد العاري والمقنع بكل أشكاله ونعمل للتشارك بمشاريع التنمية المستدامة التي يقوم بها الكل الوطني (دولة ومجتمع مدني والمواطنين عامة) وهو وحده ما سينعكس على حياة الجميع وعلى تقدم البلاد واستقرارها وفق منظومة تداول السلطات وانفصالها ووحدة الهدف. وحيث المآل النهائي هو الإنسان السوري المستقل عن قطيعه والمحقق لذاته وكيانه في إطار الكل الوطني. أما وأن الديمقراطية غدت مأزومة في الغرب بفعل الحروب والأمراض والتلوث البيئي واللجوء والإسلام فوبيا وغيرها فليس لها من حلول، سوى بمزيد من المعالجات الديمقراطية وربط الحرية الفردية والعامة بالمسؤولية، لأن ما تحقق للفرد في الدول الديمقراطية الغربية من مغالاة بالحرية الفردية، قد يجعلنا (نغطي تمثال الحرية كما تغطى تماثيل الآلهة المقدسة) وطبيعي أن ذلك لا يعني التخلي عن الديمقراطية، بل إعادة النظر في بنية النظام الديمقراطي الرأسمالي وجوهر قضية الحرية في عصر التشوش والتحولات الكبرى المتمثلة بالحروب الظالمة في غزة وفلسطين عامة وأوكرانيا وهي التغيرات التي بدأت مظاهرها في تفكيك أنظمة العولمة وإعادة بعض الدول الكبرى قوانين الحماية التجارية والاقتصادية وسلاسل التوريد وغيرها، مقابل محاولة التجمعات الاقتصادية الكبرى التكامل لصد أخطار هذه التطورات المنذرة بصراع لا يعرف حتى الآن مداه. لذلك وجب إصلاح الأنظمة الليبرالية الديمقراطية، لكي يبقى النظام الديمقراطي مظلة لكل الشعوب المناضلة لإسقاط الاستبداد والوصول إلى التنمية المستدامة والعدالة مروراً بالعدالة الانتقالية الضرورية عندنا لإقامة السلم الأهلي والتسامح والهوية الوطنية الجامعة.