الموسيقيون الذين يجتازون حواجز اللغات، هم سفراء إبداعيون بالغو القيمة والأثر وتشكل إبداعاتهم الجمالية المشتركة معياراً لمدى التثاقف بين الأمم, ولأنهم صانعو الجمال الذي (سينقذ العالم) حسب ما ذكره ديستوفسكي عام 1868 في روايته الأبله) فإن من حقنا نحن السوريين، أن نعوّل على نخبنا الفنية المبدعة للجمال في إنقاذنا بدلا من الفشل المتوارث للنخب السياسية، ولا سيما بعد أن انتشر مبدعونا في أربعة أقطار الأرض وحققوا بإبداعاتهم الفنية والجمالية شهرة، اتسعت لتشمل الفنون التشكيلية (الرسم والنحت) والموسيقا والغناء والآداب ومختلف النشاطات الفنية كالمسرح والسينماـ أي الثقافات المقروءة والمسموعة والمرئية على حدّ سواء.
الموسيقا أقدر الفنون على تجاوز الحواجز اللغوية وربما أسرعها
وإذا كنت سأخصص هذا المقال للحديث عن تجربة موسيقية متفردة ومميزة، فلأن فنانها عازف العود خالد الجرماني، قد حقق انتشارا واسعا في دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام وفي فرنسا بشكل خاص، وفي انتشاره وتجواله خلف حفلاته الهائلة. وبفضل موهبته المميزة وحرفيته المهنية الأكاديمية جعل من العود آلة مطلوبة ولها عشاقها من الأوروبيين، وإضافة لعراقة عوده الذي، تلقن مبادئه الأولية على يد والده، فقد ساعده أيضا في هذا التألق والوصول إلى المتذوق الأوروبي للموسيقا الشرقية، تلك المزاوجة الفريدة التي حققها مع صديقه نجم البوب الفرنسي (سيرج تيسوغي ) حيث قدما معاً خلال سنوات تعارفهما نمطا من التناغم الهرموني بين العود الشرقي والغيثار الغربي وعددا هائلا من الحفلات وسجلا خمس أسطوانات مشتركة.
وفي هذا المجال يقول العازف خالد الجرماني: "لقد أثارت آلة العود فضول الجمهور الفرنسي واستقبلني بشغف وإكرام كبيرين وخلال العشرين سنة من 2003 و2023 من أعمالنا المشتركة صار الجمهور الفرنسي يتابع تجاربنا ويحجز مسبقا بطاقاته لحضور حفلاتنا.
وقد كتبت مجلة تيليراما: "يتعامل خالد الجرماني مع الموسيقا كرحلة في الوجود الداخلي وكحالة من البحث الدائم عن الانسجام بين الهارموني الموسيقية والمشاعر الإنسانية.
ومشاريعه الفنية تقوم على تبادل الأفكار والتجارب مع الآخرين لخلق أشكال موسيقية جديدة عبر لقاء الثقافات وكذلك التوليف والانسجام الهارموني بين الموسيقا والكلمات الشعرية الصوفية الزاخرة بالمشاعر الإنسانية والأحاسيس وشتى العواطف والانفعالات، التي تغذي الوجدان وتصقل العاطفة وتبعث النشوى والجوى وتريح النفوس المتعبة.
وعن معرفته بصديقه الفرنسي، بدأت القصة من خلال صحفي في جريدة ليبراسيون حيث تعرف العازف السوري إلى صديقه سيرج خلال دعوته 2001 إلى المركز الثقافي الفرنسي فتصادقا منذ ذلك الحين وشكلا ذلك الثنائي المبدع.
وبعد وصول مهند الجرماني الشقيق الأصغر لخالد في فرنسا عام 2013 بات يشاركهم العزف المشترك غالبا، وأنجز الثلاثة أعمالا لافتة، استخلصت روح الشرق ونفحات من روحانياته وتصوفه واكتسب الأخوان من القيثار وأكسباه بعدا شرقيا مفعما بعواطف الشرق وفلسفته الوجودية وحقق الثلاثة أبلغ الأثر في الاندماج بين ثقافتين عبر ثلاثة عازفين وتمكنوا من التأسيس لنمط آخر من الوعي بالذات وبالآخر المغاير الفردي والجماعي والانفتاح الحضاري خلال فترة وجيزة، تعجز أن توفرها الثقافات الكتابية البطيئة الانتشار والتأثير، بسبب حاجز اللغات وقلة عدد الراغبين بالقراءة قياساً إلى محبي الاستماع إلى الموسيقا والمتأثرين بها.
رحلة مع العود
يقول خالد الجرماني لقد تعلمت العزف على يد المرحوم والدي منذ الطفولة، ثم يروي حكاية طريفة، فيقول في فرع فلسطين سنة 1991 سجننا نظام الأسد مدة تسعة أشهر وكنا 23 طالبا ثانويا من مدينة السويداء وذلك لإدانتنا الحرب على العراق وفي الفرع، صنع لي زملينا الأكبر سنا المرحوم عادل عبيد عودا من تنكة زيتون وخشب صندوق الخضرة، وبعد تخرجي من المعهد العالي، اخترت التدريس في كلية التربية الموسيقية في حمص في بلد لا يؤهل الفنان فيه إلا بتزكيته من السلطة. وهكذا اصطحبت عودي وجلت في أنحاء سوريا، ابتداءً من المركز الثقافي في السويداء ودرعا ثم حلب وسلمية حتى وصلت إلى الشجرة أبعد قرية حدودية.
وفي باريس 2001 قرر المعهد العربي إنتاج إسطوانتي (أثر ) منفردا، وبدأت أجذب أسماع الفرنسيين ثم الأوربيين وأذواقهم.
العود سفينة نوح المنقذة من الغرق
يقول خالد: العود آلة سومرية وصلت قديما إلى الصين وبتأثير منها، أنتجت آلة البيوا ثم انتقلت إلى الأندلس فأنتجت آلة اللوت ملك آلات موسيقيي الباروك. وقد تابعت آلة العود تطورها حتى اتخذت شكلها الحالي وسجلت وما زالت تسجل فتوحات موسيقية جديدة ومهمة. ورغم كل مراحل تطورها ظلت الآلة الأكثر شعبية في العالم العربي وفي الشرق. (إنه كسفينة نوح المرسلة لنجاة ثقافتنا من الغرق في طوفان العولمة والأشكال الداحمة بقوة على ثقافتنا وموسيقانا الأصيلة).
أهم المشاريع التي عمل عليها
ألف الفنان خالد أسطوانة للعود المنفرد بعنوان ( أثر) أنتجتها شركة هارمونيا موندي. ومعهد العالم العربي في باريس 2013. و أقام حفلاته في فرنسا, سوريا , بلجيكا , سويسرا. ثم ألف ثنائي ( Interzone) مساحة التقاطع مع (Serge Teissot-Gay ) عام 2002 أصدر خمس ألبومات وبين 2003 و2019 أنتج مساحة التقاطع ومساحة التقاطع اليوم الثاني إنتاج يونڤيرسال. وبانتظار الربيع, وكان يا ما كان ثم آخرها في شهر آيار 2022 أنتج ألبوم وصلة مع عازف الكلارينيت رفائيل ڤويار Raphael Vuillard ثلاث أسطوانات: باب السلام لشركة هارمونيا موندي. زرياب 2015 و مرام سنة 2019، وأخرجوا ثلاثة عروض موسيقية رحلة زرياب و ليس بالأجنحة وحدها نطير ودرويش. مع جولات ومئات الحفلات في أوروبا والعالم العربي وأكثرها في فرنسا.
التعريف المختصر بالعازفين
خالد الجرماني: مواليد 1972, خريج المعهد العالي للموسيقا دمشق سنة 1999.
مهند الجرماني: مواليد 1979 عازف الإيقاع والعود والغناء في الفرقة الثلاثية خريج المعهد العالي في دمشق 2008 شارك مع العديد من الفرق السورية منها الموسيقا العربية بين 2006 و2011. ومع عباد عازورية في أوركسترا حوض المتوسط تبعها جولة إلى ( فرنسا والمغرب والمكسيك وغيرها ) وشارك (عودوغناء) مع رفائيل فيولارد (كلارينيت) يقيم في فرنسا منذ 2012 وشكل مع أخيه خالد مجموعة المنفى وفي عام 2017 شارك الممثلة الفرنسية نورة كرييف عرضها المسرحي (الأطلال أغنية أمي) ومازال العرض يقدم إلى اليوم.
عام 2019 أسهم في عرض درويش قام بتأليف موسيقا للعرض الموسيقي الراقص (OUM) مع مصمم الرقصات فؤاد بوسوف وجولة (فرنسا، النرويج، بلجيكا، إيطاليا، ألمانيا) ومازال العرض يقدم إلى يومنا.
سيرغ تيسيوجاي: عازف قيثار فرنسي مواليد 1963 شارك في تأسيس فرقة الروك طور عمله الشخصي في توليف النصوص الأدبية على الموسيقا، وطور عملاً يركز على الصوت والبحث عن الشخصية الاستكشافية وتجسيدها في التسجيلات والعروض الحية، ويتعاون مع صانعي الأفلام والرسامين والفنانين البصرين ومصممي الرقصات، وتنقل بين لبنان وسوريا واليابان والصين ومن موسيقا الجاز إلى الموسيقا المعاصرة وغيرها من الأنواع الحرة.