بدأت نخبُ الشعوب العربية عملية بناء الدولة الوطنية خلال مراحل النضال المبكر ضد الاستعمار الغربي، وأسهم الاحتلال عن غير قصد في تفكيك المنظومة المؤسساتية الموروثة من زمن السلطنة العثمانية.
وكان ذلك بالطبع لإحلال أنظمة تشغيلية تتوافق مع منظومة العمل السارية في الدول المستعمرة مثل بريطانيا وفرنسا. لم يسعف الوقت هذه النخب لإكمال البناء، فقد تداخلت عوامل كثيرة لإعاقة مسيرتها، من بينها ثقل الموروثات المتراكمة في البنى السياسية والثقافية والاجتماعية التحتية والفوقية، كما كان من بينها أيضًا تدخل الأطراف الخارجية التي ساعدت في إرساء عقلية التفكير الانقلابية وتغليبها على مبدأ التداول الديمقراطي للسلطة.
لعبت وكالات المخابرات الأجنبية، وعلى رأسها الـ(CIA)، دورًا كبيرًا في ذلك، والأمثلة أكثر من أن تُحصى، بدءًا من انقلاب حسني الزعيم في سوريا مرورًا بالانقلابات في اليمن والعراق وليبيا، وصولًا إلى الانقلاب على مصدق في إيران وحتى تركيا وانقلاباتها الشهيرة. لا ننسى بكل تأكيد إقامة الحركة الصهيونية بدعم مباشر وقوي من الأوروبيين لدولة إسرائيل، وهذه لوحدها لعبت أكبر الأدوار في إعاقة حركة التطور الطبيعية لبناء الدول الوطنية العربية.
لم يكن الحال أفضل في الدول ذات الحكم الوراثي، فبناء دولة المواطنة الحديثة كان على نقيض مع مفهوم الأسرة المالكة، لذلك تطورت البنى التحتية لمؤسسات الحكم في هذه الدول دون أن تتطور البنى الفوقية.
انقطعت مع الانقلابات في الدول العربية سيرورة بناء المؤسسات، وحلّت مكانها سيرورة جديدة تهدف إلى تثبيت سلطة مجموعات طبقية جديدة تحت عباءة إيديولوجيات شعبوية يسارية مرة وقومية مرة أخرى. انحسرت مراكز القوى المتصارعة تحت هذه العباءة الفضفاضة لنصل في نهاية الأمر إلى تثبيت حكم مجموعات من الأسر أو الأفراد، كما كان الحال في ليبيا القذافي ويمن علي عبد الله صالح وسوريا الأسد وعراق صدام حسين. تحولت هذه العملية بالتدريج إلى بناء الدول على مقاس الأفراد مطلقي الصلاحيات والسلطات، فذوت الدول وأصبحت مؤسساتها هياكل شكلية تدعم هذه الأسرة أو ذلك الفرد. لم يكن الحال أفضل في الدول ذات الحكم الوراثي، فبناء دولة المواطنة الحديثة كان على نقيض مع مفهوم الأسرة المالكة، لذلك تطورت البنى التحتية لمؤسسات الحكم في هذه الدول دون أن تتطور البنى الفوقية. لقد قتلت الأنظمة العربية بنوعيها السياسة، فابتعد الناس عن العمل في الفضاء العمومي وانحصر همهم بالاشتغال ضمن المساحات غير الخطرة، سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية أم غيرها.
رغم الفرق الواضح بين حياة الأفراد في الجمهوريات عنها في الملكيات من حيثُ الرفاهية أو الاكتفاء بالحدّ الأدنى من أساسيات العيش، ومن حيث شدة القمع السياسي الممارس، إلا أن المشترك بينها كان الابتعاد عن الشأن العام، بعد أن أصبح هذا الشأن خاصًا بالسلطة وممنوعًا على المجتمع. مع انهزام السياسة في مجتمعاتنا العربية، انهزمت المجتمعات ذاتها، فالمجتمع من دون السياسة مثل الموسيقا من دون ألحان؛ يبقى مجتمعًا لكنه مفرغٌ من الفاعلية والمعنى والقيمة. يصبح البشر فيه مثل المجترّات من الكائنات الحية، يعيدون ويكررون ما تلوكه السلط الحاكمة من تفاهات وترّهات حول الصمود بوجه المؤامرات الخارجية والتصدي للاستعمار الحديث ومقارعة الإمبريالية وتحرير فلسطين، وغيرها مما جادت به قرائح مثقفيها طوال نصف قرنٍ وأزيد.
مع تحوّل مفهوم العدو من خارجي إلى داخلي، تغيّرت أولويات الأمن القومي، فأصبح بناء استراتيجيات الدفاع مرتبطًا عند الأنظمة الديكتاتورية بما يضمن استمرارها في الحكم، بغض النظر عن النتائج على الأوطان والدول.
بانهزام المجتمع تتراجع فرصُ إعادة إنتاج السياسة أيضًا، ويصبح الأفق مسدودًا ويفقد الناس الأمل. هنا، في لحظات معينة وعندما يصبح الوطن سجنًا والشعار قيدًا والسلطة قهرًا، يأتي طوفان الصبر النافد ليقلب الأمور رأسًا على عقب، وتأتي الثورات الشعبية لتكنس العفن وتفتح المجتمعات أمام أشعة الشمس أملًا بتطهيرها من الوباء المستشري فسادًا وتسلطًا واستعبادًا للبشر. لكنّ الثورات بحاجة لفكر يقودها، كما هي بحاجة لسياسيين قادرين على تحويل التضحيات إلى نتائج ملموسة، ولأنّ المجتمعات المسحوبة السياسة لا يمكنها أن تنتج هذين الشرطين، تفشل الثورات وتتحول إلى حروب أهلية أو تعيد إنتاج الاستبداد بأشدّ مما كان عليه قبلها.
مع بدايات تحرر الشعوب العربية من الاستعمار، وفي فترة تشكّل الدول الحديثة، كان هناك من يفكر بالوحدة العربية، وكان هناك من يتحدث بمفاهيم الأمن القومي العربي انطلاقًا من إيمانه بوجود أمة عربية قابلة للتكوّن. وكان السعي للوحدة من أجل بناء دولة قومية عربية تشكّل الوعاء الحامل لهذه الأمة، والصاهر لمكوناتها، والمنتج لقيمها مثل بقية الأمم. لكنّ الواقع شيء والأحلام شيء آخر، فلم تكن مسارات تطور الدول العربية المختلفة متجهة نحو تحقيق تلك الفكرة، لأنّ تحديات إدارة الدول الوطنية كانت أولى من بناء الدولة العربية القومية الموحدة، خاصة وأنّ التفاوت في البنى السياسية وفي التاريخ السياسي كان كبيرًا جدًا بين دولة وأخرى. لقد كانت المملكة العربية السعودية مثلًا آخر دولة تنشأ في العالم وفق مفهوم الغلبة والعصبية القبلية، بينما دولة مثل مصر كانت قد راكمت مركزية ممتدة عبر العصور، وشكّلت مفهوم الأمة المصرية قبل أن تلحقها صفة العروبة بكثير، كذلك الأمر في المملكة المغربية التي تمتد جذورها مئات السنين إلى الوراء في التاريخ.
في سبيل الحفاظ على مصالح الأسر أو المجموعات الحاكمة كان لا بد من أدوات تطوع بها الشعوب، وإضافة لأجهزة الأمن والمخابرات كان للجيوش في الجمهوريات دورٌ أساسي في ضبط المجتمعات، فأصبح دورها مركزيًا في بعض الدول لدرجة أنّها تحولت إلى دولة داخل الدولة مثل حال الجيش المصري، أو أن تصبح جيوشًا للفرد الحاكم مثل الحالتين الليبية والسورية. وفي جميع هذه الحالات تتحول وظيفة الجيش من حماية الحدود وصيانة الاستقلال وتعزيز الأمن القومي إلى حماية نظام الحكم. ولأنّ أنظمة الحكم هذه تكون فاقدة للشرعية بالضرورة، فإنّ أعداءها داخل الوطن وليس خارجه، أي الشعوب ذاتها وليس الصهيونية ولا الإمبريالية أو أي من هذه الترهات. هكذا يبدأ الحلف بين هذه الأنظمة لتشكيل جبهة موحدة ضد الشعوب.
مع تحوّل مفهوم العدو من خارجي إلى داخلي، تغيّرت أولويات الأمن القومي، فأصبح بناء استراتيجيات الدفاع مرتبطًا عند الأنظمة الديكتاتورية بما يضمن استمرارها في الحكم، بغض النظر عن النتائج على الأوطان والدول. ففي مواجهة الشعوب الطامحة للحرية والكرامة، استخدمت الأنظمة العربية السلاح ضد الشعوب ثم نشرت الفوضى لتجعل الأمن حلمًا مرتبطًا بالدكتاتورية. وبعضها عمل على استثمار الفوضى لتفتيت بنية الدولة وإحلال الميليشيات مكانها. ولأنّ الميليشيات تصبح أقوى مع الزمن، ستولد مشكلات من نوع آخر تحتاج إلى حلول مختلفة، لذلك رأينا تسارعًا في التطبيع بين إسرائيل وكثير من الأنظمة العربية، في طريقه للتحوّل إلى حلفٍ في مواجهة الراعي الأول للميليشيات، أي إيران. ليس من السهل على هذه الأنظمة إدراك أن الحصانة والمنعة الوطنية لا تكون إلا من الداخل ومن الشعب حصرًا، فالمتدثّر بثوب العيرة بردان كما يقول المثل الدارج. من هنا يبدو أنّه علينا الانتظار طويلًا حتى نعود لمفاهيم الدول الوطنية والأمن القومي الحقيقية.