في ظل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، تتجه حكومة النظام السوري نحو تحويل الدعم العيني للمواد الأساسية إلى الدعم النقدي، خطوة تُرى من قبل كثيرين كآخر محاولة لتخلي النظام عن مسؤولياته الاجتماعية تجاه المواطنين.
هذا التحول، الذي يشمل تحرير أسعار السلع الأساسية مثل الخبز والمحروقات، يثير العديد من التساؤلات حول تأثيره الفعلي على الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع السوري.
بينما تدّعي حكومة النظام أن الهدف هو ضمان وصول الدعم إلى مستحقيه دون تلاعب، لكن خبراء اقتصاديين يرون أن هذه الخطوة تهدف بالأساس إلى تخفيف العبء المالي عن النظام، على حساب زيادة معاناة المواطنين الذين يعتمدون على الدعم لتلبية احتياجاتهم اليومية.
وكان رئيس النظام السوري بشار الأسد قد مهّد في آذار الماضي، لتغيير قادم في نظام الدعم قائلاً إن "الإجراءات المطبقة لصالح الفقير تنعكس عليه سلباً فالدعم هو لصالح الفقير لكنه أفقره"، مضيفاً أن الأولوية ستكون لفرص العمل لأن إبقاء الدعم مع تثبيت الأسعار "سيبقي الفقير فقيراً".
في هذا التقرير، نلقي الضوء على آلية الدعم النقدي الجديدة، وتبعاتها المحتملة على الشريحة الأضعف في المجتمع، خصوصاً بعد إخراج النظام آلاف العائلات من المنظومة خلال السنتين الماضيتين.
الدعم في سوريا
تشمل المواد المدعومة في سوريا الخبز والسكر والشاي ومواد غذائية أخرى، وتشمل أيضا مشتقات نفطية هي المازوت والبنزين والغاز المنزلي، وكان يتم الحصول على هذI المواد بسعر مخفض ولشرائح معينة من الأسر عبر ما يعرف بالبطاقة الذكية التي فرضت عام 2019 لبيع المحروقات في البداية. وبعد عام أصبح بيع المواد التموينية عن طريق البطاقة، ليدخل بعد ذلك الخبز في نطاق البيع عبر البطاقة ابتداء من عام 2021.
ولا يخفى أنّ حكومة النظام تسعى منذ سنوات إلى التخلص من سياسة الدعم التي استمرت عقودا في سوريا، وذلك بمزاعم توجيه الدعم إلى مستحقيه فقط، فلجأت إلى عمليات "فلترة" استثنت بموجبها آلاف العائلات من حق الحصول على الدعم، فأصبح كل مالك لسيارة بحجم محرك معين خارج المنظومة بدعوى أن القادر على امتلاك سيارة (خاصة) مقتدر مادياً ولا يحتاج دعماً، وذلك في تجاهل واضح لكون كثير من أصحاب السيارات يستعملونها كوسيلة نقل مقابل أجر.
وتابعت حكومة النظام إخراج فئات أخرى من المجتمع من دعم المواد الاستهلاكية ضمن "مشروع إعادة توزيع الدعم الحكومي وإيصاله إلى مستحقيه" الذي بدأ منذ عام 2022، لكن التوجه مؤخراً طرأ عليه تغيير جذري في الآلية عبر التحول إلى الدعم النقدي.
اقرأ أيضا.. مسؤول في برلمان النظام السوري يلمّح إلى تضاعف سعر الخبز عند تطبيق "الدعم النقدي"
إعادة هيكلة؟
وفي بيان الإعلان عن التحول من دعم السلع إلى الدعم النقدي، قالت وزارة المالية في حكومة النظام السوري إن "الحكومة تدرس ملف إعادة هيكلة الدعم بشكل مخطط ومدروس ضمن سياسة عقلنة الإنفاق العام والسعي لإيصال الدعم إلى مستحقيه بكلِّ كفاءة وعدالة". وهي إشارة إلى أنّ العديد من الفئات الجديدة يمكن أن تخرج من الدعم بعد أن طال الاستبعاد السابق نحو 600 ألف عائلة.
وبررت الوزارة التوجه الجديد بأنه "إرساء سياسة دعم شاملة وعصرية تلبي متطلبات الإخوة المواطنين بشكل مباشر"، مع إشارة إلى أن الهدف الأساسي من تحويل الدعم إلى نقدي هو التخلص من حلقات الوصل التي تُنتج الفساد في عملية التوزيع.
في المقابل، يرى خبراء اقتصاديون أن الدعم النقدي لن ينجح في التخفيف من الفساد، باعتباره يبدأ من مرحلة احتساب تكلفة المواد (الخبز مثالاً).
وفي هذا الصدد يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق ومدير مكتب الإحصاء السابق شفيق عربش لصحيفة الوطن المقربة من النظام إن التحول إلى الدعم النقدي - الخبز على سبيل المثال - لن ينجح في التجفيف من الفساد، معتبرا أن الفساد في الأصل ناجم عن الخطأ في احتساب الكلفة وهو أمر مستمر.
وأوضح أن الدعم النقدي سيؤدي إلى هدر في الأموال التي ستوزع لأن كل البطاقات مدعومة ستأخذ نصيبها رغم أن كثيراً من المواطنين ولأسباب متعددة لا يقفون على منافذ البيع وإنما يشترون مخصصاتهم أمام الأفران من البائعين المتواطئين مع عاملين في الأفران.
ما الجديد؟
ركّز بيان "مالية النظام" على دعوة جميع المواطنين إلى فتح حسابات مصرفية في البنوك (الخاصة أو العامة) "لتطبيق برامج إعادة هيكلة الدعم وفق برنامج زمني مدروس ومخطط". ولم توضح الوزارة الإجراءات التقنية التي ستتبع في النظام الجديد، لكن السؤال الذي طرحه الأهالي هو: ما الحاجة إلى حساب مصرفي طالما أنّ حامل البطاقة الذكية يستطيع الحصول على المنتج بالسعر المدعوم عبر تقديمه البطاقة في منفذ البيع مباشرة فما الحاجة لتعقيد العملية أكثر بإضافة حلقات جديدة؟
كان هذا الغموض في البيان وعدم شرح "الدراسات المعمقة التي تجريها الوزارات والجهات المعنية بملف الدعم" (وفقا للبيان) هو أكثر ما أقلق السوريين المتبقين في منظومة الدعم، فوجود دراسات جديدة للدعم يعني احتمالية خروج شرائح إضافة من المواطنين وهو أمر لن يستطيع هؤلاء مجاراته لأن الدعم بالنسبة لهم آخر الحلول، مما قد يضعهم أمام تحديات معيشية صعبة تزيد من معاناتهم اليومية.
وما زاد مخاوف الأهالي هو الحديث عن أنّ أحد أسباب تطبيق الإجراء هو ما تمّ الإشارة إليه بـ "صعوبة الظروف ومحدودية الموارد"، مما أثار التساؤلات بشأن قدرة حكومة النظام على تغطية هذه الأموال المعادة إلى حسابات المستفيدين بعد دفعهم ثمن المواد المدعومة بسعرها الحر.
كيف يعمل نظام الدعم النقدي؟
وبحسب عضو "لجنة الموازنة والحسابات" في "مجلس الشعب" التابع للنظام، محمد زهير تيناوي، فإن التحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي يعني بيع المواد المدعومة بسعرها الحر، وتحويل الفارق النقدي عن سعرها الحالي إلى الحسابات المصرفية التي تم فتحها للشرائح المدعومة.
على سبيل المثال، أوضح تيناوي في تصريحات لموقع أثر برس أنه حالياً تباع ربطة الخبز المدعومة بسعر 400 ليرة سورية. وعند تطبيق الخطة الجديدة، سيصبح سعر ربطة الخبز 3000 ليرة سورية في السوق الحر. والفارق بين السعر المدعوم الحالي والسعر الحر، والذي يبلغ 2600 ليرة سورية، سيتم تحويله إلى الحساب المصرفي للمستحقين.
رصيد يحوّل إلى مشتريات؟
من جانبه، يرى الخبير الاقتصاد جورج خزام أن توزيع النقد على شكل أموال لا يمكن تطبيقه مطالباً أن يكون توزيع الدعم نقدا برصيد مالي على البطاقة الذكية يتم سحبه على شكل مشتريات من صالات السورية للتجارة، معتبرا أن آلية توزيع الدعم المالي نقدا عملية صعبة التنفيذ، لكثير من المعوقات التي تمنع سحب الرصيد المالي من الصرافات أو الفروع البنكية.
واقترح خزام أن يكون شراء الخبز والسكر والغاز والرز والزيت بسعر غير مدعوم من صالات السورية للتجارة بالرصيد المالي الوارد من الدعم بالبطاقة الذكية.
واعتبر في تصريحات على قناة سما المقربة من النظام أن أي إصلاح لآلية الدعم خارج فكرة الدعم نقدا برصيد مالي على البطاقة الذكية، هو إصلاح لن يحقق الغاية منه سوى العمولات لمزيد من حلقات التوزيع.
اقرأ أيضا.. أستاذ جامعي: الدعم النقدي في سوريا لن يجفف الفساد والحل برفع الرواتب
ترك المواطنين تحت رحمة السوق وتخل عن المسؤوليات الاجتماعية
ويرى الباحث الاقتصادي مناف قومان أن الدعم العيني للمواد والخدمات يتطلب توفيرها ووضعها على أرفف المؤسسات الاستهلاكية في عموم المحافظات السورية، ومعظم تلك السلع مستوردة، لذا على حكومة النظام توفير العملة الصعبة لشرائها وتحمل عجز مالي من فارق سعر السوق والسعر المدعوم.
ويعتقد قومان في تصريحات لموقع تلفزيون سوريا أنه ضمن الظروف الاقتصادية السيئة التي يعاني منها النظام، سيكون تحويل الدعم من العيني إلى النقدي هو الخيار المفضل للنظام. هذا التحول يترك المواطنين تحت رحمة السوق والمستوردين في شراء السلع بالسعر الحر، ومن ثم تخفيف سطوة العجز المالي الذي يتحمله لقاء الدعم، والأهم أيضاً إبعاد شبح المسؤوليات الاجتماعية التي تلاحقه وتحميلها على السوق.
لذلك، يرى قومان أن هذا التحول هو قبل أن يكون تنصلاً من دعم شرائح محددة، هو تنصل من عملية الدعم برمتها من جراء حالة العجز التي وصل إليها النظام.
تأثير التضخم على الدعم النقدي
المستشار الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي، يوضّح أن تحويل الدعم إلى نقدي هو خطوة تشير إلى خروج حكومة النظام من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سوريا والتخلي عن كافة مسؤولياتها. يرى القاضي أن الحكومة ستوهم المواطن بتقديم دعم نقدي، ولكنه سيكون ضعيفا جدا بسبب التضخم، مما يجعله غير فعال في تحسين مستوى معيشة المواطنين. على سبيل المثال، راتب الموظف الحكومي لا يتجاوز 15 دولارا في الشهر، لذا من غير المرجح أن يتجاوز الدعم النقدي المقدم دولارين أو ثلاثة دولارات.
وأشار القاضي في تصريحات لموقع تلفزيون سوريا إلى أن الدعم النقدي سيكون عرضة للتضخم، حيث أن قيمة الدولارين اليوم قد تنخفض إلى نصف دولار في العام القادم. فعلى سبيل المثال، كان الدولار يساوي 8000 ليرة سورية منذ فترة قريبة، والآن أصبح بحدود 15000 ليرة سورية. ومن النادر أن يرتفع الدعم بنفس ارتفاع التضخم، مما يجعل الدعم النقدي مبلغا بلا قيمة حقيقية، مضيفا أن الحكومة ستستخدم هذا الدعم النقدي كوسيلة إعلامية للترويج بأنها تدعم المواطن، بينما في الواقع، لن يكون له أثر ملموس في الحياة اليومية، كما قد يؤدي هذا الدعم أيضا إلى رفع الأسعار بشكل غير مباشر.
ويرى القاضي أن حجم الدعم النقدي لن يتجاوز الدولارين إلى ثلاثة دولارات، وهو مبلغ زهيد جدا لا يمكن أن يرفع من المستوى المعيشي للمواطن السوري.
وأكد الدكتور أسامة القاضي على أن الدعم النقدي لن يساهم في تحسين السوية المعيشية للمواطنين، بل سيستخدم كأداة إعلامية لتضليل الشعب وزيادة تحكم النظام في الاقتصاد.
وفي الختام، يؤكد الخبراء الاقتصاديون أن التحول إلى الدعم النقدي سيؤدي إلى زيادة ضغوط الحياة على الفئات الأكثر فقراً وضعفاً، وستزيد هذه الخطوة من حدة الأزمة الاقتصادية مما يعزز من استياء الشعب تجاه السياسات الاقتصادية للنظام.