ليس غريباً أن نرى معظم أبطال الدراما السورية منحازين سياسياً إلى صَفّ نظام الأسد؛ ذلك للارتباط الوثيق بين شركات الإنتاج والنظام الذي له باع طويل بتدجين المجتمع والاقتصاد.
حتى الأعمال التي تطرح نفسها كناقدة أو معارضة لا تخرج عن هذا الإطار، فنجوم مثل ياسر العظمة ودريد لحام وأيمن زيدان وآخرين وغيرهم، دخلوا إلى عالم الفن من بوابة الأعمال المعارضة لتوجّهات (الدولة).
كانت تلك الأعمال تساهم بشكل ممنهج في "تطهير" صفحة النظام من كل دنس، ويمكن أن نعتبر ذلك بمنزلة رشوة للرقابة للسماح بمرور العمل؛ لكن مواقف القائمين على هذه الأعمال بعد الثورة يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن تلك الرسائل ليست رشوة بل هي ثيمة العمل وغاية إنتاجه.
يوميات مدير عام.. "الرئيس كويّس ولكن الحواليه..."
مسلسل "يوميات مدير عام" مثال واضح على تلك الازدواجية، فالمسلسل ذو الجماهيرية الواسعة يناقش في جزأيه قضية الفساد.
وعلى الرغم من الفارق الزمني الكبير بينهما؛ إلا أن الجزء الثاني لم يضف شيئاً جديداً لفكرة المسلسل، اللهم باستثناء تحول الرشاوى من علب السمنة والزيت إلى رصيد اتصال الهاتف المحمول بعد أن منحت سياسات "التطوير والتحديث" التراخيص لشركات الاتصال.
يلعب الممثل أيمن زيدان دور المدير العام، الرجل "النزيه" الذي يتنكر بأشكال مختلفة ويدخل إلى مكاتب الموظفين ليكتشف مكامن "الفساد" ويعالجه بطريقة لا تخلو من الكوميديا السوداء.
المفارقة المضحكة تكمن في أن المدير العام "شخصية نظيفة"، وعندما طلب منه الوزير أن يمرر معاملة غير نظامية رفض بشدة، وكان ذلك اختباراً من الوزير الذي يصوره المسلسل أنه مسؤول نزيه أيضاً، وهو الحامي للمدير العام. والوزير بدوره مدعوم من الــ (إلي فوق) وهم مثال للنظافة والاستقامة ولا يعلمون بما يجري! هم يحاولون الإصلاح بكل طاقاتهم، لكنها تظل "عوجا" والطابق "مكشوف" بحسب أغنية شارة المسلسل.
ما هو الفساد الذي يطرحه المسلسل؟ ومن هم الفاسدون الذين يكافحهم المدير العام والسيد الوزير؟
إنهم باختصار الموظفون العاديون ورؤساء الدوائر ومديرو المديريات، وهؤلاء يمثلون الناس. أي أن الرسالة المبطّنة التي تصل للمتلقي العادي من وراء حلقات المسلسل: "نحن نستاهل اللي جرى علينا لأننا أصل الفساد"!
ولعل هذه المقولات أصبحت شعارات يروجها النظام عبر وسائل إعلامه الجماهيرية. فبعد اندلاع الثورة السورية نجد أن الدكتور البوطي يطرح فكرة أن "الإصلاح يبدأ منك"، عندما تحاول الإصلاح فيجب أن تبدأ بنفسك معتمداً على تراث طويل من الأحاديث المنزوعة من سياقاتها الاجتماعية والسياسية. فاعتمد مثلاً على حديث ليس ضعيفَ السند فحسب، بل ويكذبه الواقع أيضاً، وهو منقول عن الشيخ الألباني: "كما تكونوا يولّى عليكم".
ووفقاً لهذا الحديث، فشل المدير العام في الإصلاح لأنه لا ينتمي إلى طبقة الموظفين الفاسدة، لكن هذا الاستطراد يتوقف عند المدير العام ولا يتعداه إلى الذين هم (فوق)، فيبقون رمزاً للنزاهة وليبقى الشعب هو الفاسد.
"مرايا" ياسر العظمة وتشويه الوقائع
يطرح مسلسل "مرايا" نفسه على أنه محاولة لتسليط الضوء على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي من دون زيادة أو نقصان، فـ المرايا دقيقة كما يُفترض، ولكن هذه المرايا "المزيفة" لم تقترب يوماً من جذر المشكلة وأساسها، واكتفت بنقد حالات فردية من المجتمع.
عندما نقول نقد؛ فإننا نعطي هذه المرايا قيمة لا تستحقها، إذ إن ما يجري في مرايا هو تنمر على فئات اجتماعية عريضة واستخدام ألفاظ نابية في إطار من كوميديا التهريج.
غالباً ما يكون تنمر العظمة على سائق تكسي أو موظف بسيط، وبأفضل الأحوال يمكن أن ينتقد مسؤولا كبيرا، لكن سرعان ما نرى ارتباك هذا المسؤول ومحاولته لِلفلفة الموضوع.
لماذا يخاف مسؤول كبير من الفضيحة؟ والجواب بكل بساطة: كي لا يفتضح أمره وتعلم قيادته (اللي فوق) بفساده، فالقيادة رمز للنزاهة والاستقامة بحسب مرايا ورسائل شركات الإنتاج.
قيل إن حافظ الأسد قال للعظمة يوماً: "قل ما تريد ولا تخف من أحد وإذا كنت بحاجة للأفكار فأنا جاهز لأعطيك أفكاراً جديدة". ويبدو أن الأسد الأب قد لاحظ ضحالة الأفكار بمرايا العظمة فعرض عليه التعاون وإعطاءه أفكاراً جديدةً، فالعظمة تلاحقه دائماً تهم بسرقة أفكار وقصص لوحات، وهذا ما جعله يضيف عبارة "مما سمع ورأى وشاهد" تحت عبارة "تأليف ياسر العظمة" في شارة المسلسل.
"لعنة الطين".. لعنة القيادة بطيئة الفهم.
مسلسل "لعنة الطين" من المسلسلات التي تناقش شبكات الفساد والتهريب فترة ثمانينيات القرن الماضي. المسلسل من تأليف سامر رضوان وإخراج أحمد إبراهيم وإنتاج مؤسسة (قبنض) للإنتاج والتوزيع الفني، حتى إن الإشراف العام على المسلسل هو لـ محمد قبنض شخصياً "عضو مجلس الشعب" وصاحب نظرية "الطبل والزمر" في الإعلام!
بعض الحوارات في المسلسلات تختزل ثيمة العمل ككل، بل وقد تشرح ثيمات أعمال أخرى، أعمال نقف أمامها عاجزين عن تفسير سماح الرقابة لها بالمرور، في هذا المسلسل تحديداً هناك حوارات من هذا النوع، حوارات تختزل ثيمة أغلب الأعمال الناقدة وحتى تلك التي يتبجح بعض القائمين عليها بتصنيفها أعمال معارِضة للنظام الحاكم، ومن بين تلك الحوارات حين يقول أبو طارق مساعد الضابط عامر الذي يلعب دوره الفنان هشام كفارنة: "أنا خدمت مع ضباط كبار، كبار لدرجة تحس أنهم ماسكين البلد، ومو سائلين عن حدا؛ لكن لما تصل قصصهم للي فوق، بيوقعوا ويصيروا مثل الأرانب، وكل القوة اللي بنوها بعشرين أو خمس وعشرين سنة تنهار بيوم أو بساعة وحدة".
يضحك عامر ويقول: "لك هدول اللي فوق".
فيتابع أبو طارق: "لا سيدي، هدول تحت.. لأن اللي فوق بتهمهم مصلحة البلد، وإنو البلد يبقى نظيف، مشان يحسوا إنو قدموا له شي، وصدقني صاحبك المسؤول هذا إذا وصلت قصصه إلهم، أقل تقدير ما رح يظل محله". فيرد عامر منفعلاً: "يا أبو طارق، إذا في عشرة نظاف فوق، في خمسين وسخ تحت".
ويختم أبو طارق: "بيظل النظاف أقوى سيدي حتى لو كان عددهم قليل وبكرى الأيام بتفرجيك".
بهذا الحوار البسيط تتلخص رسالة العمل ككل، وتأتي خاتمته لتعبر بوضوح عن أن كلام "أبو طارق" هو الصحيح، وبأن (اللي فوق) عندما علموا بأفعال الفاسدين قاموا بتحقيق العدالة.
وبحسب عبارة أبو طارق: "هنّ عشرين أو خمسة وعشرين سنة"، يبدو أن (اللي فوق) لا يشعرون بفساد الفاسد إلا بعد فترة زمنية طويلة كهذه.
"دقيقة صمت".. شبيح على غرار روبن هود!
يقول عابد فهد: "هذا العمل لازم يتصور في سوريا لأنها الجغرافيا الطبيعية للمشروع، في سوريا هناك تسهيلات لكل شركات الإنتاج".
قصة مسلسل "دقيقة صمت" لا تخرج من إطار الأهداف السابقة، فهناك صراع بين كتلتين من المسؤولين، فاسدة ممثلة بفريق "العميد عصام"، ونزيهة ممثلة بفريق "نشأت الوزان". وبالتأكيد القيادة لا تعلم بفساد الفريق الأول الذي يقوم بتنفيذ حكم الإعدام لموقوفين خلال فترة التحقيق وقبل أن يفتحوا ملفات الفريق الفاسد!
كل ذلك يتم لأن "إلّي فوق نظاف" ولا يقبلون بالفساد كما يقول أبو طارق في لعنة الطين.
فالافتراض الخفي الذي يصل من خلال المسلسل، أن هناك مسؤولين كباراً يتورطون في عمليات فساد لكنهم صغار عندما يُكتَشفوا من قبل (إلّي فوق) رمز النزاهة والطهارة.
يضاف لنظرية "اللي فوق نظاف" هذه المرة عملية تسويق شخصية الشبّيح بأبهى صورها، تَمثّل ذلك بشخصية "أمير ناصر"، القاتل والخارج عن القانون، لكنه بالوقت ذاته فارس شجاع لا يخلو من بعض الطيش، يصطدم برئيس المخفر "ممثل القانون الشرعي" ويقتل أبناءه انتقاماً منه، فهو القاضي والمحامي وأداة تنفيذ الحكم. يطبق قوانينه بنفسه، فهو يأخذ حقوق الضعفاء من الأقوياء ويتقاضى بعض الأجور على هذه الأعمال الخيرية، إنه روبن هود بنسخة شبّيح بامتياز.
"غزلان في غابة الذئاب".. القيادة التي لا ترى
على الرغم من الفظاعات التي يرتكبها سامر ابن الوزير" قصي خولي" بسيف والده الوزير "خالد تاجا" فإن الحلقات الأخيرة من مسلسل "غزلان في غابة الذئاب" تبين أن والد سامر لا يعلم بشيء عن الثروة التي جمعها ابنه المدلل، لدرجة أنه منع عنه سيارات المرافقة؛ ليجيبه أحد الحراس بأنّ السيد سامر لا يستخدم سيارات الوزارة إنما يستخدم سياراته الشخصية.
الوزير كان نظيفاً كما يريد أن يقنعنا أرباب العمل، ليس هذا فحسب، وإنما يخاف أيضاً من مُساءلة القيادة، ودائماً يتخوف من عقاب القيادة التي "لا ترضى بالفساد". حتى المحقق لم يستطع أن يحقق مع السيد الوزير، لفرط نزاهته واستقامته فهو لم تسجل بحقه حتى مخالفة السير!
"الولادة من الخاصرة"
هذا المسلسل، وإن كان أكثر جرأة من المسلسلات السابقة، إلا أنه لا يقترب من مقام الرئاسة، لا من قريب ولا من بعيد، ويركز على أخطاء الناس بالتوازي مع أخطاء النظام، وبذلك يحاول إمساك العصا من الوسط، طمعاً بإرضاء الطرفين.
ومن الطريف أن العمل يلفت النظر إلى وجود ضباط نزيهين يحاولون تنظيف البلد من (الإرهابيين)، الذين جاؤوا لتنفيذ مخططات "المؤامرة الكونية". ولعل المقدم فايز "ماهر صليبي" واحد من هؤلاء، فتارةً يكتشف سرقات مساعد الإطعام، وتارةً يتعامل برقي مع أهالي البيوت التي يفتّشها العناصر، ليُقتَل هذا الضابط النادر من قبل أحد عناصره المنشقين والذي يدين له بالولاء بسبب مواقفه العادلة في تصديه للظلم.
كل ما سبق لا ينفي ولا يثبت الوطنية عن أي ممثل أو كاتب أو مخرج سواء كان خيارهم السياسي مع النظام أو مع الثورة، وإنما يؤكد حقيقة أن الأعمال الدرامية التي تمر من بوابة شركات الإنتاج السورية لها مواصفات محددة وثابتة، إنها خطوط حمراء بعدم المساس بـ "الذات الرئاسية اللي فوق" وعدم توجيه أي انتقاد لها.
والفنان السوري، موالياً كان أم معارضاً، يبحث عن مصلحته بالدرجة الأولى. فالثورة وكل مؤسساتها على مدى عشر سنوات لم تؤسس لشركة إنتاج واحدة؛ لذلك فإن السواد الأعظم من الفنانين(الموالين) يراعون مصالحهم، والغالبية العظمى من الفنانين الذين أيدوا الثورة لا يعملون؛ أي أن مصالحهم توقفت بناءً على موقفهم الأخلاقي مما يجري في سوريا.
لذلك من المفيد للمجتمع السوري في الدولة السورية المنشودة أن تؤسس شركات إنتاج فنية مستقلة، فالمشكلة ليست بالممثل ولا بالكاتب ولا بالمخرج السوري، وإنما بالخطوط الحمراء لشركات الإنتاج المملوكة لعائلات مافيا الاقتصاد في سوريا.