فرضت جائحة كورونا على العالم أنماطاً وآليات حياتية جديدة تجاوزت جميع التصورات، وانعكست تداعياتها على كل الأصعدة، الصحية، والاجتماعية، والتعليمية، والاقتصادية، والسياسية، والإنسانية.
اليوم ثمة حدث جلل يهدد العملية التعليمية وينذر بأزمة كارثية لن نبالغ إذا قلنا بأنها ربما تكون الأخطر في زماننا المعاصر.
فحتى 28 من آذار 2020، تسببت جائحة كورونا (COVID-19) في انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل وشاب عن التعليم في 161 بلداً، أي ما يقرب من 80% من الطلاب الملتحقين بالمدارس على مستوى العالم.
في مختلف حالات الشتات واللجوء المحيطة بملف تعليم الطلبة السوريين، والمثال هنا يتناول الحالة في تركيا؛ نجد أن درجة الصعوبة والمعوقات تتضاعف عمّا هي موجودة لدى الشعوب المقيمة والمستقرّة داخل بلدانها الأصلية.
وكغالبية دول وبلدان العالم، طبّقت الحكومة التركية على طلبة مدارسها وجامعاتها آلية "التعلّم عن بعد" كبديل عن التعليم التقليدي المباشر، بهدف تحقيق ما يمكن من تحصيل دراسي.
والسؤال هنا: ما مدى تأثير هذه الآلية على الطلاب السوريين في تركيا؟
لمحة عامة عن ملف التعليم السوري في تركيا
مع انطلاق العملية التعليمية الخاصة بالعام الدراسي الجديد (2020- 2021)، يكون برنامج دمج الطلبة السوريين بالمنهاج الوطني التركي (PIKTES)، قد طُبّق بالكامل، ولتطوى الصفحة الأخيرة لـ "مراكز التعليم المؤقت" التي أشرفت على تدريس المنهاج السوري المعدّل لنحو تسع سنوات.
شاهد: للسوريين في تركيا: خطة من الحكومة التركية لدمج الطلاب السوريين
انطلق برنامج "الدمج" منتصف العام الدراسي 2015- 2016، فكانت البداية مع نقل جميع التلاميذ السوريين من الصفّين الأول والخامس في "المراكز المؤقتة"، إلى نفس صفوفهم ولكن في المدارس التركية ودراسة المنهاج التركي.
وفي السنة اللاحقة تم دمج صفوف أخرى في التعليم التركي، وصولاً إلى العام الدراسي المنصرم الذي شهد دمج آخر صفوف المراكز المؤقتة والمنهاج السوري.
المعلمون السوريون الذين ارتبط وجودهم بوجود الطلبة السوريين في المراكز المؤقتة (بصفة متطوعين)، كذلك جرت عملية دمجهم في المدارس التركية بالتزامن مع دمج الطلاب، ويتقاضون رواتب شهرية رمزية (بدل تطوّع) مقدّمة من منظمة "اليونسيف" التابعة للأمم المتحدة.
جزء من أولئك المعلمين تم توزيعه على مدارس (إمام وخطيب) لتدريس طلبتها مبادئ اللغة العربية للطلبة الأتراك؛ والجزء الأكبر وِزّع على عموم المدارس التركية بصفة "موجهين تربويين" للطلبة السوريين المدمجين داخلها.
وتجاوز عدد الطلاب السوريين المسجّلين فى تركيا المليون، منهم نحو 685 ألف طالب في المدارس التركية من جميع الصفوف، ويقدّر عدد المتسربين بنحو 318 ألفاً، وطلاب الجامعة والمعاهد نحو 25 ألفاً.
أما كادر المعلمين الموزّعين على المدارس فيقدّر عددهم بنحو 13 ألف مدرّس في عموم ولايات تركيا.
في ظل الدمج وقيود كورونا.. هل يفيد السوريين "التعلّمُ عن بعد"؟
يشكل عامل اللغة التركية عائقاً رئيساً في حياة الطلاب التعليمية، الكبار قبل الصغار منهم، فغالباً ما يستهلك منهم شهوراً طويلة من المخالطة والحوارات المباشرة مع أقرانهم من أبناء البلد، لتخطّي هذا الحاجز التعليمي/ الاجتماعي.
"التباعد الاجتماعي" للحدّ من عدوى الفيروس، والانقطاع الذي فرضه كورونا ليس عن الحياة التعليمية فحسب، بل عن أبسط وسائل وآليات التعلّم التقليدية التي اعتاد عليها الطلاب، والمتمثلة بالبناء المدرسي والغرف الصفية ووسائل الإيضاح، والأهم من كل هذا وذاك المعلّم.
"راغب أحمد بكريش" مدرّس مادة رياضيات، وأحد المعلمين في المراكز السورية المؤقتة قبل الدمج ويواصل التعليم حالياً ضمن معاهد خاصة ومنصات تعليم إلكتروني.
يقول بكريش لموقع تلفزيون سوريا: "كمدرس، كنت مسؤولاً عن تدريس نحو 100 طالب ثانوي في المعهد، اضطررنا لإكمال العام الدراسي معهم (أونلاين) بمختلف أنواعه خلال الشهور الخمسة الماضية، وقبلها عشتُ تجربة أبنائي في المرحلة الابتدائية، كوليّ أمر، في العام الماضي".
وبعد مقارنة أجراها بين الآليتين، توصّل بكريش إلى نتيجة مفادها، بحسب قوله "التعليم عن بعد مفيد جدًا للطلاب في المراحل الثانوية، وتنخفض الفائدة تدريجيًا مع انخفاض سن الطالب".
ويضيف "مع الصفوف الابتدائية يصبح الأسلوب مرهقًا جدًا وقد تنخفض فعاليته لأقل من النصف".
ولكن، ماذا نقصد بـ"التعلّم عن بعد"، وما أنواعه؟
من المتعارف عليه أن "التعلّم/ التعليم عن بعد" أو "التعلّم الإلكتروني" أو الـ (أونلاين) أو "الافتراضي" أو " التعليم غير المباشر" أو "التعليم المفتوح" تشير جميعها إلى المعنى نفسه.
شاهد: التعليم عن بعد للسوريين في تركيا الإيجابيات والسلبيات
وبحسب إحدى المنصات، فإن التعليم عن بُعد أو ما يُعرف بـ Distance Learning أو Internet-Based Learning، يُقصد به استخدام وسائل الاتّصال والتكنولوجيا الحديثة في نقل العلوم والمعارف من مصادرها الأصليّة وذلك بحسب أماكن وجودها في العالم إلى أماكن أخرى والتي لا تتوافر فيها هذه العلوم.
بينما نجد لهذا التعريف إضافات كثيرة أخرى كأن يكون "نظام تعليم يقدم فرصاً تعليمية وتدريبية إلى المتعلم، دون إشراف مباشر من المعلم، وغير ملزم بوقت ومكان محددين، ويعتبر بديلاً للتعليم التقليدي أو مكملاً له، ويتم تحت إشراف مؤسسة تعليمية مسؤولة عن إعداد المواد التعليمية والأدوات اللازمة للتعلم الفردي".
أما بكريش فيرى أن التعليم عن بعد أشمل من التعليم الإلكتروني، فالتعليم عن بعد يضم التعليم الإلكتروني إضافة للتعلم عبر الراديو والتلفزيون والمراسلة، كما أنه مختلف عن "التعليم الذاتي "، فالتعليم الذاتي لا يوجد معلّم يرافق الطالب، بينما في التعليم عن بعد يوجد معلّم يرشد الطالب، أما التعليم الإلكتروني فهو الشكل الأكثر حداثة للتعليم عن بعد ويعتمد على الإنترنت بشكل رئيس وينقسم بدوره إلى قسمين: التعليم المتزامن والتعليم غير المتزامن، المتزامن يعني البث المباشر والحوار الحي بين الطالب والمدرّس، أما التعليم غير المتزامن فيعتمد على المواد المسجلة.
الواقع المقلق والمستقبل الغامض
تسلّط الإعلامية "هالة القدسي" الضوء على العلاقة الثنائية بين الطالب وأسرته من جهة، وبين التعليم عن بعد من الجهة الأخرى، فتقول لموقع تلفزيون سوريا: "لدي ابنٌ في الصف الخامس وآخر في الثامن، والمرحلتان حساستان جداً بالنسبة للطالب في تركيا، فالخامس يعتبر بداية المرحلة الإعدادية والثامن يعتبر بوابة الدخول إلى المرحلة الثانوية".
وتتابع القدسي "بصرف النظر عن أصولنا السورية، إلا أن أبنائي منذ البداية يدرسون في مدارس تركية ويعاملون معاملة الأتراك تماماً، وما سأتكلم عليه ينطبق على السوريين والأتراك على حدّ سواء".
لاحظت القدسي أن الملاحظات الموجّهة نحو آلية التعلّم عن بعد، واحدة. وذلك من خلال متابعتها غرفة "الواتسآب" الخاصة بأولياء أمور الطلاب في مدرسة ابنيها.
"الأطفال يتابعون الدروس الإلكترونية وكأنهم يتابعون أفلام الكرتون أو أي مسلسل آخر" تقول القدسي وتستطرد "بالإضافة إلى عدم تمكنهم من كتابة كل ما تقوله المعلّمة نتيجة السرعة في التكلّم".
ثم تعدد الملاحظات، وجميعها سلبية بحسب رأي القدسي وبقية أولياء الأمور الأتراك والسوريين، وتوجزها بالتالي:
- حجم المعلومات المستفادة لا تتجاوز 20%.
- عدم ضمان متابعة الأبناء للدرس على منصة التعليم الإلكتروني "البارحة دخلت الغرفة فوجدت ابني ممسكاً بالهاتف المحمول دون متابعة الدرس على الجهاز اللوحي".
- الطلاب فقدوا شعورهم بالمسؤولية والالتزام تجاه الدراسة، لفقدان المتابعة في عمليات الحفظ وكتابة الوظائف، التي كانت تقع سابقاً على عاتق المعلّم في المدرسة.
- بعض الأسر تضطر للاستعانة بمدرّسي الخصوصي، "لكني مع كثير من أولياء الأمور لا يمكننا دفع 100 ليرة تركية لقاء درس خصوصي واحد".
- وكذلك توجد مدارس خاصة (الدولية) وقد فتحت أبوابها، ولكن أقساطها مرتفعة جداً أيضاً.
- "ابني الثاني (الصف الثامن) ينتظره امتحان تقرير المصير (LGS) الذي سيحدد له نوع المدرسة التي سيدرس فيها مرحلة الثانوية (العلمية أو الشرعية أو الصناعية..إلخ)، ولا يمكن بحال من الأحوال الاعتماد على هذه الدروس، ولكن ليس باليد حيلة" بحسب تعبير القدسي.
- في حال استمرار التعليم بهذه الطريقة نشعر بأنه مضيعة للوقت لا أكثر.
وكانت وزارة التعليم الوطني التركية قد أوقفت دوام الطلبة في المدارس، منذ منتصف شهر آذار الماضي، ولجأت إلى آلية التعلّم عن بعد عبر منصّة خاصة بها (EBA) حيث يمكن لمختلف طلاب المدارس الحكومية الدخول إلى صفوفهم الافتراضية عبر أسمائهم وكلمات سر خاصة بهم.
ومن جهته يعلّق المدرّس بكريش قائلاً "الطلاب الصغار بالذات، يصعب عليهم التركيز مع المدرس لفترة طويلة، فجوّ البيت الذي اعتاده الطفل يشكل مصدر إلهاء بدءًا من صوت جرس الباب وحتى صوت طرق الملاعق، بخلاف المدرسة التي لا يرى فيها الطفل إلا ما يكرّس جوّ الدراسة ويشجع عليه".
ويتابع واصفاً العقبات التي تجعل من التعليم الإلكتروني صعباً على طلاب تلك الفئة العمرية، فيرى أن "الغالبية العظمى من الناس لا تملك غرفًا مستقلة يمكن استخدامها كغرفة للدراسة، بل يجلس الطفل في صالون البيت أو غرفة النوم أحياناً، زد على ذلك لا يمكنه إدارة الأجهزة دون مساعدة الكبار من حيث الاتصال بالإنترنت أو فتح الكاميرا والمايكرفون أو تحميل ملف ما أو الضغط على رابط".
وبالمقابل يشير بكريش إلى الفائدة التي يشكلها التعليم عن بعد بالنسبة لطلبة الثانوي والمراحل الجامعية، فيرى أنه "فرصة لتوفير وقت وكلفة المواصلات أولًا وفرصة لحضور الدروس مباشرةً وإعادتها لأنّ غالبية إن لم يكن كلّ الدروس سواء الرسمية المقدمة من وزارة التربية أو الخاصة تُعرض مباشرةً ويُعاد بثّها أو تُحفظ بشكل كامل لإتاحة إعادة مشاهدتها متى يشاء الطالب، ما يعني تقريبًا الاستغناء عن الدروس الخصوصية الإضافية".
وكشف بكريش عن وجود كثير من المنصات التي توفّر ميزات ترفع من فعالية تعليم الـ (أونلاين) لتتجاوز التعليم التقليدي، منها ما يقدّم حلولاً من خلال بنوك أسئلة، ونظام فهرسة متطوّر يتيح الوصول لأي سؤال من بين عشرات آلاف الأسئلة بثوان قليلة.
ويلفت إلى أن اختبارات الـ (أونلاين) أهم وأفضل من التقليدية أحياناً كثيرة، فهي "تتيح إعادة الامتحانات بشكل غير محدود كما تضع بين يدي الطالب امتحانات من مختلف المستويات وبتفريعات كثيرة متنوعة" بحسب بكريش الذي يضيف "مثل هذه الميزات لم نكن نحلم بها في التعليم التقليدي".
تجربة "التعليم عن بعد" أزالت الفوارق بين الذكور والإناث، بل وزادت عليها!
الأبحاث حول فوائد وقدرات التعليم الإلكتروني ما تزال قليلة في هذا الميدان، كونه جاء طارئاً نتيجة كورونا. لكن وبصورة عامة، جاءت النتائج بعكس ما كان متوقّعًا من التعليم الإلكتروني، فقد ظهرت فروقات في نواح كثيرة، بحسب بكريش الذي أوجزها من خلال تجربة أجراها في التعليم الإلكتروني بما يلي:
- منذ شهرين أجرينا دورة كانت بمثابة تجربة لقدرات منصتنا ولقياس تقبل الطلاب لهذا النمط، حيث لم تكن إكمالًا لدروسٍ بشكل اضطراري كما حدث في شهر آذار، فانتسب للدورة حوالي 150 طالباً، تبيّن أن أكثر من ثلثيهم من الفتيات.
- كانت رسوم الدورة اختيارية، فأتحنا للطلاب الانتساب للدورة مقابل أي مبلغ يختارونه بحسب قدرتهم، فكان معدّل دفع الفتيات أعلى من معدّل دفع الفتيان أيضاً، ولوحظ اهتمام بالغ من أهاليهن لمتابعة دراستهن إذا ما نظرنا إلى قيمة المبالغ التي دفعوها.
- الطلاب كانوا جميعًا من المقيمين في تركيا، أي أنّ الإنترنت متوفر بجودة عالية وبأسعار جيدة.
فالنتيجة أنّ التعليم الإلكتروني قلص الفجوة بين الذكور والإناث وبين القادرين على التعلم وغير القادرين بسبب التكاليف أو بسبب الوقت، ففي حين لا توجد مدارس ليلية كانت دروس (الأونلاين) مسائية.
المشكلة بالمدرّسين قبل كلّ شيء!
يتّفق كلّ من هالة القدسي وراغب بكريش في أن التعليم الإلكتروني يناسب أبناء الفئة العمرية الكبيرة نسبياً (الثانوي وما فوق)، وكلما كان أصغر فيجب الاعتماد على التعليم العادي، في حال كان متاحًا.
ويشير بكريش إلى مسألة "في غاية الأهمية" بحسب تعبيره، وتتعلّق بأن "الأطفال يسمعون آباءهم ويتخذون مواقف مسبقة بناءً على كلام الآباء، فالطفل مثلاً يسمع أباه يشتم التعليم الإلكتروني، فيكرهه قبل أن يجربه".
العالم يتغيّر في ظلّ كورونا، والواقع الجديد سيفرض نفسه على الشعوب عموماً شاءت أم أبت.
ويرى بكريش بأن "رفض الأمر لن يغيّر شيئًا، وعلينا عدم تضييع الوقت في الانتظار أو الندب والشتم والتنديد".
ويكشف بأن "العقبة الأكبر تتجسّد بالمدرسين أنفسهم، فهم كانوا أشدّ المتعصّبين لنمط التعليم المدرسي التقليدي".
ويرى بكريش أن المستقبل القريب سيتّصف بـ "نمط تعليم هجين يجمع بين التقليدي والأونلاين، ولم تكن جائحة كوفيد سوى دفعة بسيطة سرّعت في عملية التحوّل" بحسب وصفه.