بعد مرور اثني عشر عاما على طرد النظام السوري من الجامعة العربية من جراء القمع الوحشي للمظاهرات المنادية بالديمقراطية، عاد بشار الأسد بكل "وقاحة" إلى تلك الساحة الإقليمية.
وخلال القمة العربية، هاجم الأسد الفكر العثماني بشدة، في انتقاد ضمني للسياسة الخارجية التركية في ظل رئاسة رجب طيب أردوغان، وفي ذلك الخطاب دندنة تطرب آذان بعض الدول، وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات، كونها تدندن حول وقوفهم ضد "التوسع التركي" والإخوان المسلمين.
في الوقت الذي يمكن اعتبار هذه الحركة المحسوبة بمنزلة محاولة لرسم توجهات جديدة لسوريا وجيرانها، نكتشف عند البحث عن قرب في الواقعية السياسية بأن هذه السردية ذات الأوجه العديدة تتجاوز خطاب الهيمنة والتضامن العربي.
الأسباب الثنائية والإقليمية والدولية لإعادة تأهيل الأسد
لم تأت حالة ذوبان جليد العلاقات مع الأسد كحالة مفردة، ولم تكن قراراً اتخذ ببساطة، لأن الدوافع لذلك كثيرة وتندرج ضمن مستويات عديدة، تتفاوت ما بين مخاوف تعتري العلاقات الثنائية وصولاً إلى العلاقات الدولية، فالدول لا تبحث عن إصلاح ذات البين مع الأسد فحسب، إنما تسعى لإعادة التموضع وسط الرمال المتحركة التي تنتاب السياسة في الشرق الأوسط.
إذ على مستوى العلاقات الثنائية، تسعى السعودية للحد من تمادي إيران في توسيع نفوذها، واللعبة لن تنته بوضع النفوذ العسكري الإيراني تحت السيطرة، بل أيضاً بالقضاء على تجارة الكبتاغون التي انتشرت وتوسعت، بعدما وصلت إلى مستويات قياسية في الشرق الأوسط بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، بما أن سوريا تمثل جوهر هذه المشكلة. وبالمقابل، تسعى مصر للحفاظ على مكانتها السيادية بين العرب في وجه مد القوى غير العربية، وعلى رأسها تركيا وإيران وروسيا.
تهدف تركيا، التي تحولت إلى لاعب أساسي في السياسة المتقلبة للمنطقة، للتوصل إلى حل بالنسبة لترحيل اللاجئين السوريين ولمنع مخططات حزب العمال الكردستاني وذراعه السوري، وهنا يظهر تحالف جديد على خلفية التقاء تلك المصالح المختلفة.
إذ على الصعيد الإقليمي، تسبب التقارب الواسع مع سوريا إلى تراجع النفوذ التركي فيها، ومعَ تغيير دول الخليج لموقفها تجاه إيران مع تطبيعها للعلاقات مع سوريا، ظهرت تطورات مقلقة بالنسبة لعناصر فاعلة مثل الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، وذلك لأن تغيير الآليات يعني بالنسبة لتركيا بأنها لم تعد قادرة على ممارسة النفوذ الذي كانت تمارسه في السابق.
أما على المستوى الدولي، فالوضع أشد تعقيداً مع مواصلة الولايات المتحدة التقليل من نفوذها في المنطقة، وذلك عبر الحد من وجودها العسكري بمعظمه هناك في الوقت الراهن، وفي تلك الأثناء تتقدم كل من روسيا والصين لتملأ كل منهما الفراغ الحاصل، مما يزيد من نفوذهما ويساعدهما على إعادة رسم الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط. وعليه، أخذ حلفاء الولايات المتحدة يحددون مواقفهم ومواضعهم بكل براعة انتظاراً للتغيرات المقبلة.
أربع موجات تطبيع في الشرق الأوسط
يمكن تقسيم التاريخ الحديث للشرق الأوسط إلى أربع موجات للتطبيع، أولها تلك الموجة التي شهدت تكاتف الدول العربية وتوحدها لتحقيق غاية مشتركة وهي تصحيح حالة التشظي التي عانت منها المنطقة منذ أمد بعيد. وقد ظهرت حقبة التقارب بين الدول العربية في منطقة الخليج، عندما انتقلت السعودية وقطر على سبيل المثال إلى مرحلة الحوار والدبلوماسية.
في حين شهدت الموجة الثانية من التطبيع تقارب الدول العربية مع إسرائيل، وفي ذلك تحول كبير تمثل بالاتفاقيات "الإبراهيمية"، التي تمثل ميثاقاً يحض على البراغماتية للتغلب على التحامل، ولقد أحدثت تلك الاتفاقيات تغيراً كبيراً في المشهد الجيوسياسي في المنطقة، حيث أعادت رسم التحالفات والانفتاح على احتمالات التعاون على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
في الموجة الثالثة للتطبيع، رأينا دولاً عربية تتعامل مع أعدائها في المنطقة، أي إيران وتركيا، ويعتبر التطبيع بين السعودية وإيران وكذلك المصالحة بين تركيا ودول الخليج مثالاً فاقعاً على ذلك، ومع أن هذه الموجة ماتزال في طور الطفولة، إلا أن أحداً لا يمكن أن ينكر قدرتها على إعادة رسم شكل العلاقات في المنطقة.
تمثل الموجة الرابعة للتطبيع التي ظهرت في الوقت الراهن محاولة العالم العربي لإعادة دمج سوريا، ويمكن أن تعتبر عودة الأسد للجامعة العربية بمنزلة تتويج لموجات التطبيع الأربع، كونها تمثل اعترافاً ضمنياً بعدم القدرة على حل مشكلات سوريا دون وجود سوريا على الطاولة.
مشكلة الاستعانة بالدبلوماسية لدعم فصائل المعارضة
رحب الغرب بخطوة طرد الأسد من الجامعة العربية قبل أكثر من عقد من الزمان بوصفها خطوة حاسمة ترمز لنزع الشرعية عن حكم الأسد وتسعى لدعم المعارضة، إلا أن تلك الخطوة لم تحقق شيئاً يذكر بالنسبة للمعارضة السورية، وذلك لأن الطرد لم يسهل أمور المعارضة أو يخلق حالة توازن في القوة لمصلحتها.
أتى قرار الجامعة العربية تبعاً للاستراتيجية الغربية التي اعترفت بقوى المعارضة بوصفها الممثل الشرعي للشعب السوري، في خطوة مشابهة لما اتخذ تجاه فنزويلا عند دعم زعيم معارضتها، خوان غوايدو.
محاكمة الشرعية: سوريا وفنزويلا
لم يكن الاعتراف بالمعارضة مجرد اعتراف رمزي، وذلك لأن الغرب أراد أن يرسل للعالم رسالة مفادها بأن فصائل المعارضة هي الممثل الحقيقي للشعب، حتى وإن لم تكن تحكم على الأرض، فكانت تلك فكرة رائعة لكنها خيالية، كونها فشلت في كل من فنزويلا وسوريا، ولكن ما العيب الأساسي فيها؟ إنها الفرضية التي تعتبر بأن فصائل المعارضة لابد وأن تتمسك بالشرعية الديمقراطية تلقائياً، إذ تبين بأنها لم تفعل، ثم إن الواقع معقد، فالحكومات قد تكون غير شرعية، وتتجاوز إرادة شعبها، لكنها لن تقوم بتسليم الشرعية لمناوئيها بصورة تلقائية.
والأدهى من ذلك هو أن سياسة الغرب القائمة على الاعتراف بفصائل المعارضة بوصفها الممثل الشرعي للشعب شابتها بعض التناقضات، وذلك لأنه ليس كل فصيل معارض في العالم يحظى بالقدر ذاته من القبول، أي أن عملية الاعتراف قائمة على مبدأ انتقائي متحيز ومتناقض بشكل واضح في بعض الأحيان. إذ على سبيل المثال، اعترف الغرب بسرعة بمظلة سوريا للمعارضة بنهاية عام 2011، وفي تناقض صارخ، لم تحظ الإدارة الذاتية في شمال غربي سوريا باعتراف أميركي حتى الآن، على الرغم من أنها حليف عسكري مهم للولايات المتحدة في محاربة تنظيم الدولة، كما تم تغييب هذه الجماعة عن المحافل الدولية التي تناقش مستقبل سوريا بكل وضوح.
بالنسبة للحالة السورية:
بدأ اعتراف الغرب بالمعارضة السورية منذ بدايات الحرب في سوريا، إذ في آب 2011، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على النظام السوري وأعلنت أمام الملأ بأن بشار الأسد فقد شرعيته. ولم يمض وقت طويل حتى اتخذت خطوة فعلية أقوى في تشرين الثاني من عام 2012، وفي الوقت ذاته، تشكل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وبعد ذلك بفترة بسيطة اعترفت كثير من الدول الغربية بهذا الكيان السياسي.
وفي 13 من تشرين الثاني 2012، أصبحت فرنسا أول دول غربية تعترف رسمياً بالائتلاف بوصفه الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري، وتبعتها غيرها من الدول الغربية خلال الأشهر التي أعقبت ذلك. وبنهاية عام 2012، اعترفت الولايات المتحدة بالائتلاف، وكذلك فعلت المملكة المتحدة، وإيطاليا، وألمانيا، وغيرها من الدول الغربية التي تجاوز عددها العشرين. وعلى الرغم من ذلك، حاول الائتلاف الوطني جاهداً أن يخلق سيطرة له على الأرض، إلا أن حكومة الأسد استأثرت وحدها بالسلطة.
بالنسبة لحالة فنزويلا:
تعبر الأزمة في فنزويلا عن مثال واضح آخر حول اعتراف الغرب بالمعارضة كممثل شرعي للشعب، فالانتخابات الرئاسية التي زعم نيكولاس مادورو بأنه فاز فيها في عام 2018 إلا أن الدول الغربية رأت أنه فاز بالغش، ما خلق نزاعاً حول تلك الانتخابات.
ثم أعلن زعيم المعارضة غوايدو بأنه أصبح الرئيس المؤقت للبلاد في 23 من كانون الثاني 2019، في خطوة اعترفت بها الولايات المتحدة وكندا سريعاً، وخلال الشهر الذي أعقب ذلك اعترفت معظم الدول الأوروبية بغوايدو كرئيس مؤقت، ما زاد عدد الدول الغربية المعترفة به ليصل إلى أكثر من 25 دولة.
إلا أن مادورو بقي متمسكاً بالسلطة بدعم من الجيش وحلفائه في روسيا والصين، وعانت حكومة غوايدو المؤقتة وهي تحاول أن تحدث تغييراً ملموساً على الأرض، فعاشت بذلك ما عاشته المعارضة السورية.
يتضح من خلال كلتا الحالتين بأن الاعتماد على الدبلوماسية كأداة لدعم المعارضة وإسقاط أنظمة الحكم المعادية قد أثبت فشله، وذلك لأن محاولات إسقاط الشرعية عن الأسد ساهمت في ذيوع صيته بين الناس بوصفه حصناً حصيناً ضد أي تدخل، وبذلك تحول ما رآه البعض في البداية كضربة قاضية إلى خطأ في الحسابات.
ينبغي لهذه المقاربة المأزومة أن تتحول لحالة تستحق الدراسة بالنسبة لحركات المقاومة والمعارضة في مختلف أصقاع العالم، كونها توضح حدود الدبلوماسية الأجنبية وتأثيراتها على النزاعات الداخلية، والدرس الأهم الذي يجب تعلمه هنا من كل ذلك هو أنه ينبغي على فصائل المعارضة أن تعطي الأولوية لتوازن القوى وللصراع الذي يدور في الداخل، لا للاعتماد بشكل أساسي على الدعم الأجنبي أو الاعتراف من الخارج.
التقدم الغربي في سوريا
عند العودة بالذاكرة إلى الخلف، يتضح لنا بشكل مؤلم بأن التدخل الأجنبي لم يحقق النتائج المرجوة منه في سوريا، إلا أن نموذج شمال شرقي سوريا يمثل المنطقة الوحيدة التي حقق فيها التدخل شيئاً من النجاح، على الرغم من أن السجل الغربي هناك لم يكن ناصع البياض.
ومن خلال هذا السيناريو المتقلب، نكتشف بأنه ينبغي على الغرب إعادة تقييم مقاربته ونهجه، فالهدف هو دمج وترسيخ مواقعه في شمال شرقي سوريا، تلك المنطقة التي كانت معقلاً لتنظيم الدولة في يوم من الأيام، كما يجب أن يحدث تغييراً كاملاً، إذ يجب أن يتطور التعاون العسكري الذي ظهر في البداية ضد تنظيم الدولة إلى تحالف سياسي دائم، وفي ذلك مهمة لا يكلف بها ضعاف القلوب، بيد أن المكاسب السياسية ستكون كبيرة في حال تم رسم حدود نفوذ جديدة في هذه المنطقة.
والمرحلة التي ستأتي منطقياً عقب ذلك تتمثل بضمان موافقة تركيا على ضم الأراضي الواقعة في الشمال للأراضي الموجودة في شمال شرقي سوريا، وهنا ما علينا إلا أن نفكر بزواج مصلحة دبلوماسي يبدأ بعلاقات تجارية وتعاون، وهذا ليس ضرباً من الخيال، بل ضرورة ملحة تتمثل بترسيخ السلطة في شمال شرقي سوريا وإنشاء كيان جيوسياسي جديد، وهو الهلال التركي-الكردي- العربي، وذلك لأن هذا التكتل بوسعه أن يقف في وجه بقية القوى الإقليمية.
يكمن أصل جميع علل الشرق الأوسط المزمنة بتشتت سياسة واشنطن حيال سوريا والمنطقة ككل إلى جانب تناقضها في كثير من الأحيان، وفي ذلك قصة نفوذ يخبو ويتراجع، ووعود يفشل من يطلقها بتحقيقها. إلا أن الدروس المستفادة واضحة: ألا وهي ضرورة وجود سياسة متماسكة والقيام بعمل حقيقي لاستعادة النفوذ على تلك الساحة.